أمر هام جدا أن يُحدث الأفراد والجماعات مراجعات فكرية وسلوكية ينتقلون بها من مرحلة الى أخرى، أو يصححون بها اختلالات وأخطاء كانوا عليها. ولكن أهم من ذلك أن تكون المراجعة تحولا نحو الأفضل والأحسن، أي انتقالا من غلو أو اختلال الى توسط واعتدال. فالأمر هنا اشبه بما قرره العلماء بخصوص تغيير المنكر، بحيث لا ينبغي ان يؤدي الى ما هو أنكر منه، وإلا لزم من ذلك الإبقاء على المنكر أو الضرر الأدنى دفعا للمنكر أو الضرر الأعلى. يصدق هذا على ما بتنا نسمعه ونقرأه من آراء وأقوال في الدين خصوصا، هي عند أصحابها "اجتهادات" أو "كشوفات" لم يقع الانتباه اليها طيلة القرون الماضية. وتستوي في هذا الأمر طائفتان، إحداهما تزعم "الاجتهاد" و"الكشف" من داخل الدين، بقلب مقولاته أو الانقلاب على مقرراته. والثانية من خارج الدين، تسقط أقوالا وأفعالا عليه تريد إكسابها "شرعية" لتعميمها وتبرير تداولها. ولست أقصد هنا البحوث والدراسات التي يجتهد فيها أصحابها من خلال تصور ومنهج في البحث، فهذه تفرض احترامها مهما كانت مخالفة. وإنما أقصد الأقوال العارية عن كل تصور ومنهج. وأخطر ما فيها أنها تنسب نفسها الى: العلم والمعرفة والعقل والعصر والحرية والاجتهاد والمجتمع...إلخ، وهذا في الواقع ما استفزني الى كتابة هذه اللمعة. فحين يتم التشكيك والتلبيس من خلال هذه المفردات التي الأصل فيها البناء والانضباط الى منهج وتصور وقواعد في الفهم، تتم الإساءة اليها هي ذاتها كمفردات. بحيث تفرغ من معانيها ومضامينها المؤسسة لتصبح مفتوحة على كل قول ورأي، بل وعلى نقيضهما كذلك. كان هذا أسلوبا يمارسه المستعمر في البلدان المستعمرة، حينما يجهز على نظامها الفكري، تماما كما يجهز على مقدراتها المادية. وذلك من خلال تعطيل، أو على الأقل التشويش، على مفرداته الحية والفاعلة فيه. إنه أمر أشبه بتجريد المحارب من السلاح، أو تعطيل سلاحه، وهو في ساحة الحرب. إن العلم والمعرفة والعقل والاجتهاد... آليات للبناء والنقد والتقويم والمراجعة، إذ بها ترد الأمور الى نصابها، وتسترجع اعتدالها واتزانها، فإذا اختلت هي كذلك فما معايير النقد والتقويم بعد ذلك؟؟ فهذا الذي عابه نقاد كثيرون على "سيولة" المركزية الحضارية الغربية الراهنة باسم الحداثة وما بعدها، والتي أذابت وصهرت في نزوعها الامبريالي الشرس ما كان سببا في نهضتها وتحررها من الجهل والخرافة، أي العلم والعقل والطبيعة والانسان...، حيث تحول كل ذلك الى خدمة "الآلة" الرهيبة التي لا يقف في وجهها شيء الآن، والمتجهة دوما الى المزيد من الإنتاج والربح والاستهلاك، مهما خلف ذلك من دمار في الكون والكائنات. إنني أومن بالاجتهاد والتجديد، وبنبذ الجمود والتحجر والقليد، ونقد النمطية واستنساخ التجارب، وأقدر كثيرا دور العقل في الفهم، ومنهج العلم والسنن في البناء...