يسود الاعتقاد عند المثقفين عموما، بل حتى عند بعض الباحثين المتخصصين، بأن الحديث عن المسألة الأمازيغية إبان عهد الحماية إنما يعني أساسا الظهير البربري بتاريخ 16 مايو 1930. وهذا الاعتقاد خاطئ لا محالة؛ لأن ظهير 1930 لم يكن في الواقع إلا تتويجا ونتيجة حتمية لمسلسل بدأت الإيديولوجيا الكولونيالية في رسم حلقاته منذ أمد بعيد، وهو ما يسعى إلى تبيانه الدكتور الطيب بوتبقالت في السلسلة الرمضانية لهذه السنة. 30/30 ردود الفعل الوطنية ليست قضية الظهير البربري من نوع القضايا التي تتضح لأول وهلة مكوناتها ومراميها، بحيث يمكن تحليلها والتعليق عليها بنوع من الطمأنينة المنهجية، لا سيما إذا كانت كل معطياتها متوفرة وطبيعة مدلولها شفافة. إنها قضية تطرح إشكاليات معقدة ومتشعبة، وإذا كان سياقها التاريخي لا يترك مجالا للغموض، فإن آثارها وتجلياتها الظاهرة والخفية لا تخلو من ضبابية في الرؤية وتداخل في المفاهيم. وهي على الرغم من مرور أزيد من ثمانين سنة على حدوثها، فإنها ما زالت في حاجة ماسة إلى التشريح والتوضيح، ومسؤولية ذلك تقع في المقام الأول على عاتق الباحثين الجادين والمفكرين المغاربة النابهين. لقد تميزت قضية الظهير البربري بملابساتها الاستعمارية والتبشيرية، وبانعكاساتها الاجتماعية والثقافية، وبتداعياتها السياسية الوطنية والدولية، وتمخض عن تفاعلاتها انفجار عاصفة إعلامية كانت هي الثانية من نوعها التي عرفها المغرب خلال الثلث الأول من القرن العشرين، بينما كانت الأولى هي تلك التي سجلتها حرب الريف بفارق خمس سنوات فقط. وطبعا، كانت ردود الفعل حيال الظهير البربري صاخبة ومتباينة، وكان سياقها الكولونيالي مطبوعا بقمعه لأدنى الحقوق وكبته لأبسط الحريات. وأما من الناحية الكمية فيمكن القول بأن حصيلة تلك الردود تجاوزت بكثير كل توقعات الإقامة العامة، وفاجأت سلطات الاحتلال بأصدائها العالمية. لقد صدر للحاج الحسن بوعياد سنة 1979 مؤلف يقع في حوالي 700 صفحة خصصت بكاملها لرصد الأصداء التي خلفها الظهير البربري خارج المغرب، وجاء عنوان هذا الكتاب على الشكل التالي: «الحركة الوطنية والظهير البربري، لون آخر من نشاط الحركة في الخارج». وبكل تأكيد، لم يكن هذا الرصد جامعا لكل الأصداء المتعلقة بالحدث، لكن أهمية المجهود المبذول لا تحتاج إلى برهنة أو تبيان. الحركة الوطنية ترفع شعار "اللطيف" أمام هول الفاجعة وفظاعة النازلة يكون رد الفعل الطبيعي للإنسان بصفة عامة هو اللجوء إلى صميم الإيمان والتفكير مليا في سر الوجود وحتمية الفناء، وفي حالات من هذا القبيل عادة ما يردد الإنسان المغربي عبارة «لا حول ولا قوة إلا بالله». وهذا هو الإحساس نفسه تقريبا الذي عبر عنه الشارع المغربي بمجرد ما تم اطلاعه على فحوى الظهير البربري. وماذا عساه كان أن يفعل؟ لقد عمّ الطغيان واستفحل جبروت الاستعمار. ولكن بالرغم من ذلك بقي للشعب المغربي بصيص أمل تغذية روح العزة والكرامة التي كانت تدفعه إلى الصمود مهما عظمت الشدائد وكيفما كانت العقبات. وهكذا في غضون أيام قلائل تكونت تلقائيا حركات التنديد الشديد بما قام به الاستعمار من أمر شنيع، وحتى لا تبقى الحركات الاحتجاجية عشوائية وغير منظمة، وبالتالي ضعيفة التأثير، كان لا بد لها من نقطة ارتكاز تحظى بإجماع المغاربة الوجداني وتوقد فيهم ذلك الحماس الروحاني، فكانت هي المسجد بيت الله، ومنه تعالت الدعوات التعبوية التي حملها هذا الشعار المعبر عن روح الإخاء الصادق وعمق الاستياء الناطق: «اللهم يا لطيف نسألك اللطف فيما جرت به المقادير، وألا تفرق بيننا وبين إخواننا البرابر". وكانت أجواء الاستنكار وما واكبها من مجهودات تعبوية توحي بأن الظهير البربري كان الشرارة التي اشعلت فتيل مقاومة مغربية من نوع جديد، تحتل فيها العناصر الشابة المتعلمة مكان الريادة. ولا شك في أن في ذلك نوعا من المبالغة. صحيح أن الانتفاضة الشعبية المناهضة لهذا الظهير شكلت محطة من الأهمية بمكان في سجل الكفاح السياسي ضد القوى الاستعمارية، ومنها تفتقت المواهب النضالية للشباب المغربي المستنير. وفي خضم تلك الحركات التنديدية بدأت بعض الأسماء تتصدر قائمة أولئك الذين كانت المصالح الاستخباراتية التابعة للإدارة الأمنية الكولونيالية تقتفي آثارهم وتترصد تحركاتهم وتصرفاتهم. وطبعا، كان مآل الكثيرين منهم هو النفي والسجن والتعذيب... ومن بين هذه الأسماء نجد عبد اللطيف الصبيحي، عبد اللطيف العتابي، عبد العزيز بن إدريس، علال الفاسي، محمد بن الحسن الوزاني، محمد بن عبد السلام لحلو، حمزة الطاهري، أحمد مكوار، أحمد أبو عياد، عبد الرحمان بن القرشي، عمر بن عبد الجليل، الهاشمي الفيلالي، محمد اليزيدي، الحسن ولد العربي بوعياد، محمد المكي الناصري، محمد بنونة، عبد السلام بنونة، أحمد بن عبد السلام بلا فريج، عبد الخالق الطريس، المختار أحرضان، محمد أقلعي، الشيخ محمد بن الصديق، إبراهيم الوزاني، وآخرين ممن اعتبرتهم السلطات الاستعمارية «شرذمة الزعماء». وكانت دعاية الإقامة العامة تصورهم على أساس أنهم «في الأغلبية مجموعة غير متجانسة، فمنهم الأفاضل ومنهم الأوباش، ومنهم المتدينون ومنهم الملحدون، بعضهم على اطلاع بالثقافة الفرنسية الراقية، والبعض الآخر حبيس الثقافة الإسلامية، لقد وطدوا علاقاتهم، وغالبا ما تتم لقاءاتهم في طنجة وتطوان والرباط وفاس والدار البيضاء. وأسفارهم تشمل بلاد المشرق وبلاد أوربا، وتنقلاتهم من المغرب في اتجاه فرنسا غالبا ما تمر عبر سويسرا حيث يساهمون في ندوات شكيب أرسلان الدعائية». وأما تأثيرهم على الشارع المغربي ومدى التفافه حول المبادئ التي تعبر عنها أنشطتهم، فإن إدارة الشؤون الأهلية تنتقص من أهميته وتتهكم على من كان يؤازرهم: «ويحوم حول هذه الشرذمة مجموعة من العناصر حديثة العهد بانضمامها إلى قافلتهم والتي تتشكل من زمرة من الفاترين، ومن آبائهم الذين لم يعودوا قادرين على تربيتهم فاستسلموا للانبهار بشعبيتهم، إنهم بحق شرذمة من العاطلين المثقفين، المهذارين