المغرب يوجه رسالة حاسمة لأطرف ليبية موالية للعالم الآخر.. موقفنا صارم ضد المشاريع الإقليمية المشبوهة    المغرب الفاسي يخسر أمام البركانيين    دياز يساهم في تخطي الريال لإشبيلية    حصيلة المعرض الدولي لكتاب الطفل    فاس.. تتويج الفيلم القصير "الأيام الرمادية" بالجائزة الكبرى لمهرجان أيام فاس للتواصل السينمائي    التقدم والاشتراكية يطالب الحكومة بالكشف عن مَبالغُ الدعم المباشر لتفادي انتظاراتٍ تنتهي بخيْباتِ الأمل    تشييع جثمان الفنان محمد الخلفي بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء    وقفة أمام البرلمان تحذر من تغلغل الصهاينة في المنظومة الصحية وتطالب بإسقاط التطبيع    الولايات المتحدة تعزز شراكتها العسكرية مع المغرب في صفقة بقيمة 170 مليون دولار!    الجزائر تسعى إلى عرقلة المصالحة الليبية بعد نجاح مشاورات بوزنيقة    مسلمون ومسيحيون ويهود يلتئمون بالدر البيضاء للاحتفاء بقيم السلام والتعايش المشترك    الرجاء يطوي صفحة سابينتو والعامري يقفز من سفينة المغرب التطواني    العداء سفيان ‬البقالي ينافس في إسبانيا    انخفاض طفيف في أسعار الغازوال واستقرار البنزين بالمغرب    جلالة الملك يستقبل الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني    بلينكن يشيد أمام مجلس الأمن بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    مباراة نهضة الزمامرة والوداد بدون حضور جماهيري    لقاء مع القاص محمد اكويندي بكلية الآداب بن مسيك    لقاء بطنجة يستضيف الكاتب والناقد المسرحي رضوان احدادو    ملتقى النحت والخزف في نسخة أولى بالدار البيضاء        بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    روسيا تمنع دخول شحنة طماطم مغربية بسبب "أمراض فيروسية خطيرة"    اتهامات "بالتحرش باللاعبات".. صن داونز يعلن بدء التحقيق مع مدربه    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    دشنه أخنوش قبل سنة.. أكبر مرآب للسيارات في أكادير كلف 9 ملايير سنتيم لا يشتغل ومتروك للإهمال    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    "وزيعة نقابية" في امتحانات الصحة تجر وزير الصحة للمساءلة    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    أكادير: لقاء تحسيسي حول ترشيد استهلاك المياه لفائدة التلاميذ    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    تبييض الأموال في مشاريع عقارية جامدة يستنفر الهيئة الوطنية للمعلومات المالية    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    الأمن في طنجة يواجه خروقات الدراجات النارية بحملات صارمة    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    إسرائيل تتهم البابا فرنسيس ب"ازدواجية المعايير" على خلفية انتقاده ضرباتها في غزة    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    كودار ينتقد تمركز القرار بيد الوزارات    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



د.سعيد شبار:لابد للأجيال المتعاقبة أن تحقق كسبها الذاتي من الوحي
نشر في التجديد يوم 22 - 11 - 2004

الدكتور سعيد شبار أستاذ الفكر الإسلامي ومقارنة الأديان:لابد للأجيال المتعاقبة أن تحقق كسبها الذاتي من الوحي لا أن تبقى عالة على كسب غيرها
في ظل هجمة الثقافة التغريية وهيمنة قيم ومفاهيم العولمة التي تتوخى التمكين لمنظومة ثقافية وإيديولوجية ودينية وتعمل على إحلال نماذجها وقيمها وفلسفتها الخاصة بما يؤسس تيارات أو يغذي أخرى قائمة في الأمة، ينبه الدكتور سعيد شبار الباحث والمفكر والعالم الإسلامي إلى عدم استسهال الأمر وخطرته وأخذه بجدية كاملة، ويستدرك قائلا أن ذلك لا يدعو إلى الانغلاق والانكفاء على الذات لأنه غير ممكن واقعا، ثم هو خلاف المطلوب شرعا بل المطلوب لابد من الحس النقدي المنهجي الذي يخضع كل وافد للسؤال ويقلبه على أوجهه المختلفة لتحديد مستويات النفع والضرر فيه، وبيان ذلك وتوضيحه. وهذا بدوره لا يتأتى إلا بالرفع من معامل الثقافة والفكر والمعرفة الذاتية.
