تطرقت في مقال سابق لأسطورة غياب الصراع الاجتماعي كما تتجلى في النشرات الإخبارية بالقناتين الأولى و الثانية في التلفزيون المغربي. و الواقع أن غياب الصراع الاجتماعي يتم الترويج له تصريحا أو تلميحا، سرا أو علانية في اغلب البرامج الحوارية و/ أو سياسية أو اجتماعية أو فنية...، بل و حتى في البرامج الوثائقية الواقعية أو التاريخية أو البيوغرافية. و للتدليل على ذلك، سأقف بإيجاز عند أربعة برامج تلفزيونية ذات مضامين اجتماعية و وثائقية واقعية. الخيط الأبيض ...اسر و حلول تسمح عينة صغيرة من حلقات " الخيط الأبيض" و " اسر و حلول" إلى ملاحظة الآليات المستترة التي تخفي كل أنواع الهيمنة و الظلم الاجتماعي مقابل التبئير على أبعادها الفردية و الفرجوية. هكذا، يتم تقديم المشاكل الأسرية و الاجتماعية من زاوية نظر فردية أو أخلاقية أو نفسية. فالمسؤول عن الوضع أو الحالة المطروحة إما أن يكون سوء تفاهم غير مقصود أو تصرف فردي مناف للأخلاق و العادات أو حتى للقانون أو " مريض نفسي" لم يستطع "التكيف" مع واقعه أو أسرته أو أبنائه،و قس على هذا المنوال. كما يتم عزل الظواهر و الحالات المقدمة عن أسباب تشكلها الاجتماعي، من خلال طمس أشكال الظلم و اللامساواة و عدم تكافؤ الفرص و الهيمنة التي تدفع الفئات المسحوقة دفعا إلى التخبط في أعطاب نفسية و اجتماعية لا أول لها و لا آخر( مشاكل ارث، زوجة "هاربة"، أب "غير مسؤول"، إخوة متخاصمون...).من ثمة، تتحول بعض الحلقات إلى " فراجة" و "شو" لمشاهدة "المطبخ العائلي"، أكثر مما تكون فرصة للاستفادة من تحليل اجتماعي أو نفسي أو استشارة قانونية حول الظاهرة أو الحالة المعروضة. في " الخيط الأبيض" يتولى كل فريق تقديم روايته عن أصل النزاع أو الشقاق أو الفراق.يتوارى العالم المحيط بالزوجين أو الأسرتين أو الإخوة، الخ، حتى يصير الوضع معزولا و مجثتا من جذوره الاجتماعية و الثقافية و الاقتصادية. بالمقابل، غالبا ما يتحمل الطرفان أو احدهما المسؤولية عن الوضع، مهما بلغت درجة تعقيده و تعدد أبعاده و أسباب نزوله.تتولى منشطة البرنامج طرح الأسئلة التفصيلية و تتبع دقائق الأمور في رواية كل طرف، حيث تحضر المآخدات و الانتقادات و العتاب و تقديم المطالب ( صلح، حق في ارث، معلومة شخصية أساسية..).كما تساهم الروبورتاجات التي تؤثث البرنامج في التبئير المكثف على الما هو فردي أو عائلي من منظور ضيق يغيب العالم الاجتماعي و المحيط السوسيوقتصادي و الأصول الإيديولوجية المتحكمة أحيانا في المشكل أو الحالة. و هذا ما تساهم الحلول العلاجية النفسية في تكريسه، حيت لا تضع اليد على الأصول الاجتماعية و الإيديولوجية التي تساهم في الإكثار من مثل تلك النزاعات.و لأمر ما تكون الحالات التي يعرض لها" الخيط الأبيض" و" أسر و حلول" غالبا من أوساط شعبية و فئات مستضعفة. و لأمر ما لا نرى أثرا للفئات المهيمنة اقتصاديا و اجتماعيا و إيديولوجيا في البرنامجين، ما دامت تحل نزاعاتها بخيوط بيضاء داخلية قد لا يسمع عن وجودها احد؛ مثلما توضع الحلول لأسرها بعيدا عن عدسات الكاميرا و "تلصص" المشاهدين. من اخطر المجرمين... إلى مسرح الجريمة و الملاحظ أن البرامج الجديدة التي تصور مشاهد لجرائم سابقة و تسلط الأضواء على أبعادها النفسية بالدرجة الأولى ( اخطر المجرمين، مسرح الجريمة) تعزف على نفس هذه النغمة. يتم التبئير بشكل كبير على الدوافع النفسية لل "مجرم" و مسرحة أحداث و مشاهد الجريمة ( من الإعداد إلى التنفيذ...) ،من جهة، و على المجهودات و الخيوط الدقيقة التي ساعدت المحققين على تعقب أثره.يتم تقديم الجريمة كواقعة فردية أو جماعية تخص رجال الشرطة بالدرجة الأولى، و الحال أن أبعادها الاجتماعية و الاقتصادية مغيبة بشكل شبه كامل. إن التعاطف مع الضحية أو الضحايا و دغدغة الشعور بالكراهية و الرفض لفعل الجريمة و مرتكبها لن يمنعنا من إخفاء المسببات الاجتماعية و التربوية و الإيديولوجية و المآزق الاقتصادية التي تفعل فعلها في ظهور "اخطر المجرمين". لا بد من الوقوف على "مسرح الجريمة" الاقتصادية و الاجتماعية في بعض أحياء المجرمين، مثلما نحتاج الى "إعادة تمثيل" أفعال " اخطر المجرمين" الاقتصاديين و الاجتماعيين الذين افسدوا البلاد و العباد. إن التركيز على البعد الأمني له وظيفة اتصالية تساهم في تحسين صورة رجال الشرطة، و أخرى تثقيفية تساهم في تقريب عمل رجال الأمن المكلفين بالتحقيق في الجرائم الى جمهور المشاهدين. كما أن الاستعانة بآراء و تحليلات متخصصين نفسيين يضاعف من هيمنة المقاربة الفردية الجزئية للظاهرة/ المشكلة/ الجريمة، و بالتالي يحجب هذا الصنيع آلية خطيرة من آليات التضليل الإعلامي من خلال تحميل الأفراد/ المجرمين كامل المسؤولية. ذلك أن المسؤولية الجنائية لا تنفي المسؤولية الاجتماعية و مسؤولية الساسة في اعتماد السياسات الكفيلة بالحد من الجرائم الخطيرة التي يتم التطبيع معها رويدا رويدا، بفضل توابل المسرحة و التشويق و تداول أخبار الجرائم على نطاق واسع في اغلب الوسائط الإعلامية التقليدية أو الجديدة، حتى صارت "أخبارا عادية".يتحول بعض المجرمين الى" نجوم" عند المشاهدين مما يضاعف من حجم "الأسطورة" التي صاغتها الأوساط الشعبية عنهم في هذه المدينة أو تلك، أو ربما في المغرب كله ( نينجا،و لد....). لا شك أن هذه النوعية من البرامج تلقى إقبالا عند اغلب مشاهدي تلفزيونات العالم، إلا أن المبالغة في التفصيل الممل للبعدين الأمني (التحقيق) و النفسي (الدوافع...) يعرف المشاهد المغربي على بعض تقنيات التحقيق البوليسي و طرائق تخطيط و تنفيذ الجرائم"الخطيرة" ومسبباتها الداخلية.و الحال أن هذا الدور تقوم به السلسلات البوليسية التلفزيونية على أحسن وجه .