والمتشدقين، الذين لم يعد يشغلهم أي شيء سوى الكلام والكتابة ضد الإنجازات الفرنسية بالمغرب". وبالرغم من ظروف الاستعمار القاسية والمعاناة اليومية، يمكن القول بأنه انطلاقا من واقعة الظهير البربري شهدت الساحة السياسية المغربية تنظيما تدريجيا لجيل جديد ملتف حول ملك شاب، بهدف التصدي للواقع الكولونيالي العنيد وممارساته التخريبية. وبينما كانت التعبئة الداخلية تزداد متانة وانتشارا، كانت الأصداء الخارجية تضيف للحركة الناشئة تشجيعا معنويا زادها عزما وثباتا. ثمار الظهير استطاعت الحركة الوطنية أن تواصل مناهضتها للاستعمار بفضل نجاحها في استعمال آليات الكفاح السياسي المتطور فكانت حملاتها، انطلاقا من قضية الظهير البربري، لا تنقصها الجوانب التنظيمية ولا تغيب عنها الهواجس التنسيقية. ومما يلفت الأنظار تلك المجهودات التي بذلتها من أجل حشد التأييد والمؤازرة من لدن منابر إعلامية عربية وأوروبية، ومن لدن شخصيات بارزة من أمثال شكيب أرسلان وروبيرجون لونكي، بالإضافة إلى حصولها على مساندة من التيارات اليسارية المناهضة للاستعمار والإمبريالية. وعموما، كانت إستراتيجية الحركة الوطنية، بالرغم من ضعف الإمكانات، ناجحة جدا. لقد لعبت محاضرات بعض العناصر الوطنية في القاهرة، وباريس وجنيف دورا مهما في تنوير الرأي العام الخارجي عبر تصديها لتحريف الحقائق وتزييف الواقع، وفضحها لكل الأساليب التي دأبت الدعاية الكولونيالية على إشاعتها في شتى بقاع العالم. ووقف إلى جانب القضية المغربية علماء الأزهر وعدد كبير من الجمعيات والرابطات العربية والإسلامية في عدة مدن في المشرق العربي وحتى في أوروبا، خاصة في برلين، وفيينا وباريس وجنيف. وكانت صحافة القاهرة والإسكندرية ودمشق وحلب تفتح أعمدتها للتنديد بما تقوم به السلطات الفرنسية من تشويه وتحطيم للمقومات الثقافية والدينية للشعب المغربي. وتميزت مقالات مجلة «المغرب» الصادرة بالفرنسية بمهاجمتها وانتقاداتها اللاذعة لسياسة الحماية البربرية. ومن جملتها مقال تحت اسم مستعار لعمر عبد الجليل يقول فيه: «إننا بمقاومتنا للسياسة البربرية نريد تقريب عناصر الشعب المغربي وتوحيده، نريد محاربة مبدأ التجزئة الماكيافيلي الذي يتفنن في نشره ممثلو فرنسا العسكريون والدينيون، نريد أن نمنع فبركة كتلتين شعبيتين مغربيتين متناقضتين وفقا لإستراتيجية المستعمر، نريد ضمان ممارسة حرية التفكير والتعبير للمواطنين المغاربة جميعا بكيفية جديدة". وكان أول المؤشرات على التصدع النسبي الذي لحق بالجبهة الكولونيالية هو الانفصام المحتشم بين الحركة التبشيرية والحركة الاستعمارية، بحيث كان الظهير البربري بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير بالنسبة إلى الدعاية الكاثوليكية بالمغرب التي بدأت في التراجع منذ ذلك التاريخ. وأصبح يوم 16 ماي من كل سنة مناسبة وطنية لتجديد الاستنكار والتنديد، ولم تعد التظاهرات تكتفي فقط بالمطالبة بإلغاء الظهير البربري المشؤوم، وإنما