، ربما أكثر مما يؤمن بذلك أصحاب هذه المقولات التي سنأتي على ذكر بعضها. لكن حينما نلغي الفكر بدعوى إحيائه، والمعرفة بدعوى تجديدها، والعقل بدعوى تحريره، والتاريخ بدعوى تجاوزه...، فذلك من أبشع وجوه الغلو والتطرف الذي يتم تمريره الى الأجيال، بل من أكبر الجرائم التي ترتكب في حقها حينما نسلمها آليات ليست قادرة على إنتاج شيء، وترسخ فيها القابلية للتبعية لكل شيء. فإنما يحيى الفكر بالفكر المنتج لمعنى إضافي فيه يُقومه أو يُقويه. وتتجدد المعرفة بإنتاج جديد فيها يطورها ويفتح آفاقا أخرى فيها، ويتحرر العقل بقدرته على ضبط النزوات والشهوات لا بالارتكاس فيها، ويُتجاوز التاريخ بالبناء عليه رصيدا وأرضية صلبة لا بالتنكر له. الفرق واضح إذن بين أطروحتين، تقتل إحداهما المعاني الحية بدعوى، أو توهم، إحيائها، حينما تفرغها من كل دلالة أو مضمون إيجابي. وتعمل الثانية على إحيائها بالفعل من خلال تلك المضامين والدلالات أولا، باعتبارها إمكانا ذاتيا في البناء مادام البناء لا يستعار كلا من الخارج وإنما يبنى من الداخل، مع الانفتاح على كل الإمكانات المفيدة. إن الأصل في الغلو والتشدد والتطرف...، أنها مواقف، أقوالا كانت أو أفعالا، متجاوزة للحد الوسط الجامع، شاذة عن السياق المطرد، فاقدة للتوازن والاعتدال، تقع في الغالب الأعم على الهوامش والأطراف. وليس مرادنا الحديث عن أسباب ذلك الدينية أو الاجتماعية أو السياسية...، وإنما عن ظاهرة أخرى ربما أدق من حيث التشخيص، وهي: كيف نخرج من الغلو الى الاعتدال في الأقوال والأفعال؟؟ فهل كل من قال: أنا خرجت من الغلو وراجعت أقوالي ومواقفي كان كذلك، ولو مارس الغلو بشكل آخر وبطريقة أخرى؟ وهل كل من انتسب الى الحداثة والعصر والمقولات "الكونية" السيارة في الهواء، كان ناجيا من الغلو والتطرف، ولو مارسه بأبشع وأقبح الصور في حق المجتمع والأمة والناس؟؟ ولماذا يُنسب الغلو الى "الديني" ويكاد يُعفى منه "اللاديني"، ولو كان نظيرا ومماثلا له في الفكر وفي السلوك؟؟ تحيلنا الأسئلة أعلاه على أزمة في التشخيص تستدعي، أول ما تستدعي، التحرر من التصنيفات الجاهزة التي تنسب التخلف الى "الدين" وكل فكر ديني مهما كان متقدما، والتقدم الى "الحداثة" وكل فكر حداثي مهما كان متخلفا.. هكذا وبإطلاق. إن الوقوف على الهوامش والأطراف أمر واحد فكرا وسلوكا وإن اختلفت المواقع. وحتى الذي يقفز من منطقة غلو عدمية ليقع في أخرى عدمية مثلها، لن يكون في حقيقة الأمر قد أحدث نقدا ولا مراجعة، فهو غير الموقع فقط، وحافظ على نفس "منهجية" التفكير المنتجة لمواقف الرفض والغلو تجاه "الآخر". وحتى هذا "الآخر" يتغير بالنسبة للمنتقل أو "المتحول"، فإذا كان "لا دينيا" يصبح "دينيا" والعكس صحيح. ورحم الله الدكتور المسيري حينما كان يقول: إن التخلص من الفائض البشري غير المنتج، مبدأ فكري وسياسي واحد تشترك فيه كل النظم الشمولية: شيوعية ونازية وفاشية ورأسمالية...