تذكير في المقالة السابقة حاولت أن أعرض بإيجاز لما أعتبره موادَّ أساسيةً لتعبيد الطريق إلى طاولةِ التحاور بين الإسلاميين واليساريين، وأراه من شروط انطلاق هذا الحوار ولوازم نجاحه. كما حاولت أن أنبه إلى بعض العوائق والمزالق والعقليات والسلوكات، التي يمكن-إن جاءت من هذا الطرف أو ذاك من أطراف الحوار- أن تنتهي بالحوار إلى الفشل، فالرجوعِ إلى وضعية الفرقة والتشرذم والتصارع. وقد ذَكرتُ في هذه المقالة ثلاثا من القضايا، التي أقدّر أن لها أهميةً كبرى ومحوريةً في الحوار بين الطرفين، وهي، على التوالي: قضيةُ الدين والدولة، وقضيةُ النظام الملكي، وقضيةُ الديمقراطية والحريات. وقد تحدثت في الفقرة الأخيرة من المقالة السابقة عن القضية الأولى، وفي هذه المقالة تتمةُ الحديث. قضية النظام الملكي لقد كان الاختلافُ حول هذه القضية من الأسباب الرئيسية التي أدت إلى تشتّت صفوف حركة 20 فبراير، التي انتهت، بعد انسحاب جماعة العدل والإحسان، إلى الرقود والخمول والذبول، وإن كان الماسكون بزِمامها اليومَ ما يزالون يراهنون ويطمعون ويأملون أن يتمَ بعثُها من مرقدها، لتعودَ لحيويتها الأولى مناضلةً ثوريةً جماهيريةً رائدةً. والمعارضون للدولة المخزنية، في قضية النظام الملكي، فريقان، أحدُهما معارض ثوري راديكالي، لا يقنع، إديولوجيّا، بأقلَّ من زوال النظام الملكي جملة وتفصيلا، وهؤلاء فيهم اليساري والإسلامي، لكن خطابهم السياسي الرسمي، في تصريحاتهم وبياناتهم ومواقفِ قادتهم المعلنة، يغلبُ عليه الغموضُ والروغانُ والتخفّي وراء العبارات المُلتَبِسة المُوحية السّاكتةِ الناطقةِ. والفريق الثاني معارضٌ إصلاحيٌّ، له رؤية واضحة في الموضوع، حيث نجده يحصر مطلبَه في سقف (الملكية البرلمانية)، حيث الملك يسود ولا يحكم. ويمثِّلُ هذا الفريقَ أحسنَ تمثيل الحزبُ الاشتراكيُّ الموحد، ومعه شركاؤه في (تحالف اليسار الديمقراطي)، وتنظيماتٌ أخرى وشخصياتٌ لها وزنٌ معتَبر في صفوف معارضي الدولة المخزنية. الحوار بين الإسلاميين واليساريين حول هذا الموضوع إنما هو، في الحقيقة، حوارٌ حصْريٌّ بين جماعة العدل والإحسان، التي تمثل فريق الرافضين للنظام الملكي، حسب ما هو مُبيَّنٌ ومنشور في أدبياتها السياسية، المستمَدَّةِ من اجتهادِ مرشدها الأستاذ عبد السلام ياسين، رحمه الله، وبين فريق المناضلين من أجل ملكية برلمانية طريقا وسطا بين الملكية التنفيذية الاستبدادية وبين الثورية الراديكالية الساعية لزوال الملكية. الملكيون البرلمانيّون-كما هو مُبَيَّن في وثائقَ مرجعيةٍ صادرةٍ عن الحزب الاشتراكي الموحد- يرون أن لا مستقبلَ للملكية إلا بتبنّيها للديمقراطية الحقيقية، التي تكون فيها السيادةُ للشعب يمارس من خلالها حريتَه في اختيار ممثليه في البرلمان والحكومة، على أن تكون للشعب دائما، بواسطة انتخابات دورية نزيهة، الكلمةُ الفصل فيمن يتولّى أمرَه. ولن تكون هناك ديمقراطيةٌ حقيقية وسيادةٌ شعبية كاملةٌ إلا بنظام برلماني يسود فيه الملك ولا يحكم، أيْ أن يرفعَ الملكُ يدَه عن شؤون الدولة