يبدو أن الشاعر الأندلسي الشهير فيدريكو غارسّيا لوركا (1898-1936) أصبحت له حظوة خاصّة في إيران، فقد أشار المخرج المسرحي الإيراني عليّ رفيعي إلى أن لوركا يُعتبر من أكبر الشعراء الأجانب والإسبان على وجه الخصوص شهرةً وحظوةً بين عاشقي ومُحبّي الأدب العالمي الإنساني المرموق في إيران، تأكّد ذلك بعد أن أشرف المخرج رفيعي على تقديم مسرحية لوركا الشهيرة "منزل برناردا ألبا" وقدّمها بنجاح كبير للجمهور الإيراني مؤخراً. وقد سبق لهذا المخرج المعروف أن قدّم لجمهور بلاده مسرحيتين سابقتين أخريين للوركا كذلك هما "عرس الدم" و"ييرما". النصّ اللوركي لمسرحية "منزل برناردا ألبا" كان قد ترجمه إلى اللغة الفارسية الشاعر الايراني المعاصر المعروف أحمد شارملو (1925 -2000) وكان هو الذي عمل على التعريف بالشاعر لوركا لجمهور بلاده، وقد أكّد المخرج عليّ رفيعي لجريدة "المُوندُو" الإسبانية أن لوركا قد أصبح اليوم من أشهر الشّعراء الأجانب في إيران. الحيطان الأربعة وسجن التقاليد يشير رفيعي إلى أن روح مسرحيّة لوركا وجدت صداها العميق في المجتمع الايراني الذي ما زال بحكم الدّين، والتحفظ، ومراعاة أنماط العيش، والعوائد المتوارثة القديمة في المجتمع، ولذلك فهو مجتمع محافظ، ما زال ينظر بعين الاعتبار إلى الشّرف العائلي، وعدم الانفتاح، وإعطاء أهمية بالغة للمظاهر، وتوقه للتحرّر من قيود هذه التقاليد التي ما فتئت تثقل كاهله، ولذلك فإن أحداث المسرحية التي تدور داخل أربعة حيطان تعتبر ذات رمزية عميقة بعيدة الغور في هذا البلد. وللحفاظ على تقليد غطاء الرأس في البلاد، جعل المخرج الممثلات يرتدين الشّعر المُستعار ليظلّ مخلصاً ووفيّاً لرُوح النصّ اللوركي حيث حافظ على التقاليد التي ما زالت سائدة في الوقت الراهن في إيران والتي كانت سائدة في إسبانيا كذلك عند كتابة هذه المسرحية. وعليه، يشير إلى أنه حافظ على روح المسرحية بنسبة تسعين في المئة، حيث حرص على أن يقدّم العرض المسرحي اللوركي كلَّ ما كان يدور داخل الحيطان الأربعة. هذه الجدران، يقول رفيعي، "ترمز إلى السجن الذي ما زالت تقبع بداخله التقاليد البالية المتوارثة المُجترّة، التي ما فتئ المجتمع الإيراني يبحث عن كيفية أو طريقة للتخلّص منها، أي الخروج من هذه الجدران الأربعة". وتنتهي هذه المأساة التراجيدية في صيغتها الإيرانية بطريقة غير متوقعة؛ فقد لجأ المخرج عليّ رفيعي إلى استبدال عملية الانتحار بطابو مألوف في المجتمع الايراني وهو اقتراف جريمة قتل غالباً ما تحدث في نطاق الأسر الإيرانية وفى المجتمعات المحافظة دفاعاً عن شرف العائلة وصون كرامتها، وهكذا تلجأ إحدى الشخصيات الرئيسية في المسرحية (الأخت الكبرى) وهي" مارتيريو" إلى جعل حدٍّ لحياة أختها "آديلا" في لحظة غضب طائشة. الإبداع يتخطّىَّ الحدود بمناسبة عرض مسرحية لوركا في إيران الذي لقي إقبالاً واسعاً ملفتاً للنّظر من طرف المشاهدين، ونظراً لكون هذا العمل المسرحي مُستوحىً أو مُقتبس عن ترجمة لمسرحية "منزل برناردا ألبا"، إحدى أشهر مسرحيات لوركا، حريّ بنا أن نلقي بعض الضوء عن الرموز والأبعاد العميقة لهذه المسرحية، وعن التناوش الداخلي والنفسي لشخوصها، والصراع الجوّاني المتشاكس والحادّ الذي يقوم عليه هذا النصّ المسرحي الدرامي اللوركي، وبشكل