، الضيف على الدورة 7 من المهرجان المغاربي للفيلم وجدة - جورج نصر الذي كانت على يديه الصرخات الأولى للسينما اللبنانية، - لا يمكن فصل تاريخ السينما في لبنان عن الحياة اليومية بهذا البلد، - علي العريس، القادم من المسرح، أحد الرواد المؤسسين للفن السابع بلبنان، هل يمكن الحديث عن الإرهاصات الأولى للإنتاج السينمائي في لبنان، خلال النصف الأخير من ستينيات القرن 20؟؟ نطرح السؤال من حيث كونه إشكاليا، لأنه يحيلنا على أسئلة فرعية، منها، لماذا تأخر الفعل السينمائي ببلد مثل لبنان إلى هذا الحين؟ هل يمكن الحديث عن مراكمة تجربة سينمائية لبنانية خلال 70 سنة فقط؟ لماذا لم تشهد السينما اللبنانية انتشارا واسعا بين البلدان العربية على أقل تقدير؟ هل يتعلق الأمر ببحث عن الذات؟؟ لماذا لم يصل الإنتاج السينمائي اللبناني مرتبة الإنتاج على مستوى الطباعة وإنتاج الكتاب؟؟ كانت المحاولات الأولى للإنتاج سينمائي بلبنان فاشلة بإجماع النقاد، بسبب ضعف قيمتها الجمالية، وأيضا كون محاولات الإنتاج هذه بدرت من أجانب، ولو أن بلدا مثل لبنان، يصعب القبض فيه على هوية محددة لبلد عاش المد الصليبي لقرنين من الزمن، وبعدها الاستعمار الفرنسي شأن سائر بلدان الجنوب، لردح من الزمن غير قليل، للتواصل المعاناة، فتمزقه الطائفية إلى الآن، الشيء الذي يعقد الحسم في القول بالأجنبي الدخيل ... كانت هذه الإرهاصات خلال ثلاثينيات ق20م، لتشهد انبعاثا، أو لنقل محاولات متواضعة بعد الحرب العالمية الثانية، من خلال فيلمي "عذاب الضمير" و"قلبان وجسد"، مع مطلع خمسيات ق20م، أما فيلم "عذاب الضمير" فهو من إخراج جورج قاعي، يحكي قصة فتاة فقدت عذريتها خلال علاقة عاطفية جمعتها ببطل الفيلم الذي تخلى عنها وأضحت بائعة هوى، بينما صار الشاب قاضيا، لتمر الأيام وتمثل أمامه ضحيته بتهمة "بنت الليل"، فينتفض ضمير القاضي/الحبيب، ليعتزل القضاء ويدافع عن حبيبته/ضحيته، وينتظر خروجها من السجن ليمد جسور المحبة وإيها من جديد، تم عرض الفيلم في لبنان باللغة العربية لمدة 85 دقيقة ... ثم فيلم " قلبان وجسد" من إخراج نفس المخرج، ويروي قصة صراع رجلين حول امرأة تشتغل مطربة في بيروت، الزوج والعشيق، تنتهي بأن تقتل إلهام زوجها لتظفر بعشيقها، وقد عرض الفيلم أول مرة عام 1959، مدته 90 دقيقة، بالأبيض والأسود .... وهي مواضيع اتسمت بالرومانسية والشحنة العاطفية القوية والنهاية السعيدة، مواضيع قد تناسب تلك الفترة الزمنية، باعتبارها محدودة الخيال، وتخاطب المشاعر وتدغدغها. تم إنشاء المركز الوطني للسينما اللبنانية سنة 1964م، وعددا من قاعات العرض التي تراوحت بين المغطاة والعارية صيفا للتهوية، مثل صالة أولمبيا وصالة ألفونس، ومنها أيضا سينما أومبير وميتروبول وروكسي وسينما الدنيا وأولامبيا، وغيرها، والتي كانت سابقا عبارة عن خانات، وجمعت العديد من الصالات بين المسرح والسينما ... ونذكر أن أول دور السينما ببيروت هي سينما الديك، والتي سميت فيما بعد سينما باريس، كما تجدر الإشارة هنا إلى أن عددا من الصالات اختصت في نوع معين من الأفلام، وهو أمر ليس غريبا عن قاعات العرض بالمغرب أيضا، ففي مدينة وجدة التي تحتضن المهرجان المغاربي للفيلم، قامت بها قاعات متخصصة في نوع من الأفلام، مثل سينما النصر التي كانت تعرض الأفلام الهندية، أو سينما باريس التي كانت تعرض أفلام الإثارة، وسينما الملكي أيضا ... فتم عرض عدد من الأفلام بالقاعات السينمائية اللبنانية نهاية ثلاثينيات ق20م، مثل، "الليل لنا"، و"لذة الغرام"، وأفلام شارلي شابلن، ثم أفلام الرعب ورعاة البقر، والتي تعتبر موجة عارمة اكتسحت بلدان المعمور، بينت هيمنة الغرب على مجال الإنتاج السينمائي وتوجيهه وفق إيديولوجيا معينة وخلفية