، وإنما تختلف فيها وسيلة التخلص فقط. فإحداها تعتمد ثلاجات التبريد "الديموقراطي"، يقصد المحاضن والملاجئ ودور العجزة. والأخرى تعتمد أفران الغاز الساخنة، يقصد "المحارق"، ويبقى المهدور في الحالتين معا واحدا هو: كرامة الانسان. إن الذي يريد أن ينقلنا من إنكار مسلمات ومطلقات الدين، ليضعنا في التسليم ب "مطلقات" و"مسلمات" الانسان، لم يفعل في الواقع شيئا من أجل النهوض والتحرر. وإنما يرهننا ل "مسلمات" نسبية فيها القول ونقيضه، ويحرمنا من مصدر إلهام وإرشاد غني هو المطلق الأصل الذي بإمكانه تقويم "مسلمات" الانسان. وقوله لا يغير من واقع الأمر شيئا، بحيث يبقى المطلق مطلقا والنسبي نسبيا، وإنما يشوش ويلبس على الناس فقط. وإن الذي يريد أن يتخلى عن تراثه وماضيه ويزدري به، ينتهي به المطاف لا محالة، إن لم يكن ذلك قصدا أولا له، الى الارتماء في أحضان تراث غيره وتمجيده. وهذا القول أيضا لا يغير من واقع ماضي وتاريخ وتراث الأمم شيئا، فهو في مكانه بإيجابياته وسلبياته، ولم نسمع قط بتاريخ نظيف لأمة من الأمم ليس فيه أخطاء وتجاوزات. لا أريد أن أسترسل في هذه المقاربة الثنائية لأنها منقوضة من أساسها، حينما تنطلق من التسليم بوجود التقابل بين طرفي كثير من الثنائيات، في حين أن الأصل فيها التكامل لا التقابل. علما أن فكرة الصراع والتقابل مستعارة ووافدة من النموذج الفكري والسياسي الغربي تحديدا، وبالإمكان تجاوزها والهيمنة عليها بإمكانات في التكامل يتيحها النموذج الفكري الإسلامي إذا أحسن فهمه وإعماله. وبدل الاشتغال على هذه الواجهة في التقويم والمراجعة مثلا، هناك من يحرص على إبقائنا أسرى الخلاف والصراع والنزاع والدوران المحلي العدمي الذي يؤخر ولا يقدم. هناك من يحتج باجتهادات عمر بن الخطاب (ض)، مثلا، في حد السرقة وتوزيع أراضي العراق ومنع سهم المؤلفة قلوبهم ومنع الزواج بالكتابيات...، لكي يجتهد هو أيضا في الإرث وفي التعدد...، وفي كل ما ورد فيه نص كما وردت في تلك الوقائع نصوص. وتجد هذا الصنف حريص على تغيير وتجاوز النص، أكثر من حرصه على فهم لماذا وكيف فعل عمر بن الخطاب (ض) ذلك. يتجاوز أن عمر (ض) تصرف بصفته إماما وولي أمر، وأنه راعى مقصد الشارع فيما شرع حينما لم يتحقق مناط تنزيل الحكم أو شرط مناسبته، وانه أعمل نصوصا أخرى في بعض تلك القضايا، وأنه أدار من أجل اتخاذ تلك القرارات شورى وحوارا بين الصحابة حتى استبان وجه المصلحة ورجح الخيار الأصوب والأسلم. وقلت في لمعة سابقة إن للواقع أثرا في تكييف الحكم، ولم نر بعدُ دراسة تصف لنا الواقع بهذا الاعتبار. بل ما يوجد العكس تماما، تضخيم الأمور والقضايا الصغيرة وتحجيم الأمور والقضايا الكبيرة، بل طرح قضايا لا وجود واقعي لها أحيانا. وكل ذلك يدل على أن هذه أمور هي مجرد تقليد للغرب واستحضار لمشكلاته وإن لم مشكلات عندنا. ففي بعض الدراسات أن نسبة التعدد عندنا لا تكاد تتجاوز واحدا بالمائة، وأن نسبة العنوسة تتجاوز الخمسين بالمائة، فأيهما أولى بالنظر وإيجاد الحل كظاهرة اجتماعية؟ ولم يقل لنا أحد مثلا من خلال دراسة أو إحصاء، أن نسبة إنفاق المرأة على الأسرة قد جاوزت أربعين أو خمسين بالمائة كي تكون ظاهرة اجتماعية، وتبرر طرح مسالة "الاجتهاد" في الإرث والمساواة فيه، حيث يطرح هذا الموضوع للأسف من منظور جزئي، مبتورا عن المنظومة المتعلقة به، وعن النظام التشريعي العام الذي يؤطره داخل فضاء الأسرة وداخل فضاء المجتمع. ثم داخل دولة ينظمها دستور حدد هوية واختيارات البلد ورمزيته الدينية، نجد من يمتطي صهوة الغلو في الجهل بالدين فيسفه هذه الاختيارات، ويغلو أكثر حينما يبرر المثلية واللواط بالدين، ويدعو الى تقنينه وتعليمه، ويعتبر الجسد ملكا لصاحبه يفعل به ما يشاء، وأن للأفراد حريات لا محدودة في ذواتهم،...الخ. فهل يحتاج هذا الكلام الى تعليق وعلى أي أساس؟ وكيف لا يكون هذا غلوا؟ فلو بقي هؤلاء على جهلهم بالدين لكن أفضل لهم من الحديث بالجهل في الدين، ولو اكتفوا بالجهالة في أنفسهم لكن أفضل لهم من حرصهم على إشاعتها بين الناس. ترى لماذا يحرص بعض الناس على أن يروا في الغرب الرذائل التي تقع على هامشه، ويعرضون عن كثير من الفضائل التي تقع في صلبه؟ فهل بالرذائل نهض الغرب وتقدم أم بالفضائل؟ وهل تعميمها وتعليمها سيحقق النهضة والاقلاع في الأمة؟ نقرأ في كتب التاريخ التي لا يقبلها هؤلاء، وخصوصا كتب مؤرخي الحضارة الإسلامية من الغربيين أنفسهم، أن الغرب نقل وترجم معظم علوم ومعارف المسلمين وجعلها من أساسات نهضته، وأعرض عن كل خصوصياتهم الدينية والثقافية التي تشكل هويتهم، فله هويته وخصوصيته الدينية والثقافية كذلك، وهذا أبسط درس يمكن استخلاصه في التدافع الحضاري بين الأمم والشعوب. وفي الوقت الذي يتجه فيه البحث الى استرجاع القيم الدينية لتقويم اختلالات الغلو المادي في المركزية الغربية الذي عممته للأسف على البشرية، نجد من يسارع الى إبعاد تلك القيم ومحاربتها متوهما أنه يناصر "الحداثة" و"التطور" و"الحضارة"...، وإذا سألته كيف تبنى تلك النماذج وعلى أي أساس بنيت ابتداء؟ وما الأصل الثابت فيها وما المتغير؟ لم يهتد ربما الى جواب. نريد من المراجعات أن تنتقل من الغلو الى الاعتدال، لا أن تسقط في غلو مقابل، والاعتدال مساحة واسعة من الاختلاف والتنوع والتعدد. كما نريد إدانة للغلو "منهجا" في التفكير أيا كان مصدره، وليس "موقعا" مَهْمَا اختلف مكانه. ونريد للمراجعين أن يكونوا إضافة نوعية في الوسط الجامع يتقوى بهم فكر الاعتدال، لا أن يفتحوا صفحة أخرى من الغلو في مقبل التي "تخلصوا" منها. والله تعالى الهادي الى سواء السبيل.