انتشرت في الآونة الأخيرة مجموعة من المفاهيم ذات حمولات قيمية وحضارية مثل العولمة والحرية الشخصية والحقوق الإنسانية، ما هي آليات قراءة هذه المفاهيم الجديدة بما يتوافق والمنظومة الحضارية الإسلامية؟
أولا ينبغي أن نعلم أن عملية بناء مصطلح أو مفهوم وإخراجه إلى الوجود ليس عملية سهلة، أو اعتباطية تلقائية. خصوصا تلك التي تصدر عن جهات متنفذة ضالعة في الهيمنة والاستبداد. ولهذا يسميها الناقد الراحل إدوارد سعيد بالدمغات والأختام والتي يشترك في بنائها وصوغها أخصائيون من حقول معرفية مختلفة (لغة، اجتماع، اقتصاد، سياسة.. الخ) حتى يكون لها الوقع والتأثير المطلوب.
ومن هذه الزاوية من النظر، الباحث والمفكر في العالم الإسلامي مدعو إلى عدم استبساطها أو استسهالها والتعامل معها من الجد بمقدار ما تأسست به، أي امتلاك قدرات تمكن من الكشف عن خلفياتها ومرجعياتها وغاياتها... أو بعبارة أخرى، أن يمارس عليهما النقد والفحص بما يزيل حمولاتها ومضامينها السلبية وبما يجعلها قابلة للدمج والاستيعاب الوظيفي فيما هو محلي.
للأسف هذه الأشياء غير موجودة عندنا في العالم العربي والإسلامي، حيث الأبواب والنوافذ مشرعة لكل وافد، وحيث يفعل هذا الوافد ما يريد، إنه بقوم بسياحة حرة دون أن تطاله يد المساءلة المعرفية على الأقل.
ولهذا أغلب المفاهيم الرائجة والمتداولة الآن والتي صنعت خارج منظومة الإسلام تؤثر ولا تتأثر، وتفعل ولا تنفعل، كالعولمة، وقبلها الحداثة والنهضة... وغيرها. فهي تعمل على إحلال نماذجها الخاصة وقيمها الخاصة وفلسفتها الخاصة بما يؤسس تيارات أو يغذي أخرى قائمة في الأمة، لكن خارج سياقها الثقافي والحضاري والديني.
وليس المطلوب وصد الأبواب وإحكام إغلاق النوافذ والانعزال والانكفاء على الذات، فهذا غير ممكن واقعا، ثم هو خلاف المطلوب شرعا، إذ الأصل في رسالة الناس أن تكون للناس وأن تنفتح عليهم بمللهم ونحلهم المختلفة. بل وأن تكون قيمها ومبادؤها وعلومها ومعارفها من الاستيعاب للزمان والمكان والقابلية للتجدد بما يحقق فيها صفة الخلود والختم والعالمية.
فمسألة الانغلاق أو الاكتفاء مرفوضة شرعا قبل أن تتعذر واقعا، لكن لدرء آفة أخرى هي آفة الالتحاق أو الاغتراب لابد من الحس النقدي المنهجي الذي يخضع كل وافد للسؤال ويقلبه على أوجهه المختلفة لتحديد مستويات النفع والضرر فيه، وبيان ذلك وتوضيحه.وهذا بدوره لا يتأتى إلا بالرفع من معامل الثقافة والفكر والمعرفة محليا، فالنار تسري بسرعة في الهشيم، لكن الأجسام الصلبة وإن كانت قابلة للاحتراق مقاومة، تعطل إن لم تبطل التأثير.