غير بريئة، تسعى لنشر ثقافة بعينها، ولقيت هذه الأفلام إقبالا لا حد له أمام وفرة دور السينما، التي ظلت مجالا استثمارية لتجارة مربحة ... عرف الإنتاج السينمائي اللبناني انتفاضة أخرجته من السكون إلى الفعل والحركة، فبرز عدد من المنتجين عبر السينما الصامتة ثم المتحركة، شأن الحركة السينمائية بدول الغرب، واهتم اللبنانيون كثيرا بقاعات السينما كفضاءات للفرجة، حيث وفروا لها ما تستحق من المعدات والشروط، ورمموا المتلاشي منها، وعرفت السينما اللبنانية استقطاب الأجانب للاشتغال بها وفيها. ونقف عند المنتوج السينمائي اللبناني الذي اعتمد في بداياته على التقليد قبل محاولات التجديد والسعي نحو تحقيق الذات والهوية، فبرز اسم المخرج علي العريس الذي من أعماله: "بياعة الهوى"، و"كوكب أميرة الصحراء" .. يروي الفيلم الأول قصة "وردة" التي توفيت عنها أمها مخلفة لها 5 أخوة ومحلا لبيع الورد، والتي نسجت علاقة صداقة مع أحد الشباب بسبب تردده على المحل، وكذا مساعدة وردة له حين حالت بينه وارتكاب جريمة قتل حبيبته "امتثال"... الفيلم من إخراج علي العريس الذي يحمل الجنسية اللبنانية، لكن جل الممثلين طاقم مصري، منهم محمود إسماعيل ومحسن سرحان، وهو فيلم بالألوان تم إنتاجه سنة 1943م، ويعتبر فيلم "بياعة الورد" أول فيلم ناطق في تاريخ السينما اللبنانية، إخراجا وإنتاجا. ثم فيلم "كوكب أميرة الصحراء" الذي يروي قصة حب في الصحراء بين الشابة "كوكب" وفتى من قبيلة من الأعداء وما يمكن أن تعانيه هذه العلاقة بسبب هذا الوضع وكيد الحساد والمنافسين ... فيلم من 80 دقيقة، تم عرضه سنة 1946م بالأبيض والأسود، ونذكر أن علي العريس اشتغل أيضا بمجالي إعداد المناظر والديكور وكتابة السيناريو والحوار، ويمكن اعتبار علي العريس، القادم من المسرح، أحد الرواد المؤسسين للفن السابع بلبنان، وقد تناول هذا التاريخ ابنه إبراهيم العريس في كتابه الموسوم ب"الصورة الملتبسة، السينما في لبنان، مبدعوها وأفلامها"، وهو كتاب ضخم، غاية في الأهمية من حيث تأريخه للسينما اللبنانية، حيث لا يفصل السينما اللبنانية عن الحياة اليومية في لبنان، على المستوى السياسي والاجتماعي والطائفية، فيؤرخ للإنتاج السينمائي بهذا البلد والمخرجين والمبدعين في مجال الفن السابع، وهو بذلك يقف عند جذور وهوية السينما اللبنانية، كقيمة فنية وتجارية لقيت رواجا معينة، وقد جاء الكتاب مقسما إلى 7 فصول، تتناول على التوالي: جيل الرواد، وسينما الهوية الصافية، واستوديوات مصر في ربوع لبنان، وجيل المساعدين وسنوات الزمن الانتقالي، وسينما تولد من رحم الحرب، والزمن القلق وجيل الورثة، ودخول شرعي إلى زمن العالم. كما أن الكاتب توفق في التوثيق لهذا المنتوج السينمائي من خلال فيلموغرافيا شملت 100 فيلم تمت صناعته في لبنان. نذكر أيضا من المخرجين اللبنانيين في النصف الثاني من ق20م، جورج قاعي وجورج نصر وجوزيف فهدة وميشيل هارون وغيرهم. ومن مميزات هذا المنتوج السينمائي، في تلك الفترة، ارتكازه على مجموعة من القيم، على رأسها اللغة اللبنانية الريفية بقوة شفهيتها، هي اللغة التي استمتع بها جمهور العرب عبر الأغاني والأفلام، وصدح أصوات الملكة فيروز والإخوة الرحباني والفنان الكبير وديع الصافي وغيرهم، ثم الدبكة والخالد من الإيقاعات اللبنانية التي لا زالت تتردد لحنا راقيا في تراث الموسيقى العربية، والتي تزخر بجانب مسرحي استعراضي لا يمكن فصله عن الإنتاج السينمائي من حيث استثماره في عدد من الأعمال، أو لاعتبار أن العديد من المخرجين قدموا من المسرح الدرامي والاستعراضي نحو السينما، أو لنقل أن السينما شكلت امتدادا لتطلعاتهم الفنية. ثم استثمار القيم، منها الصراع بين الخير والشر بحيث ينتصر الخير دواما في