المشاركون في مؤتمر التحالف من أجل الحكم الذاتي في الصحراء يقومون بزيارة لميناء الداخلة الأطلسي    عبد النباوي: العقوبات البديلة علامة فارقة في مسار السياسة الجنائية بالمغرب    نجاح باهر للنسخة الثامنة من كأس الغولف للصحافيين الرياضيين الاستمرارية عنوان الثقة والمصداقية لتظاهرة تراهن على التكوين والتعريف بالمؤهلات الرياضية والسياحية لمدينة أكادير    الاستيلاء على سيارة شرطي وسرقة سلاحه الوظيفي على يد مخمورين يستنفر الأجهزة الأمنية    كأس أمم إفريقيا لأقل من 20 سنة.. وهبي: "أشبال الأطلس" يطموحون للذهاب بعيدا في هذا العرس الكروي    مأسسة الحوار وزيادة الأجور .. مطالب تجمع النقابات عشية "عيد الشغل"    تجار السمك بالجملة بميناء الحسيمة ينددون بالتهميش ويطالبون بالتحقيق في تدبير عقارات الميناء    موتسيبي: اختيار لقجع قناعة راسخة    سلطات سوريا تلتزم بحماية الدروز    القصر الكبير.. شرطي متقاعد يضع حداً لحياته داخل منزله    بورصة الدار البيضاء تنهي تداولاتها على وقع الأخضر    نشرة إنذارية: زخات رعدية قوية ورياح عاتية مرتقبة بعدد من مناطق المملكة    المغرب يتلقّى دعوة لحضور القمة العربية في العراق    الدولي المغربي طارق تيسودالي ضمن المرشحين لنيل جائزة أفضل لاعب في الدوري الاماراتي لشهر أبريل    تأخيرات الرحلات الجوية.. قيوح يعزو 88% من الحالات لعوامل مرتبطة بمطارات المصدر    الإنتاج في الصناعات التحويلية.. ارتفاع طفيف في الأسعار خلال مارس الماضي    المغرب يواجه حالة جوية مضطربة.. زخات رعدية وهبات رياح قوية    مُدان بسنتين نافذتين.. استئنافية طنجة تؤجل محاكمة مناهض التطبيع رضوان القسطيط    الشخصية التاريخية: رمزية نظام    فلسفة جاك مونو بين صدفة الحرية والضرورة الطبيعية    هذه كتبي .. هذه اعترافاتي    وزارة الأوقاف تحذر من الإعلانات المضللة بشأن تأشيرات الحج    العراق ولا شيء آخر على الإطلاق    المغرب ينخرط في تحالف استراتيجي لمواجهة التغيرات المناخية    إلباييس.. المغرب زود إسبانيا ب 5 في المائة من حاجياتها في أزمة الكهرباء    مسؤول أممي: غزة في أخطر مراحل أزمتها الإنسانية والمجاعة قرار إسرائيلي    تجديد المكتب المحلي للحزب بمدينة عين العودة    الصين تعزز مكانتها في التجارة العالمية: حجم التبادل التجاري يتجاوز 43 تريليون يوان في عام 2024    انطلاق حملة تحرير الملك العام وسط المدينة استعدادا لصيف سياحي منظم وآمن    الحكومة تلتزم برفع متوسط أجور موظفي القطاع العام إلى 10.100 درهم بحلول سنة 2026    العلاقة الإسبانية المغربية: تاريخ مشترك وتطلعات للمستقبل    الإمارات تحبط تمرير أسلحة للسودان    كيم جونغ يأمر بتسريع التسلح النووي    ندوة وطنية … الصين بعيون مغربية قراءات في نصوص رحلية مغربية معاصرة إلى الصين    رحلة فنية بين طنجة وغرناطة .. "كرسي الأندلس" يستعيد تجربة فورتوني    السجن النافذ لمسؤول جمعية رياضية تحرش بقاصر في الجديدة    ابن يحيى : التوجيهات السامية لجلالة الملك تضع الأسرة في قلب الإصلاحات الوطنية    