أصبح الإنسان في العصر الراهن ضحية فوضى فكرية، إعادة البناء الفكري للمسلم يتأرجح بين الحرية والتقنين والوصاية، كيف يوفق المسلم بين طرفي المعادلة؟
إعادة البناء الفكري للمسلم وتجنيبه الفوضى الفكرية الراهنة، عملية في تقديري ليست بالسهلة وقد كانت ولازالت تحت أسماء مختلفة مطلبا لكل حركات الإصلاح والتغيير في الأمة، قديما وحديثا، لكن ما ينبغي التأكيد عليه هو أن مدخل التغيير فكري منهجي بالدرجة الأولى، وكما أن الفكر الإسلامي يعاني من مشكلات معاصرة، وتحديات راهنة مختلفة، فإنه كذلك عانى ويعاني من مشكلات تاريخية. وإعادة البناء لابد فيها من الاشتغال على الجبهتين معا: جبهة الذات وجبهة الآخر. جبهة الذات لإصلاح الأعطاب والخلل التاريخي الذي جمد الفكر وعطل فاعليته، علما بأن التفكر وما في معناه، من تدبر وتعقل واعتبار ونظر وإبصار، مطالب قرآنية نصية واضحة. وللأسف كثير من علومنا الإسلامية تحتاج إلى كسر طوق الجمود عنها واستئناف النظر والتجديد فيها، وهذا بدوره يحقق لها شرط المواكبة والمعاصرة، ويجعل النظر إلى جبهة الآخر انطلاقا من النصوص المؤسسة والمستوعبة، نظر واع مستوعب بالكلمة الحرة المسؤولة، أكثر من نظر منازل محارب. وحيث تكون القدرة أيضا تفنيد سلبيات هذا الوافد ودرء شبهاته، لأنها مهما تكن هي نتاج فكر نسبي قاصر يحتاج إلى الكشف من مداخل الضعف
فيه لتجاوزه، بل وحيث يمكن للفكر الإسلامي مستهديا بالنص المطلق لا بالتاريخ المقيد أن يضع من الحلول للمشكلات المعاصرة ما عجز الغرب نفسه عن حله في مجتمعاته بفعل تداعيات ومضاعفات النمط الاستهلاكي الممجد لوجوده المادي على حساب كينونته البشرية.ثم إن البناء الفكري لا يمكن أن يكون تحت وصاية ورقابة قامعة ومقيدة، لا تري للناس إلا ما ترى، فهذا الذي عابه القرآن على الطاغوت فرعون.
البناء الفكري لابد فيه من بيان وإقناع وبرهان تماما كما يعرض القرآن حقائقه، وكما كون الرسول عليه السلام صحابته، وأدخل الناس في دين الله أفواجا.
وكثير من مشاكل الفكر الإسلامي التاريخية إنما هي من حرية الناس في التفكير والتعبير، كان المطلوب أن تواجه بدرجة عالية من النقد، لكن كانت الحركات النقدية التصحيحية استثناءا وليست اطرادا.
فلا يمكن للإسلام أن ينتشر حاليا إلا في جو الحرية والتعددية الحقيقية واحترام الحقوق والواجبات والمسؤوليات الفردية والجماعية، والرسول صلى الله عليه وسلم ما إن أتيحت له فرصة عشر سنوات من الهدنة حتى بادر إلى الصلح رغم الحيف والظلم الواقع عليه وعلى صحابته من قومه، حتى إن بعضهم اعترض على صيغة الكتاب وآخرون على الكتاب جملة، وكان من الاستشراف النبوي للمستقبل أن دخل مكة بعد ذلك فاتحا لا محاربا في جمهور غفير من الأتباع، والشاهد عندنا أن الحق متى أتيحت له حرية الاتصال بالعقول والقلوب من غير حواجز ووسائط أثر فيها وتقبلته لا محالة، عاجلا أم آجلا.
وأمام غياب أي مشروع مؤسسي يعمل على معالجة الآفات التاريخية والآفات الراهنة، فليس أمام الفرد إلا المجاهدة النفسية لتحقيق تحرره من الارتهان للتاريخ أو للآخر وتحقيق كبسة الراهن من الوحي المعصوم.