نهاية سعيدة للفيلم ... ثم اللغة الفرنسية التي استعملها بعض المخرجين اللبنانيين من أمثال، مارون البغدادي، المخرج الفدائي، صاحب فيلم "بيروت يا بيروت"، والمخرجة رندة الشهال (19532008)، ذات الجرأة الكبيرة، والتي أنجزت العديد من الأفلام السياسية والحميمة والمتميزة، نذكر منها فيلم "شاشات الرمل"(1991)، فيلم يتعرض لعلاقة حميمة بين امرأتين، وفيلم "حروبنا الطائشة"، والحائز جائزة معهد العالم العربي في باريس سنة 1996م، وفيلم "الكافرون" الذي يتناول التطرف الإسلامي، ثم فيلم "محتضرات" (1999)، والذي يتناول جانبا من الحرب الأهلية في لبنان، وغيرها من الأعمال، والتي عانى بعضها من الرقابة ... ثم مخرجين آخرين، منهم، زياد الدويري ونادين لبكي وسمير حبشي. وبالعودة للبدايات، لابد من استرجاع ما قدمه المخرج جورج نصر، الذي يعتبره العديد من النقاد، "الأب الشرعي" للسينما اللبنانية، منذ 1927م، وهو الذي سعى لتحقيق هوية السينما اللبنانية مقابل السينما التجارية التي سعت دوما وراء الربح على حساب المواضيع، إذ يمكن اعتبار تاريخ لبنان غنيا وثريا بمواضيع يتوجب استثمارها لإنتاج أعمال سينمائية، سوف تساهم لا محالة في تنمية وعي سليم ضد الطائفية والتفكك الذي يطبع الحياة اليومية اللبنانية، فظل جورج نصر يشتغل وفق هذه القناعة، رغم ما لقيه من تهميش حد الحرب ضده من طرف من لا مصلحة لديهم لاستقرار الوضع في لبنان. كان بديهيا أن تحضر الحياة اليومية اللبنانية بكل ثقل في صلب الإنتاج السينمائي، لأنه واقع لا محيد عنه، ولا يمكن تفاديه، رغم الإسهال الذي يعاني منه المنتوج السينمائي في عالم اليوم، والذي تتحكم فيه مراكز الهيمنة الاستعمارية الأمريكية الهوليودية، من خلال إنتاج الرداءة وبث ثقافة العنف وتردي القيم بين المجتمعات، وبالتالي، فإن أصواتا غير قليلة من أهل الفن السابع بلبنان عبروا، من خلال أعمالهم، على التزامهم بقضايا بلدهم من باب ربط السينما بالواقع. كما ارتبطت السينما اللبنانية بالقضية الفلسطينية .. بيروت التي احتضنت القضية والحصار بداية ثمانينيات ق20م، حيث التحمت المقاومة اللبنانية بالمقاومة الفلسطينية خلف متراس واحد .. لبنان التي أدت الثمن غاليا وتعرضت للتدمير والدمار، حيث تم إذكاء نار الحرب الطائفية فيها بسبب مواقفها والتزامها بالقضية الفلسطينية، ومن هذا المنطلق كانت بعض الأعمال السينمائية اللبنانية تحمل هم القضية، مثل فيلم "بيروت يا بيروت" للمخرج مارون بغدادي، ثم فيلم "كفر قاسم" للمخرج برهان علوية، ولو أن الحضور السوري كان كبيرا في إنتاج هذا الفيلم، ثم المخرج غاري غاربيدان، والمخرج كريستيان غازي الذي ارتبط إسمه بالمقاومة اللبنانية واعتبر مثالا للمثقف العضوي المناضل، ومن أعماله فيلم "مائة وجه ليوم واحد"(1970) ... فسمي هؤلاء بالجيل الخامس الذي ارتبط بالحرب الأهلية، ومنهم أيضا، جون شمعون وسرور هيني والمخرجة جوسلين صعب ورندة الشهال ... استحقت السينما اللبنانية وصفها بالوطنية، لارتباطها بالحياة اليومية وبالمقاومة والعمل السياسي والحرب الطائفية، بحيث اعتبرت الفن ذا رسالة يتوجب على المبدع الالتزام بها وتمريرها في قالب جميل، من خلال الصورة والصوت والمناظر واختيار المواضيع ذات الصلة، وفق قناعات راسخة، الشيء الذي من شأنه توليد تصور واضح وسليم للإنتاج السينمائي. لا يمكن الإحاطة بكل الجوانب التاريخية التي تهم الشأن السينمائي اللبناني في مقال ضيق لن يوفيها حقها، فقط هي إشارات يحكمها سياق الاستضافة ضمن فعاليات مهرجان سينمائي مغاربي في دورته السابعة، تنظمه جمعية سيني مغرب وجدة ... الهوامش: إبراهيم العريس، الصورة الملتبسة، السينما في لبنان، مبدعوها وأفلامها، دار النهضة العربية، ط. 1، 2010، بيروت.