فيلم "البوز".. عمل فني ينتقد الشهرة الزائفة على "السوشل ميديا"    المغرب يروّج لفرص الاستثمار في الأقاليم الجنوبية خلال معرض "إنوفيشن زيرو" بلندن    تقرير: 17% فقط من الموظفين المغاربة منخرطون فعليا في أعمالهم.. و68% يبحثون عن وظائف جديدة    مارك كارني يتعهد الانتصار على واشنطن بعد فوزه في الانتخابات الكندية    مهرجان هوا بياو السينمائي يحتفي بروائع الشاشة الصينية ويكرّم ألمع النجوم    إيقاف روديغر ست مباريات وفاسكيز مباراتين وإلغاء البطاقة الحمراء لبيلينغهام    جسور النجاح: احتفاءً بقصص نجاح المغاربة الأمريكيين وإحياءً لمرور 247 عاماً على الصداقة المغربية الأمريكية    دوري أبطال أوروبا (ذهاب نصف النهاية): باريس سان جرمان يعود بفوز ثمين من ميدان أرسنال    الأهلي يقصي الهلال ويتأهل إلى نهائي كأس دوري أبطال آسيا للنخبة    مؤسسة شعيب الصديقي الدكالي تمنح جائزة عبد الرحمن الصديقي الدكالي للقدس    نجاح اشغال المؤتمر الاول للاعلام الرياضي بمراكش. .تكريم بدرالدين الإدريسي وعبد الرحمن الضريس    حقن العين بجزيئات الذهب النانوية قد ينقذ الملايين من فقدان البصر    اختبار بسيط للعين يكشف احتمالات الإصابة بانفصام الشخصية    دراسة: المضادات الحيوية تزيد مخاطر الحساسية والربو لدى الأطفال    دراسة: متلازمة التمثيل الغذائي ترفع خطر الإصابة بالخرف المبكر    اختيار نوع الولادة: حرية قرار أم ضغوط مخفية؟    التدين المزيف: حين يتحول الإيمان إلى سلعة    مصل يقتل ب40 طعنة على يد آخر قبيل صلاة الجمعة بفرنسا    كردية أشجع من دول عربية 3من3    وداعًا الأستاذ محمد الأشرافي إلى الأبد    قصة الخطاب القرآني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مِن قضايا الحوار بين الإسلاميِّين والعلمانيِّين(1/2)
نشر في هسبريس يوم 05 - 04 - 2013


الطريق إلى طاولة التعارف والتواصل والتحاور
في المقالة السابقة (المعارضون للمخزن؛ معوّقات التقارب والتحاور والتحالف) حاولت أن أرصد أهم المُعوّقات التي تحول دون بدء حوار حقيقيٍّ، جادّ ومسؤول، بين مكونات المعارضين للدولة المخزنية، يُفضي إلى تقارب وتواصل بين هذه المكونات، وإلى تَسَالُمٍ بينهم، على الأقل، إن تعذَّر التعاونُ والتحالفُ.
فهؤلاء المعارضون اليوم، وأخُصُّ منهم الإسلاميين واليساريين، مشتتون ومنقسمون ومتنافرون ومتضاربون، كلٌّ يدعو إلى سِربه غيرَ معتَدٍّ بالآخر ولا معتَبِرٍ له، إلا في عبارات محتشمة في خطابات يغلب عليها الإديولوجي الحزبي الأناني المفرِّق.
لنفْترِضْ أن المعارضين للمخزن تعَافَوْا من العلل والتشوهات والعاهات السياسيّة التي أورثتهم إياها عهودُ العسف والطغيان، وباتوا أحسن حالا، وباتت أحزابُهم ومنظماتُهم وجماعاتُهم أقربَ إلى أن تكون كياناتٍ طبيعيةً سليمةً مؤهَّلةً أن تتجالسَ وتتقارب وتتعارف وتتفاهم، من غير أدنى إحساس بالتعالي على الآخر أو نفيه وإقصائه، وأصبح من همِّهم السياسيِّ أن يسعوا لتوحيد جهودهم، وأن يركزوا رمْيهم، وأن يتعاونوا ويتحالفوا ويتَراصُّوا في مواجهة خصمهم وعدوهم.