تلحون على ضرورة تنقية التصور الفكري باعتباره مدخلا للتغيير الحضاري، ما هي سبل تحصيل التصور السليم والمنسجم مع قيمنا الإسلامية؟
هذا السؤال مرتبط بالذي سبقه، أما كون الجبهة الفكرية مدخل أساس وأول للتغيير، فهذا مما لاشك فيه، لأن كل الانحرافات العملية الميدانية أصلها انحرافات فكرية تصورية والعكس صحيح، أي كل استقامة عملية تعبر عن استقامة فكرية. كما لا يخلو كل ميدان عملي (سياسي، اقتصادي، اجتماعي...) أو حتى تقني محض من أن تكون له فلسفة مؤطرة وفكر موجه. ولهذا فمختلف تجليات الأزمة في جوانبها المذكورة سلفا هي ذات جوهر فكري ومنهجي كذلك، قائم على أساس ترتيب الأولويات أو عدمه، علي الشمولية أو الجزئية، على النخبوية أو الجماهيرية، على الوسطية والاعتدال أو الإفراط والتفريط والغلو والتشدد... الخ.
فنحن بحاجة إذن إلى تصحيح الفكر وإلى تقويم المنهج وهما أمران لا ينفصلان، لا يمكن للفكر أن ينصلح إلا بمنهج قويم، ولا يمكن لهذا المنهج المؤسس إلا أن ينبثق عن فكر سليم، والعملية ليست دورانا محليا، كحكاية البيضة والدجاجة، فنحن كمسلمين نعتقد أن الهداية الكاملة كامنة في الوحي، وأن الوحي هو الهادي والمرشد والمسدد، وفيه منهاج الرشد للحياة الطبية والخيرة، وما ينبغي هو استخراجه واستخراج الفكر والمعرفة المرتبطة به الشاملة والمستوعبة لمعارف الدين والدنيا معا، ولا وجه قطعا لانفصالهما. ويكفي أن أذكر من معالم هذا المنهاج البارزة أن تتكامل فيه مصادر المعرفة (نصا وعقلا وواقعا) وأن يتكامل فيه عالم الغيب بعالم الشهادة، وأن تقرأ فيه آيات الكون كما تقرأ آيات الكتاب، وأن تنعكس خصائص الإسلام ومقوماته من عالمية ووسطية وواقعية وإنسانية...
للأسف المعارف الإسلامية التاريخية إذا ما تجاوزنا مرحلة الصدر الإسلامي الأول، لم تنعكس فيها هذه الخصائص والمحددات المنهاجية، بل كانت الجزئية غالبة، وكان الغلو غالبا كما كانت الصورية والتجريدية... مما أدخلها عالم الجمود والتقليد وعدم القدرة على المواكبة والاستيعاب.
الحاجة داعية من أجل التصحيح إلى استئناف النظر بمحددات منهاجية صارمة الأصل الأول فيها الوحي (المهيمن والمصدق) قرآنا وسنة مبينة، والفرع فيها الإنجاز التاريخي بمحطاته المشعة خصوصا، وليس العكس كما في المعارف الجامدة في أطر مذهبية ومدرسية لا تكاد تتجاوزها.
فالتصور السليم إذن لا يمكن بناؤه إلا من خلال مصدر سليم، ولا مصدرا سليما إلا كتاب الله تعالى والذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وكل فكر بشري يؤخذ منه ويرد.
لقد استطاع الغرب أن يحقق إنجازات تقنية وصناعية عظيمة لكنه لم يستطع أن يحقق السعادة والأمن الروحي والنفسي لشعوبه، ولا وعده بالمجتمع السعيد كما يعبر إريك فروم، لأن معرفته أيضا جزئية ولا إنسانية في جوانب كثيرة، ويكفي لوصف ذلك تفاقم مشكلات الإدمان والشذوذ والانتحار والتفكك الأسري والنمط الاستهلاكي الرهيب، فضلا عن معضلات التلوث والبيئة وغيرها.
