لقد راعت انتباهي، كمتتبع لملف الصحراء المغربية بصفة عامة وللعلاقات المغربية الألمانية بصفة خاصة، طريقة تلقي نبأ تعين السيد كولر كمبعوث شخصي للأمين العام للأمم المتحدة مكلف بملف الصحراء في الأوساط الإعلامية المغربية. تلقته كأننا نعرفه جيدا، نعرف نشأته، تعليمه، مساره المهني وقناعاته السياسية، التي أعرب عنها في مواقف عدة. هذه المقالة ستخوض في كل هذه المعطيات وتطرح سؤال كيف تتعامل ألمانيا مع ملف الصحراء المغربية؟ كولر.. المنشأ والمسار المهني ولد كولر في مدينة بولونية تسمى سكيربيتشوف (Skierbieszów) كسابع ابن من أصل ثمانية سنة 1943 لأبوين من أقلية ألمانية تسمى بيسأرابيين .(Les Allemands de Bessarabie) وُطنت هذه الأقلية خلال الحرب العالمية الثانية في مناطق تقع اليوم تحت السيادة البولونية. هربت الأسرة سنة 1944 من زحف الجيش الأحمر لتستقر سنة 1957 نهائيا في مدينة لودفيش بورغ (Ludwigsburg). درس كولر علم الاقتصاد القومي وحصل على درجة دكتوراه، ليبدأ سنة 1976 مساره المهني في وزارة الاقتصاد ويتبوأ سنة 1990 منصب كاتب الدولة في الوزارة نفسه. سنة 1933 سيترك كولر وزارة الاقتصاد ليترأس مجموعة بنكية في ملك الدولة يطلق عليها اسم صناديق التوفير والحسابات الجارية الألمانية (Der Deutsche Sparkassen- und Giroverband e. V. ). سيتولى كولر سنة 1998 منصب رئيس البنك الأوروبي لإعادة البناء والتنمية في لندن، لينتقل بعد سنتين إلى واشنطن ويصبح المدير التنفيذي لصندوق النقد الدولي. وفي 23 ماي 2004، سيصبح السيد كولر تاسع رئيس لجمهورية ألمانيا الاتحادية ليستقيل في 31 من ماي 2010 من هذا المنصب. مدة سنتين سيخلد كولر إلى الراحة ليعود كفاعل في دور جديد. هذه المرة من داخل أروقة الأممالمتحدة كمستشار في إطار لجنة تعمل على تسطير أهدف النمو على مستوى العالم، ليتم أواسط غشت سنة 2017 ترشيحه بفضل حنكته ومعرفته بالقارة الإفريقية كمبعوث شخصي للأمين العام للأمم المتحدة مكلف بملف الصحراء كخلف لدبلوماسي الأمريكي كريستوفر رووس. لكي نفهم الرجل أكثر نريد أن نلقي الضوء على فترة ولايته كرئيس لألمانيا. نرى كيف تعامل مع الوضع الداخلي والخارجي لألمانيا حينها وكيف كانت علاقته مع محيطه وباقي الفاعليين السياسيين في برلين؟ الرئيس الاستثنائي بكل المقاييس يعد كولر كأول رئيس لألمانيا آت من خارج دواليب السياسة. فهو رجل اقتصاد بدرجة أولى ومساره المهني يشهد على ذلك. وربما عدم حنكته السياسية هذه كانت هي السبب وراء استقالته من منصبه، بعد تصريحات حول تدخل ومشاركة الجيش الألماني في بعثات السلم الأممية وتدخلات الحلف الأطلسي. في حديث له مع راديو ألمانيا مباشرة بعد زيارته لفيالق الجيش الألماني المشاركة في الحرب في أفغانستان قال بالحرف الواحد: "تقديري هو أننا في العموم على الطريق الصحيح، أيضا وسط السواد العظيم في المجتمع، لنفهم أن بلدا بحجمنا، بتوجهاته التجارية القائمة على التصدير والمرتبطة بالتصدير عليه أن يعرف أنه في حالة الشك وعند الضرورة لا مناص من التدخل العسكري لحفظ مصالحنا، كالطرق التجارية الحرة على سبيل المثال ومنع مناطق بأكملها في السقوط في الفوضى، التي ستؤثر سلبا على فرصنا، على تجارتنا، على مناصب الشغل وعلى الدخل الفردي في ألمانيا. علينا مناقشة كل هذه النقاط وأظن أننا نسير في الطريق الصحيح في هذا الشأن". كون أن، الأمن القومي الألماني ورخاء ألمانيا متعلق بحفظ التجارة الحرة على مستوى العالم والعمل على منع عرقلتها بشتى الطرق من بينها أيضا استعمال القوة فهي مسألة متفق عليها في مراكز القرار الألماني والتقرير الحكومي الألماني في هذا الخصوص ينص على ذلك بشكل صريح، لكن ليست هناك أية إشارة مباشرة إلى التدخل العسكري للجيش الألماني. ما فعله كولر إذا -كرجل اقتصاد- أنه ربط بين مصلحة ألمانيا والتدخل المحتمل للجيش الألماني في بقاع الأرض للحفاظ على هذه المصلحة؛ وهو ما يجعل من الجيش أداة هجوم في يدي الاقتصاد بدل أن يكون دوره حماية والدفاع عن ألمانيا. بعد هذا التصريح، تهاطلت الانتقادات على كولر من جميع الاتجاهات من قادة أحزاب الخضر واليسار والحزب الاشتراكي الديمقراطي وأيضا أحزاب التحالف