لنَفْترِضْ أن المعارضين للمخزن أصبحوا وقد انقشعت عنهم غشاواتُ التعصب والتكبّر والأحلام والمثاليّات، فصاروا أقرب إلى الواقعية السياسية والاعتدال الإديولوجي والتحلي بالأخلاق العالية والروح الرياضية في محاورة الخصم ومنافسته ومدافعته، والاستعداد للرضا والقبول والترزّن مهما تكن نهايةُ هذا الحوار، ومهما تكن نتائجُ هذه المنافسة والمدافعة.
أنا أفترِضُ حصولَ كلِّ هذا، وأنا واعٍ كلَّ الوعي بأن الطريق إليه كأداء ليس من السهل سلوكُها على أيٍّ كان، وإنما تَكَؤُدُ هذا الطريق يحتاجُ إلى رجال عقلاء فضلاء، من كلّ الأطراف، يمتازون بوعي وعلم وفهم ورؤيةٍ بعيدة وأخلاق شريفة، تجعلهم قادرين أن يستصلحوا الطريق ويمهِّدوه ويحوِّلوه من طريق ممتَنِع كؤود إلى طريق سالك ميسور.
لنفترضْ حصولَ كلِّ هذا، فإلى أين نحن واصلون؟
حول طاولة الحوار والنقاش
إن نجَح معارضو الدولة المخزنية- وأخُصُّ منهم في هذه المقالة الإسلاميِّين واليساريِّين، وإن كنت لا أنسى الفصائلَ الأخرى، لأني أقدِّرُ وزنَها وأهميتها وتأثيرها- في تخطي الحواجز النفسية، ونسيانِ-ولو مؤقتا- مراراتِ الماضي، المُفتَعَلَةِ في مُعظمها والمنفوخِ فيها أكثرَ من اللازم، وتقديمِ المصلحة العامة ومصلحة الوطن والشعب المُستَضْعَف على المصالح الذاتية والحزبية والإديولوجية، فإنهم سيجدون أنفسهم، لا محالة، حول طاولة واحدة، وجها لوجه، بإديولوجياتهم واختياراتهم وأفكارهم وانتقاداتهم ومشروعاتهم وآفاقهم وأحلامهم، يتحادثون ويتلاومون ويتناقدون ويتخالفون ويتوافقون ويتفاهمون ويتناقضون، وشيئا فشيئا، ولقاءً فلقاءً، وبعد جلسات معدودات-طبعا إن حسُنت النوايا وصدقَت الإرادات وقوِيَتِ العزائم- سيشْعُر المجتمعون المتواصلون بأنهم قد أصبحوا أناسا آخرين يختلفون كثيرا عما كانوا عليه في الماضي قبل أن يتقاربوا ويتجالسوا ويألَف بعضُهم بعضا، وإن كانوا مختلفين في كثير من الأمور إلى حدّ كبير.
فما يزال الإسلاميون واليساريون مختلفين منذ كان لهم خطابٌ سياسيّ. ولأنهم كانوا دائما في حرب ضروس لا تهدأ إلا لتبدأ بأشد وأشرس مما كانت عليه من قبل، ولأن كل الأسلحة في هذه الحرب الإديولوجية بين الطرفين كانت مباحة، ولأن المتحاربين كانوا يعتقدون اعتقادا جازما بأن حربهم هي حرب مقدسة، وأنها حرب وجود أو عدم، حرب حياة أو موت- ولأن الأمر كان كذلك، فإن وضوح الفكر والحجة والبرهان قد ضاع في دخان المعارك الطاحنة، فَسَادَ التجاهل والتناكر والتنافي بين الطرفين، تغذيه وترسخه لغةٌ الكراهية والبغضاء، وتملي له عقلية الكيد والمكر وحبّ الغلبة، وهو ما جعل الأفكار والتصورات والمعلومات والكتابات والمقالات التي يروجها كل طرف عن صاحبه مطبوعة بكثير من المغالطات والتحريفات والتشويهات، فضلا عن الأكاذيب والأباطيل والافتراءات التي تعتريها في بعض الأحيان.