تبلورت في خضمها مطالب جديدة معقلنة وجريئة. وكان بديهيا أن تشكل حرية التعبير بمفهومها القانوني والسياسي عنق الزجاجة بالنسبة للحركة الوطنية المغربية، التي ناضلت تحت وطأة الاغتيالات والسجن والنفي والقمع والتعذيب؛ لكنها عرفت كيف تخترق الستار الحديدي للدعاية الكولونيالية المفروضة عبر دفاعها المستميت عن عدالة قضيتها في الداخل، متجاهلة الحدود الاستعمارية المصطنعة، وفي الخارج على مستوى البلدان الشقيقة والمتعاطفة، وفي كل المحافل الدولية والتنظيمات المناهضة للحركة الاستعمارية. لقد تعلم المغاربة تنظيم الحملات الإعلامية وكتابة المقالات الصحافية الهادفة وتحرير برقيات ومناشير التنديد، تعلموا كيف يؤسسون الجمعيات الثقافية والحركات الكشفية والأحزاب السياسية. كان هدفهم نشر الوعي الوطني في كل الأوساط الاجتماعية خدمة لاستقلال البلاد وتحقيقا للانعتاق وكرامة المواطن المغربي. وكان من بين إفرازات أجواء القمع التي طالت مختلف شرائح المجتمع المغربي تلك العبارة المشهورة «تتكلم في السياسة!؟» التي لم تكن مجرد نكتة بل اتهاما خطيرا، كثيرا ما كان يسفر عنه مزيد من الاضطهاد ومصادرة أبسط الحريات.. لقد كان الظهير البربري تلك الشحنة اللازمة لهذا التوجه وتلك الصدمة الكهربائية التي تجعل المرء يقول لعل في كل نقمة نعمة... التاريخ بمنهجية لماذا وليس بمنظور كيف... لا شك في أن يوم 16 ماي 1930 سيبقى منقوشا في الذاكرة المغربية بتساؤلاته الخطيرة. ويبدو أن الردود التي خلفها الحدث هي التي استأثرت باهتمام أجيال ما بعد الاستقلال نظرا لكميتها الهائلة من جهة، ونظرا لتأثير تلك الكمية على واضعي المراجع الدراسية التاريخية من جهة ثانية. إنه بالإمكان تخصيص سلسلة حلقات من المقالات اليومية الضافية لمختلف ردود الفعل المترتبة عن قضية الظهير البربري، على مدار سنتين أو ثلاث سنوات بدون انقطاع؛ ولكن ما الفائدة من التركيز على الردود الوصفية للفعل دون البحث عن أسباب ومسببات الفعل؟ وبعبارة أوضح، إن التاريخ ليس عبارة عن سلسلة من ردود الأفعال لأحداث وقعت؛ ولكنه على عكس ذلك مدرسة لتحليل تلك الأحداث وأخذ العبرة من تجربة الماضي. ومن هذا المنظور، فإن قضية الظهير البربري لم تكن سوى نبتة تفتحت براعمها في ثلاثينيات القرن العشرين لبذرة تم زرعها منذ عشرات من السنين خلت، بحيث كان اجتثاثها رهينا باجتثاث من يرعاها ويوفر لها الظروف الملائمة لنموها. وعليه، فإن نمذجة التساؤلات بغية اكتشاف كنه ماذا حدث يجب أن تنطلق من سؤال لماذا حدث ذلك؟ وليس الوقوف المستسلم عند كيف حدث ذلك؟ لأن تغليب سؤال «كيف؟» في التحليل يفرض علينا حتما أسلوبا للتعامل مع الأحداث ليس بالاستناد إلى موقعنا كفاعلين، وإنما فقط بالاستناد إلى كوننا منفعلين ومتأثرين، وهذا الأسلوب بالضبط هو الذي ينتج ويشجع ثقافة رد الفعل العقيمة التي يجب التخلي عنها نهائيا في مواجهة كل التحديات !... *أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة – طنجة