لازال الكثير من الناس في بلادنا لا يستسيغون أن يعرض الرجل حليلته قصد الزواج، أو أن يختار لها عريسا يليق بها، فالأمر في رأيهم عبارة عن معرة أو نقيصة تصيب الرجل وابنته على السواء، كما لا يؤيدون أن تعرض المرأة نفسَها على إنسان ترى فيه زوجا مناسبا يستحق أن تتقاسم معه حياتها بكل ما فيها، إن هذا الموقف هو الذي أنتج المقولة الشعبية التي تقول: "اللي يعرض بنتو ما تزوج". فما صحة هذا الفهم؟ وهل للدين الإسلامي رأي في ذلك؟ وهل يوجد نفس الفهم لدى الأمم الأخرى؟ أي هل يتساوى في هذا الموقف الفرنسي والانجليزي والأمريكي والمغربي والتايلاندي؟ قبل أن نجيب عن هذه الأسئلة سنذكر حدثا مثيرا وقع هذا الأسبوع تناولته الصحافة العالمية بشيء من الاستغراب والدهشة نقلا عن مجلة "ديلي ميل" البريطانية. يتجلى هذا الحدث في عرض المليونير التايلاندي أرنون رودثونغ مبلغاً مالياً قدره 315 ألف دولار أميركي، بالإضافة إلى ميراث كبير، من ضمنه مزرعة الفاكهة الأكبر في المنطقة والتي تنتج 50 طن يوميا، لمن يتزوج بابنته البالغة من العمر 26 سنة. إن الشرط الوحيد الذي اشترطه السيد أرنون في زوج ابنته هو أن يعتني بها ويكون مجتهدا حيث يستطيع أن يجعل تجارته تستمر. وأما عن الابنة "كارنسيتا" فقد أشارت إلى أنها تريد الزواج من رجل مجتهد ويحب عائلته. يبدو واضحا أن هذا المليونير وأمثاله، ممن يختارون أزواجا لبناتهم، يجعلون لأنفسهم أيادي في اختيار هذا الزوج وفق معايير مضبوطة حتى يطمئنوا على بناتهم. فإذا كان هذا المسلك يسلكه أناس يؤمنون فقط بالماديات، وقد لا يؤمنون بالآخرة ولا يعرفون عنها شيئا، فمن باب أولى أن يختار المؤمن لبنته من المؤمنين الصالحين الذي يثق فيهم ويعرف إيمانهم وتمسكهم بالدين والتزامهم به، حتى يضمن لابنته زوجا يعينها على طاعة الله فتربح الدنيا والآخرة. فكثيرا ما وجدنا المشايخ يزوجون بناتهم لأنجب تلامذتهم ممن يعرفون ورعهم وعلمهم وتقواهم ورجاحة عقولهم وتعلقهم بالآخرة. وكذا فعل أمير المومنين في الحديث سعيد بن المسيب مع تلميذه أبي وداعة حيث زوجه ابنته بعدما رفض تزويجها من ولي العهد حينها. ولكن ما فعله الإمام سعيد هو فقط جزء مما عهدنا عليه بعض الأنبياء مثل شعيب عليه السلام حين عرض ابنته على نبي الله موسى عليه السلام عندما رأى فيه مواصفات ترشحه ليكون زوجا صالحا لابنته، منها الدين والخلق والأمانة، وذلك في قوله تعالى: (قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجاج فإن أتممت عشرا فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين)، وكذا فعل الصحابة، فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لما توفي زوج بنته حفصة خنيس بن حذافة السهمي رضي الله عنه، عرضها على عثمان بن عفان، فرفض عثمان بأدب، وعرضها على أبي بكر حيث قال له: "إن شئت زودتك حفصة بنت عمر" فصمت أبو بكر، فغضب منه عمر أكثر من غضبه من عثمان، ثم بعد ليال خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحينها فقط علم عمر بن الخطاب أن صاحبيه لم يأبيا الزواج من حفصة وإنما لكونهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرها، فخشيا إفشاء سر ه عليه السلام. إن الأمثلة على أن الرجل يمكن أن يختار لابنته زوجا يرضاه كثيرة لا تكاد تحصى عددا، وهي دليل فطنة ورجاحة عقل، وليس فيها ما يعيب، خصوصا إذا كان الرجل ذا أصحاب يعرفهم جيدا ويعرف عنهم قوة دينهم ورجاحة عقولهم وصدق حديثهم وأمانتهم، تماما كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه لكونه يعرف عثمان ودين عثمان وورع عثمان وأخلاق عثمان الرجل الذي تستحي منه الملائكة، كما يعرف أبا بكر وما أدراك ما أبا بكر ولذلك تقدم دون حرج بعرض ابنته لأنه يحبها ويحب لها أن تكون في كنف رجل مؤمن يكرمها ويعينها على طاعة الله ورسوله. فهذا عن الرجل يعرض ابنته أو أخته للزواج، فماذا عن المرأة التي تعرض نفسها على رجل رأت فيه الدين والخلق؟ إنه ليس لا حراما ولا عيبا أن تفعل المرأة ذلك أي أن تعرض نفسها على صاحب الخلق والدين، وكل من ينكر ذلك إنما مرجعه العرف الفاسد والتقاليد البالية التي أوغلت في كثير مما يحتاج إلى أن يوزن بميزان الشرع. عن ثابت البناني قال: "كنت عند أنس، وعنده ابنة له، قال أنس: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تعرض عليه نفسها، قالت: يا رسول الله ألك بي حاجة؟ فقالت بنت أنس: ما أقل حياءها، واسوأتاه ! واسوأتاه ! قال: هي خير منك، رغبت في النبي صلى الله عليه وسلم، فعرضت عليه نفسها" رواه البخاري. وقد بوب البخاري بابا سماه "عرض المرأة نفسها على الرجل الصالح". وذهب بعض المفسرين إلى أن بنت شعيب هي من بادرت أباها وعبرت عن رغبتها في الزواج من موسى عليه السلام بقولها (يا أبت استاجره إن خير من استاجرت القوي الأمين) وقد ذكرت ما دعاها إلى ذلك من خصال كالقوة والأمانة. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما خاطب الآباء وقال لهم إن هم امتنعوا عن تزويج بناتهم عندما يكون الزوج مناسبا "إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير" معناه أنه كلما انتشر الزواج قلت الفاحشة وحوصر الفساد، ولذا وجب إحياء هذه السنة سنة اختيار الزوج للحليلة ذي الخلق والدين، عوض ترك المجال للعنوسة كي تتقوى فتتحول إلى غول يأكل شباب بنات المسلمين.