التجالس حول طاولة واحدة يفترض بدايةً جديدة تُطلِّق الماضي البغيضَ بكل عيوبه وسلبياته، يسعى فيها المتحاوران إلى أن يتفاهما، وأن يتعارفا، وأن يتقاربا. وهذه البداية الجديدة المفترضة تقتضي وجودَ لغة جديدة للتواصل بين الطرفين، وقاموسٍ بمفردات ملؤها الاحترامُ والتقدير المتبادلان، وفكرٌ متفتح، يسمع ويعي ويتفهم ويُراجع وينتقد ويخاصم ويجادل ويحاجج، له من الصبر والآناة والرزانة ما يكفي لإنجاح التحاور، بتطويل زمنه، وإغناء مضامينه، وتنويع مسالكه، وتحديد أهدافه ومراميه.
أعتقد أن الإسلاميين واليساريين، بعد أن يطمئن بعضُهم إلى بعض حول طاولة الحوار، سيكون عليهم أن يعالجوا قضايا خلافيةً جذريّة ما تزال تجعلهم على طَرَفَيْ نَقيض، في المرجعية والرؤية والنظر إلى الآفاق والغايات، وفي الوسائل وطرق التناول والمعالجةِ لكثير من الموضوعات السياسية، التي كانت، وما تزال، مما يباعد بين الطرفين، ويجعل كلا منهما في توجس وريبة دائمين تجاه الآخر.
ثلاث قضايا أراها على رأس هذه القضايا الخلافية، وهي على الترتيب: قضية الدين والدولة، وقضية النظام الملكي، وقضية الديمقراطية والحريات. وسأحاول، فيما يلي، أن أقول كلمة مختَصَرَةً في كل قضية من القضايا الثلاث.
قضية الدين والدول
الإسلاميون يريدونها دولةً إسلامية، وهي "دولة القرآن"، أو "دولة الخلافة"، كما توصف في بعض أدبياتهم. واليساريون، على اختلاف فصائلهم وتياراتهم، يريدونها دولة علمانية، من أوصافهم لها أنها دولة ديمقراطية حداثية.
فهل هناك من وسط يلتقي عنده الاثنان، بعيدا عن الأوصاف الإديولوجية النظرية، وقريبا من المضامين السياسية الواقعية العملية؟
هل هناك، بعد الحوار، توافقٌ ممكن على صيغة مُرضِية للجميع، تضع حدا لزمن طويل من الصراعات الفكرية والإديولوجية، التي لم يَعُد لها معنى، والتي لن تنتهيَ بنا إلى شيء إن هي طالت واستمرت؟
في جملة، هل هناك، بعد حوار جاد ومسؤول، من سبيل إلى حلّ معقول ومقبول في هذه القضية، أم إنه التناقض والتباعدُ والتَّزَايُلُ إلى ما شاءَ اللهُ؟
الإسلاميون باتوا يتحدثون اليوم كثيرا، في خطاباتهم، عن مطالبتهم بالدولة المدنية، ويفسرون مقصودهم السياسي من استعمالهم لمفردات إسلامية كالخلافة، والشورى، والشريعة. فسيكون الحوار مناسبة لليساريين ليناقشوا غرماءهم الإسلاميين في مقصودهم بالدولة المدنية، وهل هناك من علاقة بين مدنِيَّة الدولةِ وقُرآنيّتِها في طرح الإسلاميين.