حينها الحزب الليبرالي والمسيحي الديموقراطي والمسيحي الاشتراكي الموحد كلهم أبدوا استهجانهم من موقف كولر. البعض في الوسط الأكاديمي رأى في موقفه هذا موقفا إمبرياليا صريحا ولحظة حميمية أسر فيها كولر بنظرته الحقيقية لطريقة تدبير سياسات العالم. ليست تصريحات كولر هذه فقط كانت محط انتقاد، بل أيضا تصرفه المتعجرف مع الرئيس الأفغاني آنذاك كرازاي في كابول وتعامله البارد مع الجنود الألمان هناك فتح عليه أبواب الانتقاد. ولايته كرئيس كان لها وما عليها. فلقد اتسمت بعدم الثقة مع العاملين تحت إمرته -في ست سنوات غيَّر ثلاثة كتاب عامين والكثير من مؤلفي الخطابات- وكان معروفا بعصبيته وانفعاله السريع وارتيابه الفظيع، كأن يطلب أن تصاغ خطبة مثلا أكثر من عشر مرات. في أروقة برلين السياسية ازداد الاستياء من الرئيس، الذي رفض أكثر من مرة التوقيع على مشاريع قوانين حكومية وحاول التدخل عدة مرات في أمور الحكومة وبدأ يلعب أدورا أكبر منه وبدل أن يكون بوصلة للاقتصاد الألماني في ساعة الأزمة الاقتصادية العالمية آنذاك، بدأ يحشر أنفه في أمور هو في منأى عنها كأسعار البنزين مثلا أو أن يصف أسواق المال العالمية ب"الغول". ضاقت السياسة بكولر ذرعا -أيضا مركل، التي يرجع إليها الفضل في وصوله إلى هذا المنصب- فشددت عليه من كل جانب الخناق ولم يتحمل الضغط الهائل، الذي فرض عليه فلم يبق له إلا أن يترك حلبة برلين بطعم الخسارة ممزوجا بالمرارة والاستياء. بالرغم من أنه قد كان محبوبا من لدن عامة الناس. ألمانيا وقضية الصحراء المغربية من مسلمات الصراع حول الصحراء المغربية هو أن الحل بيد الدول العظمى، خصوصا أمريكا. ويبقى موقف فرنسا القوي المساند للمغرب طوق النجاة للمملكة في أروقة الأممالمتحدة؛ لكن نريد هنا أن نلقي الضوء على مواقف الفاعليين في أقوى بلد أوروبي. تبقى أحزاب اليسار الراديكالي وأحزاب الخضر في ألمانيا وأوروبا عموما من أكبر مناصري الجبهة. في حين تتخذ أحزاب اليسار واليمين الوسطيين موقفا محايدا وتدعو إلى حل القضية عبر الأممالمتحدة. حسب الموقع الرسمي للجيش الألماني على الشبكة العنكبوتية، فإن ألمانيا تشارك ومنذ 2013 بأربعة جنود في البعثة الأممية؛ وذلك بشكل دائم ما دامت الأممالمتحدة تجدد مهام بعثتها في المنطقة. يتم التنسيق بين الجنود الألمان والمبعوث العسكري في سفارة ألمانيا بالرباط. هذا يبدي مدى اهتمام برلين بالصراع جنوب المتوسط. رسميا تدعو دولة ألمانيا الأطراف إلى الجلوس إلى طاولة الحوار والتوصل إلى حل متفق عليه يرضي جميع الأطراف وذلك برعاية أممية؛ لكن الأحزاب الصغيرة الداعمة للجبهة تشتغل بتنسيق وإيعاز منها ومن مسانيدها على تطويق الموقف المغربي على المستوى المحلي والأوروبي. نشير هنا مثلا إلى دعوة البرلمان المحلي لولاية برمن (Bremen) وهي من أصغر الولايات حجما ووزنا سنة 2016 الأممالمتحدة إلى فرض الاستفتاء في الصحراء المغربية عنوة. ومن المعروف أن اليسار المتطرف والخضر هم من يقف وراء الحرب الاقتصادية المسعورة ضد المملكة المغربية في البرلمان الأوروبي. الخارطة السياسية في ألمانيا لن تأتي أبدا باليسار الراديكالي أو بتحالف من اليسار الرديكالي مع الخضر إلى حكم ألمانيا. زيادة على ذلك، فمنطق الاقتصاد والأمن الجيواستراتجي يقول بأن قوة كالمغرب أصلح لألمانيا وأوروبا من الرهان على المجهول؛ لكن تبقى قضية الصحراء حجرة في حذاء المغرب وورقة ضغط في يد أوروبا لتنال من المغرب أقصى ما يمكن وتبقيه مشغولا بنفسه (اتفاقيات الفلاحة والصيد البحري على سبيل المثال). هذا يعني أن على المغرب الدفاع باستماتة وبجميع الطرق على مصالحه العليا؛ وذلك بالعمل على الترويج لموقف المغرب وسط الإعلام الألماني وبناء لوبي مساند للمغرب في الوسط السياسي الألماني وتقوية روابطه مع الفاعليين الاقتصاديين الألمان. كما أن فهم شخصية المبعوث الشخصي للأمين العام للصحراء ومحيطه والعاملين معه سيسهل التواصل معه. وتبقى سياسة اليد الممدودة لجميع القوى في العالم وسياسة رابح رابح، التي ينهجها المغرب السياسة الأنجع لإدارة الملف مستقبلا. * أستاذ باحث بشعبة اللغة الألمانية بكلية الآداب ظهر المهراز فاس [email protected]