فلا النموذج الذاتي التاريخي المتخلف مثال، ولا النموذج الغرب المتقدم مثال، لكن أستطيع أن أقول إن هنالك وعيا متزايدا باطراد لضرورة استخراج المثال وبنائه من منظومة متكاملة، فيها روحانيتها وماديتها وعقلانيتها وواقعيتها من كتاب الخالق، الذي خلق وهو اللطيف الخبير وتسعف، ليس فقط في حل معضلات الأمة والفكر الإسلامي، وإنما في حل معضلات العالم والفكر البشري. فهو خاتمة وخلاصة الحق المتبقي من السماء في الأرض.
لم يستطع المسلمون بعد طول اجتهاد التوفيق بين حاجات العقل وحاجات القلب والروح ما مرد هذا الاختلال وطرق تجاوزه؟
لابد من الإشارة هنا إلى أن أشكال التقابل التي نجدها في كثير من الثنائيات (عقل/نقل) (حكمة / شريعة) (رأي /أثر) (علم / دين) (أصالة/ معاصرة) (تراث/تجديد) (حداثة/تقليد)... الخ. هي صناعة تاريخية محضة، السهم الأكبر في إنتاجها التدافع إن لم نقل الصراع الفكري بين الفكر الإسلامي والفلسفة اليونانية قديما والفكر الإسلامي والفلسفة الغربية حديثا. بين جوهر فلسفي مادي وجوهر فلسفي غيبي وللدفاع عن الذات والهوية هناك من التجأ إلى النص واكتفى وتحصن به، وهناك من استفاد من النص نفسه أن سلطة العقل والبرهان والحجاج سلاح في صد العدوان. وتعمق هذا الخلاف تاريخيا وتجذر في مدارس واتجاهات فقهية وكلامية وتفسيرية وحديثية وحتى لغوية...
في حين لو رجعنا إلى القرآن الكريم لما وجدنا أصلا لهذه الثنائيات، ولوجدناه خطابا لسائر القوى العاقلة والعاملة في الإنسان (إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا)، بل أحيانا يسوق القلب والعقل مساقا واحدا (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها) (لهم قلوب لا يفقهون بها)، أما دعوة القرآن إلى التعقل والتدبر والاعتبار والتفكر، فهذا كل القرآن في آياته المنصوصة أو آياته الكونية أو الاجتماعية أو التاريخية أو الانسانية.. التي يحيل عليها.
فالأثر قرين الرأي بمعناه التفهمي التدبري، والعقل قرين النقل، والحكمة شريعة والشريعة كلها حكم... ولا معنى لانفصال وتقابل هذه الثنائيات إلا في فكر تجزأت معارفه، وطغت نزعاته المادية على حساب الروحية أو العكس، والوجودية الوضعية على حساب الغيبية الإلهية أو العكس... وهكذا.
وعلى كل حال، فهذه ليست الحالة السواء التي بإمكانها إخراج الإنسان السوي، ولهذا قلت، نجمت تلك المشكلات المختلفة عندنا وعند الغرب على اختلاف مواطن الاختلال.
والمنهج الذي ألمحنا إلى بعض معالمه سلفا، حيث يتكامل الغيب مع الشهادة، والعقل مع النص والواقع، فلا تطغى نزعة على أخرى. وحده كفيل بانتاج معرفة علمية عملية، حيث تنتفي التقابلية بين الثنائيات وتحل محلها التكاملية.
ارتفعت دعاوي حوار الأديان في الآونة الأخيرة، ما حقيقة هذا الحوار وكيف يمكن استثماره الاستثمار النافع؟
حوار الأديان ليس دعوة معاصرة ولا قضية حديثة وجديدة، هناك علم مقارنة الأديان أو الأديان المقارنة، وقبل أن يكون الحوار بين الأديان ومقارنة بعضها ببعض فكرة غربية أو دعوى غربية، كان فكرة إسلامية، قرآنية تحديدا في أول الأمر.