التنفيذية، وأن يحتفظَ بصلاحيات سيادية وسلطات رمزية، لا يتدخل في برامج الحكومة وسياساتها وقراراتها وسائر شؤونها، إلا في حدود ما ينص عليه الدستورُ وتبينه القوانينُ بيانا لا يترك فجوات للغموض والتأويل وتداخل السلطات واختلاط الصلاحيات. أما جماعةُ العدل والإحسان، فهي مُطوَّقة بميراث اجتهاد مرشدِها السياسيِّ، لا تنفك عنه ولا تبغي عنه بديلا؛ ميراث هو المبدأ والمعاد في منهاجها السياسي: النظامُ الملكي نظام جبريٌّ مُدان دينيا وسياسيا، ولا طريقَ إلى الخلافة الثانية الموعودة إلا بزوال هذا النظام. رُفعت الأقلام وجفّت الصُّحف. هذا هو الاختيار الإديولوجي التي يعبّر عنه فكرُ الجماعة المنشور بكل وضوح. فهل هناك من ملتقى بين الفريقين/الأطروحتين؟ هل يمكن أن يتم التغاضي عن هذا الموضوع/القضية في الحوار الذي يمكن أن يجمع، اليوم أو غدا، بين الطرفين؟ هل يجوز في حقّ هذا القضية-التي لا يناقش أحد في أهميَّتِها وجوهريَّتِها في حياتنا السياسية-السكوتُ والإرجاءُ والتسويف؟ ماذا يقصد قياديّون على رأس الجماعة حينما يُسألون اليومَ عن موقفهم من النظام الملكي، فيجيبون، مثلا-كما جاء في جوابٍ للأمين العام للجماعة في حواره مع جريدة (المساء)(عدد يومي16 و17 مارس2013) ب"أن ما يهمنا أساسا هو أن يكون نظامُ الحكم قائما على العدل والشورى، والرشد والحق والقانون، والكرامة الإنسانية، والتداول الحقيقي على السلطة، واحترام إرادة الشعب، ثُمَّ فليسمِّه الناسُ ما شاءوا، فالعبرةُ ليست بالمصطلحات، وإنما العبرة بالمضمون."؟ "فليسمِّه الناسُ ما شاءوا"! ظاهرُ مثلِ هذا الكلامِ يجعلنا نفهم أن هؤلاء القياديِّين يقصدون أن العبرةَ بالمضمون وليست بالتسمية، وكأنهم يريدون أن يقولوا، على خلاف ما هو مسطَّر في منهاجهم السياسي، إنهم مع بقاء النظام الملكي-التسميّة والاصطلاح- إن أمكن ضمانُ إصلاحٍ حقيقي للحياة السياسية في اتجاه نظام ديمقراطي عادل لا تشوبه شائبة من استبداد أو فساد، لأنه هو المضمون والجوهر المطلوب. هذا مدخلٌ من المداخل الممكنة للحوار بين الإسلاميين الثوريين واليساريين الإصلاحيين في موضوع النظام الملكي. ألا يمكن أن يؤديَ هذا البابُ المفتوحُ في خطاب قيادة جماعة العدل والإحسان إلى تغيير أو تعديل أو تهذيب في إديولوجيتها الصارمة القاطعة الرافضة؟ في اعتقادي أن الواقع السياسيَّ لا بدّ أن يفرضَ على الناس-إن كانوا، إيمانا وفعلا، يقدّمون المصلحةَ الوطنية العامة على المصلحة الحزبية الخاصة-أن يتخلّصوا من لباسهم الإديولوجي الخشن، وأن يبتعدوا عن لغة اليقينيّات والحتميّات، التي سادت الخطابات الثوريةَ في الماضي، وأن ينظروا بعيدا بمنظار السياسة وما تفرضه من جلبٍ للمصالح ودرء للمفاسد، وما تستدعيه من وجوب سدِّ الذرائع إلى اشتعال الفتن وشيوع المنكرات واختلاط الحق بالباطل، وأن يناقشوا ويقوّمُوا ويرجّحوا ويوازنوا، ثُمّ تكون عندهم الشجاعةُ ليقرّروا ويختارُوا، وهم المسؤولون، أمام الله، أولا، ثم أمام التاريخ ثانيا، عما يمكن أن يترتب على قرارهم واختيارهم من مواقفَ وأحداثٍ وسياساتٍ، في هذا الاتجاه أو ذاك، نحوَ التقدم والبناء والتصالح والتعايش والتعاون، أو نحو التمزق والتخاصم والتنابذ والخراب. قلت وأكرر أن الذهابَ إلى طاولة الحوار بعُدّة الإديولوجيا لا يمكن أن ينتهيَ بالناس إلى طائل. وإنما الطائلُ النافعُ يكون في الحوار السياسي المسؤول، الذي يبحث عن ملتقَيَات التوافق والتعايش والتراضي، والذي يبْغِي البناءَ والتعاون والنجاح في بلورة "ميثاق" أو "مذكرة تفاهم" أو "مرجعية مشتركة"، أو "برنامج حدٍّ أدنى"، أو غير هذه من الأشكال والصيغ التي يغلب فيها الأملُ على اليأس، ويطغى فيها النورُ على الظلام. قضية الديمقراطية والحريات وهي القضية الثالثة التي أقدّر أنها ستفرضُ نفسها فرضا في الحوار المُفترض أن يجريَ في المستقبل-وقد يكون قريبا- بين الإسلاميين واليساريين. كان اليساريون يروّجون-وما يزال كثيرٌ منهم يفعلُ-أن الإسلاميين-بلا استثناء ولا تمييز- إنما اختاروا طريقَ الديمقراطية مكْرَهِين، وهم يقبلون بها ريثما يصلون إلى الحكم. فإذا تم لهم هذا انقلبوا عليها، وعادوا بنا إلى الديكتاتورية، وإلى خنق الأنفاس، وسلب الحقوق، وتقييد الحريات. وفي المقابل، فإن من الإسلاميين-ولهم أدلّتُهم ومستنداتُهم من تجارب الواقع- من لا يرى في اليساريِّين إلا أنهم إقصائيون لاديمقراطيون، هدفُهم أن يفرضوا علمانيَّتَهم المتطرفة الظالمةَ على المسلمين بكل أشكال العسف والكيد والعنف، بواسطة "ديمقراطية" معلولة هجينة مفصَّلَة على مقاسهم، لا يرون الإسلاميين مؤهلين لدخول ناديها. التنابذ والتنابز والتراشق بالعيوب وبالاتهامات سلوكٌ يكرّس حزازات النفوس، ويعمق آثار العداوات، ويغذي أسباب المواجهات والصراعات والتطاحنات. هذا المنطق العدائيُّ في الحجاج والمناقشة يقتل الحوارَ قبل أن يتَخَلَّق. إن التشبّث بالصورة النمطية التي يرسمها كلُّ طرف عن صاحبه-اليساريون عن الإسلاميين، والإسلاميون عن اليساريين-يعني أن لا أمل في حوار جاد وبناء بين الغريمين، وإنما التخلصُ من هذه الصورة النمطية المشينة من الجانبين شرطٌ ضروري لبدايةٍ صحيحة يمكن أن تنتهيَ إلى بناء جسر أو جسور للتلاقي والتواصل والتعاون. الكلام في موضوع الديمقراطية والحريات حديثٌ ذو شجون، وخاصة في بلادنا الواقعة في أسر الاستبداد والاستعباد منذ قرون. وتزداد شجونُ هذا الحديث وتشابُكاتُه وتشعّباتُه إن كان المتحادِثُون ينتمون إلى مرجعيات مختلفة تصل، في بعض الأحيان، إلى حد التناقض والتنافي. الإسلاميون واليساريون متحادثان يقفان على أرضيَّتَيْن بينهما تبايُنَاتٌ وتناقضاتٌ كثيرةٌ، إديولوجيّا وسياسيّا، وأقصى ما يُطلب إليهما، إنْ هما نجحا في تخطي الحواجز ووَصَلَا إلى طاولة الحوار، أن يخففا من هذه التباينات والتناقضات إلى الحدّ الأدنى، وأن يَبْنِيا أساسا قويا للتصالح والتعايش والتنافس، يسدُّ جميع المنافذ إلى الاصطدام والاصطراع والاقتتال. فالأوضاعُ السياسيّة الجديدة التي أسفرَت عنها ثوراتُ "الربيع العربي" في بعض البلدان العربية الإسلامية، أبانت عن فجوات بعيدة تفصل بين الإسلاميين