وبالمقابل، سيجد الإسلاميون في هذه الحوار الهادئ الرزين المسؤول فرصة ليسألوا اليساريين عن مفهومهم للعلمانية التي يطالبون بها، وخاصة وأن الناس اليوم باتوا مختلفين حول هذا المفهوم حتى في بلاد العلمانية الأمّ. ولهم أن يسألوهم أيضا عن المكانة التي يرونها للإسلام، دينِ الغالبية من الشعب، في دولتهم العلمانية المنشودة.
سيكون الحوار وسيلة فعّالة للتخلص من كثير من الغبَش التي يغلّف كثيرا من المفاهيم والمصطلحات، والذي يمنع الناس من الرؤية الواضحة.
ولا أشك أن المتحاورين، إن كانوا جادين ومتفائلين وعازمين على النجاح في حوارهم، سينتهون إلى إيجاد ملتقى للتوافق والتراضي بخصوص مفاهيم بعض الكلمات، وأيضا بخصوص ما يمكن أن يترتب على هذه المفاهيم من سلوكات ومؤسسات وممارسات على الأرض.
في هذه القضية(قضية الدين والدولة)، لا أرى أن من مقتضيات الحوار الموضوعي والحجاج السليم، أن يرفع اليساريون نماذجَ دولة (طالبان) أو دولة (إيران)، أو دولة (آل سعود) في وجه محاوريهم الإسلاميين، ليُحاجُّوهم ويقولوا لهم: هذا هو نموذج الدولة الذي تريدون أن تفرضوه علينا.
هذا النوع من السلوك ليس من الحوار الجادّ ولا النقاش الهادف الباني في شيء، لأنه سيرجع بالناس إلى ما قبل الجلوس للحوار، حيث كان التغليط والتخليط والتلفيق والتشويه من أدوات الحرب الإديولوجية الطاحنة بين الطرفين.
وكذلك ليس عندي من الحوار المطلوب في شيء أن يرفع الإسلاميون، من البداية، في وجه اليساريين ورقةَ الإسلام على أنه مرجعيّة الشعب التي لا نقاش فيها، وأن الحوار ينبغي أن يبدأ على هذا الأساس، أي أن الدولة المنشودة لا يمكن إلا أن تكون إسلامية.
مثلُ هذه المواجهات لا يمكن أن تؤديَ إلى طائل، بل إن الحوار معها مُنْتهٍ لا محالة، بعد لقاءات معدودات، إلى التنافي والتدابر والتعادي، أيْ إلى التشرذم والصراع والأجواء الوبيئة.
ليس من الحوار الجاد بين الطرفين طلبُ الغلبةِ الإديولوجية، والانتصار على الخصم بالزعيق وإثارةِ الجلبة والضوضاء، ولهذا وجب على الجميع أن يحتكموا للعقل والحجة الواضحة والمعلومات الصحيحة والبيان الذي هو ضد الغموض والتدليس.
والحقيقة المعروفة والمنشورة هي أن علماء المسلمين اليوم، وكذلك مفكروهم ومثقفوهم وسياسيوهم، لهم اجتهادات كثيرة في قضية الدين والدولة، بل منها اجتهادات متباعدة تصل إلى حد التناقض. فالرأي الإسلامي إذن ليس واحدا، وهذا ما ينبغي أن يكون حاضرا لدى اليساريين وهم يسعون لحوار جادّ مع الإسلاميين.
الاجتهاد الغالبُ اليوم في الفكر الإسلامي السياسي، وفي كتابات أعلام معاصرين مشهورين، ينتقد ولا يُقِرّ-بل من العلماء من يرفض ويُدين- النماذجَ التي تقترب، قليلا أو كثيرا، من دولة طالبان، السابقةِ في أفغانستان، أو دولةِ ولاية الفقيه الحاليةِ، في إيران، أو دولةِ العائلةِ السعوديّة في شبه الجزيرة العربية.