فلم يكن وضع الأديان السابقة على الإسلام يسمح لا بالحوار ولا بالمقارنة، بل لم تكن حتى مادتها النصية مهيأة لذلك أصلا فهي كتب خاصة بأقوامها وأزمانها فكانت تعيش حالتي الانغلاق والانسداد وحالة العداء والاحتراب وإلغاء الوجود الديني للآخر...
وهذا واضح في العداء التاريخي بين اليهودية والمسيحية. إلى أن جاء القرآن ففتح هذا الباب واسعا بمحاورته لليهود والنصارى والمشركين، وكل الملل والنحل وأشكال الانحراف الديني بمنهج الهيمنة والتصديق، والاستيعاب والتجاوز.اقرأ في حالة الانسداد الأولى قوله تعالى (وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتب).
واقرأ في حالة الاستيعاب الثانية قوله تعالى: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تفرقوا فيه) ثم اقرآ الآيات الكثيرة الداعية إلى محاورة ومجادلة أهل الكتاب (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم)، (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن) وهذا كثير في القرآن، كما نجد أن السنة النبوية جسدت عمليا هذا الحوار وكانت الوفود من اليهود والنصارى وغيرهم يقصدون الرسول عليه السلام للسؤال والبيان وأحيانا للتعجيز والتغليط...
وتوسع هذا الأمر فيما بعد على يد الصحابة والتابعين وألفت في ذلك مؤلفات شهيرة كما عند المسعودي والاشعري والجويني وابن حزم والشهرستاني وابن تيمية وابن القيم وغيرهم... إلى أن ضمر التأليف في ذلك بعد عصر النهضة الغربي، وبدأ الانتقال تدريجيا لهذه العلم إلى ساحة المعرفة الغربية، وعرف أوجه إبان الحملة الاستعمارية (ق 19 وما بعده)، حيث نشطت كذلك مؤسسات التنصير والاستشراق وقنوات التعرف والاحتلال لعالم الإسلام والمسلمين.
فكان هذا وظيفيا أكثر منه علميا معرفيا.كانت هذه الديباجة ضرورية لتأكيد أن نطلب الحوار والجدال هو إسلامي مادة ومنهجا وهو أمر طبيعي من رسالة خاتمة ومهيمنة ومصدقة، مكملة ومتممة مع ما تقدمها من رسائل، وأن بينه مشتركات كثيرة عقدية وتشريعية، فهي رسائل الأصل فيها أنها توحيدية ربانية، وبها تشريعات أخلاقية وأسرية واجتماعية (القتل، السرقة، الزنى..)
كل ذلك يمكن أن يكون مداخل للتوحد والتقارب، هذا فضلا عن التحديات الأخلاقية والاجتماعية والبيئية والصحية... التي أفرزها النمط المادي الاستهلاكي الغربي في تغييب تام للمرجعيات الدينية (الانحراف، الشذوذ، الزواج المثلي، السيدا، الحروب المدمرة...) مما يشكل موضوعات لمواقف موحدة لصالح الإنسان والبشرية.مهما يكن من تحريف لأهل الكتاب لكتبهم، ومهما يكن من تحريف للسياسة لمبدأ الحوار نفسه وجره إلى أعراض وظيفية معينة، فإن الأصل في الحوار أن يبقى قائما وأن يبادر إليه المسلمون لا أن يبادروا، فهم أصحاب الحق الذي شهدت به الأديان كلها، كما أنهم يشهدون بالحق على تلك الأديان، وإذا عجز المسلمون عن الإسهام في العطاء الكوني الحضاري، فإنه بإمكانهم أن يسهموا في العطاء الكوني الديني، وإن كنا لا نميز أصلا بين حضارة الإسلام ودينه، لأنه منتجها، ولأنها كامنة فيه.
والذي يبقى هو الرفع من المستوى وتحسين الأداء والعرض وضبط المداخل المؤثرة... وكل ذلك مشمول بعبارة أحسن كما في القرآن الكريم.