عام عن فحوى المضمون الحقيقي لهذا العمل الأدبي والإبداعي. كتب لوركا هذه المسرحيّة عام 1936، أي أسابيع قليلة قبيل اغتياله، وبالتالي فإنّه لم ير قطّ ّهذه المسرحية على خشبة المسرح في حياته، ولا شكّ أن فيدريكو غارسيا لوركا باعتباره شاعراً ومسرحيّاً فذّاً، فضلاً عن محنته الإنسانية، استطاع أن يفرض نفسَه في مختلف الأوساط الأدبية العالمية، وبالتالي أن يصبح من أشهر الشعراء الإسبان داخل إسبانيا وخارجها. وهو يرى أن المسرح ينبغي له أن يكون عارياً من أيّ تنميق، ويعتمد أساساً على معالجة إشكالية الإنسان في الحياة، لذا فإنّ من أهمّ المواضيع التي استقطبت واستأثرت باهتمامه في مسرحياته قضايا مثل: الحبّ المستحيل، الحبّ الفاشل، أو الحبّ الذي تحيق به خيبة الأمل، الفراق، الرّغبة المستحيلة، التطلّع والتحرّر، والانعتاق. إن عالم لوركا المسرحي في مجمله يقوم في الواقع على موقف أساسيّ هو المواجهة المتصارعة بين نوعين من القوى المتمثّلين في نزعة الهيمنة والتسلّط، وهاجس التحرّر الانعتاق. مسرحيته "منزل برناردا ألبا" كلّ شخصياتها من النساء، الأرملة "برناردا" بعد موت زوجها تتولّى مسؤولية تربية بناتها الخمس وتجعلهنّ يخضعن لنظامٍ تربوي صارم، يعني في الواقع دفنهنّ في الحياة، وإنّ ظهور (شبح) الرجل الوحيد في المسرحية "بيبي رُومانُوس" ليتزوّج من إحدى بنات برناردا "أنغوستياس"، (وينبغي الإشارة إلى أن اسم أنغوستياس يعني في اللغة الإسبانية المحن، والغمّ والكرب، والقلق) يوحي لنا بأن له علاقة في الخفاء بأختها الصغرى "آديلا"، ومراقبة الأخت الكبرى "مارتيريو" لهذه الأخيرة، كلّ ذلك يؤدّى إلى خلق أو إيجاد سلسلة من الأحداث والصّراعات والتوتّرات فيما بين الأسرة لا مخرج منها سوى الجنون أو الموت. طغيان الأنثى المُتسلّطة تدور أحداث مسرحية لوركا الأصليّة في حيّز مغلق مكتوم، هذا الحيّز يتمثّل في (أربعة حيطان) لا يملأه سوى أوّل وآخر كلمة تنطق بها برناردا وهي "الصّمت"، وعلى امتداد هذا الحيّز الزّمكاني الأوّلي والنّهائي المفروض بواسطة برناردا يتطوّر الصراع بين قوّتين كبيرتين، أو مبدأين أساسيين، نزعة "التسلّط" المتجسّد في برناردا (الأمّ) وهاجس "الحرية " المتمثل في بناتها. النزعة الاوّلى تظهر وكأنّها تستجيب لنظرة كلاسيكية لعالم تسوده أخلاقيات اجتماعية معيّنة متوارثة، إنّ برناردا تفرض في عالم منزلها المغلق نظاماً يميّزه الأمر والنّهي المطلقان، وهذا النظام بالنسبة لها هو الحقيقة الوحيدة الماثلة أمامها لا تقبل بشأنها أيّ احتجاجات أو أعذار مهما كان نوعها أو مصادرها. وعلى امتداد المسرحيّة تتجلّى لنا هذه النزعة وتزداد تصعيداً واستمرارية، وتناوشاً وتوتّراً. إن برناردا ليست فقط الأنثى الباردة القاسية المتسلّطة-كما يبدو لنا منذ الوهلة الأولى في المسرحية-بل إنّها أساسا تعتبر رمزاً لغريزة الهيمنة المطلقة التي تنفي حقيقة وجود الآخرين، في هذه الحالة، داخل منزلها. إن برناردا وبناتها تواجه كل منهما الأخرى، وأين؟ داخل حجرة مغلقة، هذه المواجهة لا بدّ لها في النهاية أن تفضي إلى تحطيم إحدى القوّتين المتصارعتين، ولا يمكن لهذا العالم سوى أن يجد له مخرجاً واحداً من مخرجين إثنين (قبول مبدأ التسلّط لدى برناردا أو الحمق وهو أبعد مراحل الهروب أو الانتحار، أي الموت في آخر المطاف)، وهذا ما حدث بالفعل في المسرحية الأصليّة ل"أديلا" إحدى بنات برناردا (الشّيء الذي لم يحدث في النصّ المُترْجَم إلى اللغة الفارسية). المالُ الوفير خيرٌ من الوجه النضير! على الرّغم من بلوغ هذا الشأو البعيد من الأسى والألم والمأساة، مع ذلك تظلّ آخر كلمة لبرناردا في المسرحيّة: "أتسمعنني؟ الصّمت، أقول الصّمت". وبذلك يزداد هذا العالم انغلاقاً في مواجهة بعض عناصر الحياة الأساسيّة وهما: الحقيقة والموت. من كلماتها التي تنزل على مسامع بناتها نزول السّيف على القفا: "هذا البيت سوف يغرق من جديد في بحر من حداد"، ماذا سيكون موقف بناتها الأخريات، إنّهنّ جميعهنّ يعرفن الحقيقة، ولكنّ ما السّبيل إلى تحطيم هذا الصّمت المفروض من طرف برناردا؟ إن "أديلا" أو "عادلة" ربما كانت هي الشخصية الأكثر تمرّداً، وإنّ انتحارها (في مسرحية لوركا الأصلية) وقتلها في النص الإيراني، الذي ينزل على المشاهد نزول الصاعقة، يرمز إلى الانعتاق الميؤوس منه، بل إنّه المَخْرَج الوحيد حيال الرّفض القاتل المضروب حولها. لا شكّ أن لوركا كتب هذه المسرحية بعناية فائقة، ففيها يحاول أن يظهر لنا أهميّة المال في العلائق البشرية وتأثيره عليها، ورضوخ الحبّ للمصلحة النفعيّة في حياتنا تقول إحدى بنات برناردا: "المال الوفير خير من الوجه النضير". قوّة الرجل إزاء المرأة وحاجتها إليه، ترسيب الطبقات الاجتماعية، طريق الحريّة المدرج بالدماء...إلخ. تميّز مسرحية "برناردا ألبا" واقعية شعريّة وسحريّة خاصّة، ويطبعها طابع غير محلّيّ، فالموضوع في حدّ ذاته، بل والتعابير المستعملة فيها ليست أندلسيّة صِرفة، حتى وإن كانت أحداث المسرحية تدور في إحدى القرى الأندلسية المسمّاة ب "بالدرُّوبيُو". الإبرة والخيط للمرأة والدابّة والسّوط للرّجل! إنّ شخصية " بيبي رُومانُوس"، الرّجل الوحيد الذي يدور عنه الحديث في المسرحية والذي تتوق لحبّه بنات برناردا ولا يظهر أبداً على خشبة المسرح، ينتهي إلى سمع المشاهد فقط وقعُ حوافر حصانه وهو يحوم حول منزل برناردا، ممّا يزيد في إثارة المُشَاهِد ودغدغة فضوله وتطلّعه، وبالتالي إطلاق العنان لخياله. فهنا نجد وكأنّ لوركا يشرك المشاهد في حبك الخيط الدرامي للمسرحية، بل والإسهام في تصوير وتخيّل شخصياتها، إذ كل منّا يحاول أن يضع أمامه صورة بيبي رُومانُوس في شكل يختلف عن الآخر، فضلاً على أنّنا لا نعرف شيئاً عن شخصيته، وتكوينه، وطبعه، وميوله، وتفكيره ومستواه. إنّ" الأقوال" التي تترى في المسرحية بين الحين والآخر لا تخلو من عمق وشاعرية وحكمة وطرافة، فبرناردا تعلن إغلاق الأبواب حداداً على موت زوجها ولا يحقّ للبنات أن يبرحن المنزل، وتقول الحكمة على لسان برناردا: "المنزل مكانكنّ، فالإبرة والخيط للمرأة والسّوط والدابّة للرجل"، وتصيح "أديلا": "إنّنا إذا لم نستطع مواجهة البحر، فأحسن شيء أن نوليه ظهورَنا". مشاركة البنات للغناء الذي يصل إلى أسماعهنّ من الخارج من خلال قضبان النوافذ الحديدية السميكة، تقول الكلمات: "افتحوا النوافذ والأبواب" في أغنية رمزية تجسّد الحالة التي توجد فيها بنات برناردا. الأغاني وعناصر أخرى التي تتخلّل المسرحية تخدم السياق العام لها، مثل: الصيّاح، وضربات الأكفّ والأرجل في دقّات