وكذلك التشبثُ بإسلامية الدولة بناءً على إسلام غالبيّة الشعبِ هو من معوّقات الحوار، وخاصة وأن عندنا، في البلاد العربية الإسلامية، دولا تنص دساتيرُها على أن دينها هو الإسلام، لكنها أبعدُ ما تكون عن روح الإسلام، نظاما وحكْما وسياسية وأخلاقا، بل إنا نجد معظمَ هذه الدول التي تتشبث بإسلاميّتها في الدستور من أشد الدول تعسفا وقهرا وسلبا للحقوق وقمعا للحريات وحمايةً للفساد وتكريسا للاستبداد.
أعتقد أن على المتحاورين الجادين أن يبتعدوا عن المزايدات والجدالات الإديولوجية العقيمة، وأن يذهبوا قصدا إلى صميم الموضوع، إلى بناءِ الثقة، أولا، ومد جسور التقارب والتفاهم والتعايش والتراضي والتواؤم.
لنأخذْ مثلا ما جرَى في تونس بعد ثورة الربيع العربي العظيمة.
فعندي أن من الحوارات حول قضية (الدين والدولة) بين الإسلاميين والعلمانيين، التي نجحت، إلى حد ما، في نزع فتيل الفتنة والفوضى والتقاتل، الحوارَ الذي كان بين معارضين لنظام الديكتاتور الهارب بنعلي، ينتمون لإديولوجيات مختلفة ومشارب متعددة، كان فيهم القومي والشيوعي والإسلامي والليبرالي والعلماني، كان فيهم التنظيماتُ المُطارَدة المحظورة، وفيهم الأحزابُ "القانونية" التي كان نظام بنعلي يعترف بها، في حدود إعطاءِ مصداقيةٍ لتعدديّةٍ شكليّةٍ دعائيّةٍ.
وبعد ثورة الربيع العربي الباهرة في تونس، شكّلت نتائج الحوار السابق بين فصائل المعارضين(هيئة 18أكتوبر للحقوق والحريات/2005) خلفيةً توافقية لبناء تقارب سياسي انتهى، بعد أول انتخابات حرة بعد سقوط الديكتاتورية(23 أكتوبر2011)، إلى تشكيل تحالف (الترويكا) الذي أمسك بزمام الحكم في البلاد، وهو ائتلاف من ثلاثة أحزاب: حزبُ (النهضة) الإسلامي، وحزب (المؤتمر من أجل الجمهورية) وحزب(التكتل الديمقراطي) المحسوبان على التنظيمات العلمانية. وهم اليوم، رغم ما يعترضهم من عراقيل وما يستشعرونه من تحديات، سائرون نحو الاتفاق على مشروع دستور يرضَى عنه الجميع، يُنظم الحياةَ السياسية على نحو يشعر فيه التونسيون جميعا بأنهم مواطنون على درجة واحدة في الحرية والكرامة والحقوق والأمن.
المتطرفون من الجانبين في تونس، من الإسلاميين والعلمانيين، لم يهضموا أن يحصل ما حصل بين النهضة وشركائها في الترويكا، ولم يكونوا يريدونها إلا حربا إديولوجية شعواءَ لا تُبقي ولا تذر، وهذا ما جعل التحالف الثلاثيَّ الحاكمَ يعاني كثيرا بإزاء العوائق الموضوعة في طريقه من كل نوع، وما تزال المعاناة مستمرةً، وما يزال ائتلافُ الترويكا صامدا في وجه عواصف التطرف الإديولوجي من كل الجهات.
إن منطق الإديولوجيا-دينية كانت أم فلسفية فكرية- ليس هو منطق السياسة، ولذلك كان الدخولُ إلى معالجة القضايا المتعلقة بشؤون الدولة من باب الإديولوجيا غالبا ما يؤدي إلى تمزق النسيج الاجتماعي، ومزيد من بؤر الاختلاف، ومزيد من أسباب التصارع والتطاحن. أما الدخولُ من باب السياسة، ومهما كان الاختلاف بين الناس، فإنه سيؤدي، وإن طال الوقت، إلى نوع من التوافق يحفظ على الوطن التئامَ شمله وتماسكَ لحمته، ويجنبه الوقوعَ في هاوية الخراب والدماء.