واليساريين، وخاصة في مضمار التعامل مع شؤون الدولة وتدبيرِ المرحلة الانتقالية حتى يتم إقرارُ دستور وطني ديمقراطي ينظم الحياةَ السياسية بما يضمن التنافسَ الشريف على السلطة، ويكرس السِّلْمَ الاجتماعيَّ هدفا تتعاون كلُّ مكونات الساحة من أجل بلوغه والحفاظ عليه. هلِ الديمقراطيّةُ مُعتَبَرَةٌ بما ينتِج عنها من أغلبية تحكم وأقلية تعارض، أم أن الأغلبيةَ مطالبةٌ لزوما أن تُرضيَ الأقليةَ في كل صغيرة وكبيرة، وألاّ تُبرم أمرا من أمور الحكم إلا بضوء أخضرَ منها، وألاّ تسير في طريق تنفيذِ برنامجها إلا بإجازة منها؟ ماذا يبقى من الديمقراطية إن أصبحت الأغلبيةُ لا تعني امتلاكَ السلطة وممارسَتَها، طبعا في إطار ما هو دستوري وقانوني؟ ماذا يبقى من هذه الديمقراطية إن أصبحت الأغلبية لا تملك حريةَ التصرف والاجتهاد والقرار من أجل الوفاء بما وعَدَت به؟ المتحاوران، الإسلاميُّ واليساريُّ، يحتاجان إلى أن يضعا النقط على الحروف في شأن مقصودهم من الديمقراطية ولوازمها وشروط صحتها، وقبولِ نتائجها وما يترتّب على هذه النتائجِ من مسؤولياتٍ وواجباتٍ على الجميع، الفائزين والخاسرين. إذا اختار الناس، مثلا، في انتخابات نزيهة، حكومةً من هذا الاتجاه أو ذاك، ثم قامت هذه الحكومة، في إطار مسؤولياتها وصلاحياتها وسلطاتها، بوضع مشروع قانون يجرّم، فعلا من الأفعال، كالمجاهرة بسبّ اسم الجلالة(الله)، مثلا، فماذا في هذا السلوك الحكومي من عيب حتى يقوم الناس برفضه وإدانته واتهامه بأنه مسٌّ بحقوق الإنسان، وبأنه قمع للحريات؟ للأقلية أن تعترضَ وأن ترفض وأن تنتقد، فهذا حقها الذي يكفله لها الدستور الديمقراطي، ويحميه القانون العادل الذي يتساوى الجميع أمامه، لكن، في المقابل، عليها أن تقبل بوضعها على أنها أقلية، لا تملك أن تفرض رأيها على أنه هو القانون الذي ينبغي أن يطبق. فاتهامُ الحكومة بناء على نصٍّ دستوريٍّ واضحٍ، واستنادا إلى قانون لا لَبْسَ فيه، قد يكون مقبولا ومفهوما ومعقولا؛ فمثلا، في المثالِ الذي افترضته قبل قليل، إن كان هناك نصٌّ من الدستور أو القانون، يعبر بوضوح لا سبيل معه إلى اختلافٍ في الفهم وتعددٍ في التأويل، أن المجاهرةَ بسبّ اسم الجلالة(الله) فعلٌ معدود في حريات المواطنين وحقوقهم المحفوظة، وأنه سلوك مدني عادي، فإن مبادرة الحكومة بتجريم هذا السلوك، في هذه الحالة، ستكون مخالفةً للدستور أو القانون، ومن ثَمَّ فهي مرفوضةٌ بنصّ القانون وقوته، وعلى الحكومة، كيفما كان لونُها، أن تتقيَّد وتمتَثِل. هذا المثالُ الذي مثّلت به ينبهنا إلى مشكل كبير ومزمن في حياتنا السياسية، يتعلق بفهمنا للديمقراطية وممارستنا للحريات. منْ يضعُ القانون، وكيفَ، وبأيّة سلطة، وبأية مرجعية؟ لا شك أن القانون، في الدنيا كلّها، إنما هو معبّر عن الإرادة الجماعية للأمة/الشعب، وعاكِسٌ لما هو مشترك وغالب في ثقافة هذه الأمة ومعتقداتها وتقاليدها وأعرافها وغيرِ ذلك مما هو مِيسَمُها وميزةُ هويّتها. فأين هو، مثلا، الإسلامُ، دينُ غالبية الشعب، في وضعِ القوانين؟ ألاَ يستحق دينُ الغالبية أن يكون، على الأقل، من بين المرجعيات التي يُحتكَم إليها في سنّ القوانين ورسم السياسات؟ هل هناك من مبرر قويٍّ وواضح ومعقول للمناداة بإبعاد المرجعية الإسلامية عن شؤون الدولة السياسية والقانونية والاقتصادية؟ هل ما يسميه البعضُ ب"المرجعية الكونية" للحقوق والحريات حقيقةٌ أم ادعاء؟ أين هي السيادة الوطنيةُ والمرجعية الشعبيةُ بإزاء هذه المرجعية الكونية؟ وكيف تكونت هذه المرجعيةُ الكونية حتى أصبحت قدَرا مفروضا على الشعوب؟ وأين تلتقي المرجعيةُ الكونية والمرجعية الوطنيةُ، وأين يفترقان، أم أنه الخضوعُ المطلق من هذه لتلك؟ هل الديمقراطيّةُ معتَبَرَةٌ بخلفيةٍ لادينيةٍ لازمةٍ، أم بتكيّفِها مع معتقداتِ الديمقراطيين/المواطنين وأخلاقِهم وشريعةِ دينهم؟ وحريّةُ المرأة، ما طبيعتُها، وما حدودها، وما مداها؟ وحريّةُ الشواذ، وحرّيةُ المجاهرة بالإلحاد والدعوةِ إليه، ما مكانها في مجتمع مسلم؟ وحريّةُ الفنان؟ وحرية الكاتب؟ وحرية الإعلام؟ وحرية الشباب؟ وحريّة النشر؟ وحرية التجمع؟ باختصار، الحرياتُ الفردية والجماعية، بِمَ، وكيفَ، وبأيّةِ معاييرَ، نميز فيها بين ما هو حقٌّ مكفول وبين ما هو ادّعاءٌ مرفوض؟ وهل للمجتمعِ، في هويته ومعتقداته وسائرِ مقدساته الجماعية، حقوقٌ على أفراده، أم أنها الفوضى وشريعةُ الغاب، ولأيٍّ كان أن يتصرف بهواه، لا يَزَعُه وازع من دين ولا مجتمع ولا سلطان؟ إن حديثَ الديمقراطية والحريات، كما قلت، حديث ذو شجون. ومعالجةُ عَوِيصَات هذا الموضوع ومُعَقَّدَاته، والخوضُ في مخاضاته وتشعّباته، يحتاج من المتحاورين، في تقديري، صبرا جميلا، وبعدا في النظر، وسعةً في الأفق. إن اختلاف الإسلاميين واليساريين في المرجعية الأساس، في المرجعية الأمّ، قد أثار، ويثير، وسيظل يثير، كثيرا من النقاشات والتفاعلات والتصادمات. وإذا اختار الناسُ طريق الحوار للمعالجة والتفاهم والتقارب، فإنهم، في اعتقادي، واصلون، عاجلا أم آجلا، إلى نوع من الاتفاق على حدّ أدنى من التفاهم يوفر عليهم طاقاتٍ هائلةً وزمنا ثمينا، ويجعلهم يوَجِّهون جهودهم وقوَّتهم وأنشطتَهم نحو المستقبل. لقد أشرت في المقالة السابقة إلى نموذج ائتلاف الترويكا الحاكم في تونس اليوم، وإلى الخلفية الحوارية التي كانت وراءه، والتي مثلتها (هيئة18 أكتوبر للحقوق والحريات/2005) وما نتج عنها من توافقات وتفاهمات ومواثيق. طبعا، أنا لا أدعو إلى استنساخ هذا النموذجِ التونسيِّ، أو غيره من النماذج، التي يُقدِّرُ المُقَدِّرون أنها نماذجُ تمثل نسبةً من النجاح في تجاوز مراحل الضيق والحرج والعواصف والاضطرابات، وخاصة في مجتمعات كمجتمعاتنا التي عانت زمنا طويلا تحت نير كل أصناف القهر والقمع والظلم والاستبداد، والتي ما زالت آثار هذه المعاناة الطويلة تسومها ما تطيق وما لا تطيق. إن رحلة الحوار بين الإسلاميين واليساريين هي، أساسا، الخطوةُ الأولى، إن كانت في الطريق الصحيح، وفي الاتجاه الصحيح، بعزيمة وإرادة وهمّة تطبع سلوك السائرين، وتحدوهم في مختلف محطات المسير. وآخر دعوانا أن الحمد رب العالمين.