عصبية متشنّجة متوالية ترمز إلى ما كان يعتمل في نفوس شخصيات المسرحية من قلق وتوتّر ومعاناة. وممّا يعطي لمضمون المسرحية بعداً تراجيدياً عميقاً هو عامل الإنارة؛ فالمسرحية تكاد تخلو من أيّ إشعاعات ضوئية وكأنّ الأحداث كلها تدور في حِلكة الليل وعتمته وجُنحه داخل فضاء مُحاط بأربعة حيطان. أجواء ايرانية أوّل ما يسترعي انتباه المشاهد في مسرحية لوركا بعد نقلها إلى الفارسية هو الأجواء الإيرانية التي تغلّفه؛ فقد نزع المخرج الإيراني عليّ رفيعي عن مسرحيّة لوركا قبّعة "سيرفانتيس" وألبسها عمامة الخيّام، وهنداماً فارسياً قشيبا، فأصبحت الأجواء والموسيقى والأزياء كلها إيرانية بحتة. فلون السّواد وهو لون الحداد عند الإسبان تحوّل إلى اللون "البنّي الفاتح" في إيران، بل إن الممثلات يرتدين خلال المسرحية فساتين وأقمشة زاهية ملوّنة، فكل واحدة ترتدي لونا مختلفاً أو مغايراً عن الأخرى (الأخضر، الوردي، الأزرق، الأصفر) وكل لون يرمز إلى الحالة النفسية والداخلية لكل واحدة منهنّ. وهكذا كانت الأجواء التي تتخلل المسرحية ايرانية، وحبّذا لو استعمل المخرج الإيراني في الموسيقى التصويرية للمسرحية عزفاً على القيثار الإسباني، ومقاطع من موسيقى الفلامنكو المنتشرة في مختلف الأصقاع الأندلسية، وذلك تماشياً مع رُوح النصّ المسرحي الإسباني. برناردا في لغة الضّاد أشير في ختام هذه العجالة إلى أن مسرحية "منزل برناردا ألبا "للوركا كانت قد قدّمت بنجاح بلسان عربيّ فصيح منذ بضع سنوات بمدينة ألكالا دي إناريس الإسبانية (قلعة النّهر) القريبة من مدريد، بمشاركة ممثّلين وتقنيين مغاربة ينتمون إلى المسرح الوطني الجامعي لمدينة الدارالبيضاء، وكانت من إخراج الإسباني فرانسيسكو أرتونيُو. وقد شكّل عرض هذه المسرحية على مسرح "سيرفانتيس" تجربة فريدة رائدة، وعلى الرغم من تقديمها في ذلك الإبّان بلغة المتنبّي في قلب المدينة التي وُلد فيها ميغيل دي سيرفانطيس صاحب "دون كيشوت" الشهيرة، فقد لقيت إقبالاً منقطع النظير. وكان ذلك بالنسبة لجميع المشاهدين دليلاً قاطعاً على مدى عمق التمازج الثقافي بين العالم العربي-الأمازيغي وإسبانيا، وأنّ آثار القرون الثمانية التي عاشها العرب والبربر في هذه الديار ما زالت ماثلة في القلب واللسان والطباع، وليس فقط في المباني والمدن والقلاع. كما تجدر الإشارة إلى حدث له دلالة خاصة وبالغة عرفه اليوم الأوّل الذي عُرضت فيه هذه المسرحية، وهو حضور شقيقة كاتبها الشاعر لوركا السيّدة إيزابيل غارسّيا لوركا-التي كانت لمّا تزلْ على قيد الحياة-ممّا أضفىَ على هذا العرض المسرحي قيمة رمزية عميقة، وترك أثراً بليغاً لدى المشاهدين والممثلين على حدّ سواء. وكانت شقيقة لوركا قد عبّرت لي حينذاك عن مدى إعجابها بالأداء، وانغماس الممثلين في عمق النصّ اللوركي والتأقلم معه. كما أنها أسرّت لي وأمارات التأثّر بادية عليها قائلةً: "لقد أحسستُ وكأنّ أخي جالس بجانبنا وحاضر بيننا". قام بترجمة النصّ الإسباني لهذه المسرحية آنذاك الأستاذ محمد العشيري، علماً بأنّه سبق أن نقلها إلى اللغة العربية الدكتور محمود مكّي وسواه. كما نقلت إلى السّينما بواسطة المُخرج الإسباني المعروف مَاريُو كامُوس. * عضو الأكاديمية الإيبيروأمريكيّة للآداب والعلوم – بوغوطا- كولومبيا