وهذا المنطق السياسي في التحاور والتحالف وتقديم مصلحة الوطن على المصالح الحزبية الإديولوجية هو الذي أخذت به مكونات الترويكا الحاكمة في تونس اليوم، وهو الذي تتشبث به حركةُ النهضة في مواجهة خصومها ومعارضيها من مختلف التيارات والمرجعيات.
ففي الكلمة التي ألقاها الشيخ راشد الغنوشي، يوم 29 مارس2013، في المؤتمر الدولي الثاني حول الديمقراطية، الذي نظمه (مركزُ دراسة الإسلام والديمقراطية) بتونس تحت شعار "الانتقالات الديمقراطية في العالم العربي؛ التجربة التونسية نموذجا"، نقرأ تأكيدا لهذا الاختيار السياسي الذي سارت فيه حركةُ النهضة في التعامل مع الشأن السياسي في البلاد؛ فالرهان على التعايش بين العلمانيين والإسلاميين، في إطار الترويكا-يقول رئيس الشيخ راشد- كان رهانا صعبا ومعقدا وصادقا. ومن الثوابت التي قام عليها الائتلاف الثلاثي ذَكَرَ الشيخ راشد "أنه لا تعارض بين الديمقراطية والإسلام"، و"أن وصول الإسلاميين للسلطة لا يعني أنهم سيبتلعون الدولة والمجتمع، وسيستحوذون على الثورة لأنهم الطرف الأكثر شعبية"، و"أن تحالف الإسلاميين والعلمانيين شرطٌ أساسيٌّ لإقامة مجتمع ديمقراطي حر، يعالج خلافاتِه، مهما بدت عميقة، بالحوار، والتوافق، والاحتكام لإرادة الناخبين، بعيدا عن منطق الإملاء والإقصاء...".
وأضاف رئيس النهضة في الكلمة نفسها أن "تونس في ظل حكومة الترويكا الأولى والثانية[يقصد حكومة حمادي الجبالي السابقة، وحكومة علي العريض الحالية] دولةٌ تحمي الحقّ في المواطنة لكل التونسيين، وتحافظ على حقوق المرأة، وهي متجذرة في قيّم الحداثة ، ومتمسكة بانفتاحها على العالم."
وفي حوار مع صحيفة (الشرق الأوسط)(21 مارس2013)، يؤكد الشيخُ راشد الغنوشي بعبارات واضحة أن "الترويكا ليس تحالفا إيديولوجيا، بل هو تحالف سياسي، وهو ضد الإيديولوجية. ولو نحن اخترنا الإيديولوجيا-يقول رئيس النهضة- لاخترنا الحكمَ وحدنا مع بعض المستقلين الذين يوافقوننا في الإيديولوجيا، بل اخترنا السياسةَ، أيْ نجاحَ التحول الديمقراطي في تونس بما يحقق أهداف الثورة، وبما يحقق المصلحةَ الوطنية، وبالتالي اخترنا الائتلافَ، وهو أصعب أنواع الحكم، لأنه هو الذي يحقق مصلحة الثورة والمصالح الوطنية، ويدرأ عن البلاد سيناريو الاستقطاب الإيديولوجي، لأنه في الاستقطاب الإيديولوجي تضيع السياسةُ، ويتحول البلد إلى معسكرين يستعدان للمواجهة...".
وبعد، فهذا النموذج التونسيّ هو مثالٌ من الحوارات الممكنة بين الإسلاميين واليساريين العلمانيين، وهي الحوارات التي يتخلى فيها المتحاورون، بجدية ومسؤولية، عن منطق (إما أبيض، وإما أسود)، (إما أنا، وإما الطوفان)، ويجتهدون لإيجاد أرضية تسَعُهم جميعا، للتعايش السلمي والتنافس الشريف.
تتمةُ الحديث في المقالة القادمة، إن شاء الله.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.