بين سطورها المتناسقة وحروفها العذبة، امتزجت قوافي من عمق مطاوي الرمال الذهبية، عربية الهوى، حسانية الروح، اختارت من الصحراء بخيمها، وإبلها، ونسائها، وكرم أهلها، مصدر استلهام استقى منه الشعراء مواضيع إبداعاتهم، هي قصائد سكنت بيوت أهل الصحراء، وتغنت بالجمال والطبيعة وبذكريات بدوية ترسخت في الذاكرة وسكنت وجدان المجتمع الصحراوي. للشعر الحساني طقوس خاصة، غالبا ما ترتبط بمظاهر الحياة اليومية وبالتجارب الحياتية المتنوعة في رحاب الصحراء الواسعة والممتدة، حيث ظل الإنتاج الشعري يمثل جنسا أدبيا رئيسا داخل نسيج الثقافة الشعبية الحسانية، وإبداعا كلاميا متفردا، سواء على المستوى الجمالي الصوتي أو على مستوى الروافد التي يمتح منها ويستند إليها، عبر عنه الشعراء بلغة شعرية صادقة تمتد إلى كوامن النفس والكينونة. وتضم اللهجة الحسانية، التي يعرف بها أهل الصحراء المغربية، أو ما يعرف بأرض "البيضان"، تراثا شعريا غنيا، باعتباره جزء لا يتجزأ من التراث الشعبي المغربي الغني والمتنوع، الذي يتصف ببحوره وتفعيلاته ومقاماته المتنوعة التي شملت جميع مناحي التعبير، بالإضافة إلى كونه أيضا وعاء تاريخيا لمجتمع لم يعتمد التدوين في حفظ تاريخه إلا حديثا. كسائر الأنماط الشعرية، الشعر الحساني أيضا له قواعده وقوانينه التي لا يصح قول إلا بوجودها، منها ما يعتبر جائزا، حيث يتميز بالتمام، أي لا زيادة ولا نقصان في أوزانه (التضمين اللزوم، الجناس والملخ، الإنفاق، اللف المرتب وكذا اللف المعكوس والتنوين)، ثم غير الجائز نسبيا المتمثل في ما يسمى ب "الزي"، أي دخول كلمات من غير اللهجة الحسانية، حيث يعتبره شعراء أهل الصحراء ضعفا يحسب على الشاعر. وفي هذا الصدد، أوضح الناقد والباحث في الثقافة الحسانية، إبراهيم الحيسن، أن للشعر الشعبي الحساني قواعده العروضية وصوره البلاغية وإيقاعاته الموسيقية الثابتة التي تميزه عن باقي أنواع الشعر العربي التقليدي، كالنبطي في الخليج والملحون في المغرب العربي والحميني في اليمن، مضيفا أنه مثل الشعر الفصيح، يتكون الشعر الحساني من أبيات، حيث تقوم بنيته الإيقاعية على أبحر تسمى "لبتوت" مفردها "بت"، وهو القطع والحسم. وتابع مؤلف كتاب "الشعر الحساني-الصور البلاغية والأنساق الموسيقية"، في تصريح صحافي، أنه لا يعتبر في أبحر هذا الشعر إلا الحركات، أي الحروف المتحركة، فهذه البحور تقاس، حسب قوله، بضوابط وزنية علمية ثابتة كعدد المتحركات، والتقاء الساكنين في مقدمة الشطر (تافلويت)، أو في وسطه. أما في ما يتعلق بالممنوع في الشعر الحساني، المسمى ب "أضلاع"، أبرز الباحث، أن المقصود به هو عدم توافق أشطر البيت الشعري، سواء من حيث كلمات الشطر الواحد الذي يسمى "تافلويت" أو المتحرك، سواء بالزيادة أو النقصان، أو أن تتجاوز القافية القاعدة فتصبح وترا، وهو ما يعرف باسم "لعوار" أو "العور"، وبالتالي ضياع المعنى. ومن القواعد الأساسية أيضا، حسب الحيسن، ضرورة احترام ما يسمى ب" الواجب"، وهو ما يعرف في الشعر الحساني باحترام القافية أو القافيتين، وأن يكون "الكاف" (البيت الشعري) أو "الطلعة" (القصيدة) أو "الصبة" (قصيدة حرة) تتوفر على شروط ذلك، مضيفا أنه لا يقبل فيها الوتر، أي وجود الشطر الواحد المفرد. وبحسب الباحث، فإن بحور وأوزان الشعر الحساني مرت بمرحلتين هامتين؛ أولهما مرحلة ما قبل الموسيقى، وهي المرحلة التي كان فيها الشعر نوعا من النثر المميز تقريبا، حيث كانت الأبيات لا تقاس على بعضها ولا توجد فيه "الطلعة"، وإن وجدت فهي على غير قافية واحدة، قد يكون لها قافيتان أو ثلاث أو أربع، وكانت أوزان "الكاف الواحد" تنظم على أساس الشكل، أي الفتح والضم والكسر والسكون، دون الاهتمام بالحرف، وظل هكذا مدة طويلة حتى بدأت معالم مرحلة أخرى في الظهور حيث تطور الشعر في تلك المرحلة واستطاع الشعراء حصر الوزن على المتحركين المتناغمين مع الموسيقى. وقد نتجت عن ذلك، يضيف الحيسن، ميزة أخرى مهمة تمثلت في إعطاء أولوية لتساوي الأبيات وقياس بعضها على البعض دون زيادة أو نقصان، مما أعطى القافية نوعا من الثبات، حينها ظهر ما عرف لاحقا ب"الحمر" و"العقرب"، وسيبقيان بصفة نهائية كأساس لوزن أو نظم الشعر الحساني. بعد ذلك، شكل ظهور الموسيقى نقطة تحول في تطور الشعر الحساني والرقي به إلى مرحلة أكثر تقدما من سابقاتها، حيث أجبر الشعراء على مرافقة النوتة الموسيقية، وكل قصيدة لا تتوفر فيها ميزة القابلية لمرافقة النوتة الموسيقية أصبحت غير مقبولة، وهنا برز "الظهر" الذي هو مجال عزف الموسيقى، مما أدى إلى تشكل بحور الشعر الشعبي الحساني على غرار بحور الشعر العربي المعروف، ولكل ظهر ألحانه ونغماته الخاصة. في عمق القصيدة الحسانية، تتحرك موسيقى شعرية تداعب الأوزان، وتطرب الأذان الصاغية بأجمل المعاني العربية، باعتبارها عنصرا أساسيا في تشكيل بنية النص الشعري، والوزن لا يكون كذلك ما لم يرتبط بوشائج داخلية، حيث تقوم هذه الموسيقى على متحركات وسكون، تضم الوزن والقافية والإيقاع اللفظي والنغم والإيحاء. ولا يمكن تخيل حفل زفاف صحراوي دون حضور الشعراء، وإقامة خيم للشعر، يتبادل فيها كل من أهل العروس والعريس قصائد المدح والترحيب والغزل والفخر، وحتى في الحياة العادية لدى العائلات الصحراوية يتم تبادل القصائد الشعرية أثناء جلسات الشاي المعتادة، حتى سكنت هذه القصائد بيوت أهل الصحراء كما سكنت خيمهم من قبل. *و.م.ع