تعاني الدراسات الإسلامية والشرعية من عيوب التقليد والتكرار، ومع نزعات التجديد الديني، كيف الخروج من هذه الوضعية؟
قدمت ورقة ستنشر ضمن أعمال ندوة أولويات البحث في الدراسات الإسلامية تحت عنوان قضايا الفكر الإسلامي تاريخية ومعاصرة... رؤية منهجية(نظمت بالرباط في شتنبر الماضي)، تحدثت فيها عن القضايا التاريخية اللصيقة بهذه العلوم، لدرجة يمكن القول معها أنها علوم تاريخية مع وجود استثناءات طبعا. وفي اعتقادي أن الأصل في نشأة هذه العلوم هو النص قرآنا وسنة، أي أنه المؤسس لها، لكن بالممارسة التاريخية والتأطر في المذاهب والمدارس مع الجمود والانغلاق فيها وعليها، تحول ذلك الأصل المؤسس إلى تابع لا متبوع، شاهد للتوجهات لا عليها، فأدت الفهوم التاريخية أكثر مما سادت المعرفة الشرعية، وهذه العلوم فيها من التاريخ أكثر مما سادت المعرفة الشرعية، وفيها من التاريخ أكثر مما فيها من الوحي. والصحيح أن الثابت الذي ينبغي أن يواكب العلم في رحلته هو النص الذي يمده ويزوده في كل محطة من محطاته، في كل دورة حضارية أو عند كل جيل من الأجيال المتعاقبة، لا أن يستمر فهم تاريخي معين تقتات عليه كل الأجيال، ويأخذ من صفات الوحي ما لا يجوز إلا للوحي. وهذا الذي أدخل هذه العلوم إلى النفق، وبالتالي سدت كل منافذ الإبداع العقلي والحضاري والاجتهاد
والتجدد في الأمة. والقرآن الكريم صريح في أنه لابد للأجيال المتعاقبة أن تحقق كسبها الذاتي من الوحي لا أن تبقى عالة على كسب غيرها، إذ الواقع تحتها يتحرك والأمم تتقدم والأحوال تتغير، تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يفعلون.
فلم نحقق بعد كسبنا الذاتي معرفة وعلما بما يجعلنا جيلا متحققا بشرط المعاصرة، وأقصد المعاصرة لزمانه ومكانه بالتأطير الشرعي الفقهي والعقدي المواكب للتحولات. والاستثناءات المشعة في تاريخنا مع الغزالي وابن تيمية والشاطبي وابن خلدون وغيرهم هي محاولات رامت النهوض بجوانب من هذه المعرفة يكسر طوق التقليد فيها وربطها بالنص المؤسس، الذي جعلها تتجاوز أزمانها بقرون. وكنت أقول، لو أن الناس كانوا على مستوى من العلم والمعرفة بما يجعلهم في أزمانهم يستوعبون هذه المشاريع التصحيحية وينهضون بها لكان وضع الأمة غير وضعها الحالي، إذ لازلنا نحن إلى الآن ننقب ونكتشف معالم وآفاق تجديدية في تلك المحاولات.
فلابد من إعادة ترتيب الأمور بوضع الوحي المؤسس مصدرا أولا للمعرفة والحضارة ووضع ماهو تاريخي في سياقه التاريخي مع الإفادة من نافع وإيجابي ليس فقط ذاتيا، بل حتى خارجيا. لابد أيضا من نهضة تجديدية تطال العلوم الإنسانية والعلوم الكونية، غريب جدا أن يكون معظم القرآن حديث عن الإنسان والكون، وأن لا تتبلور في الأمة معارف مستأنفة في هذا السياق لشهودها الحضاري الأول، بل أن تكون هي ذاتها أي العلوم الانسانية والكونية/المادية، مداخل استعبادها واستضعافها وتبعيتها.وهذا يرجع إلى المنهج الجزئي والفردي في نوازله مع جمود وتقليد، ثم التعامل به مع الوحي. فلم ينتج إلا معرفة جزئية وأحكاما فردية. في حين أن الكتاب حابل بأحكام الأمة الجماعية بواجباتها وتكاليفها كأمة في التدين كما في التحضر والتعمير الكوني بما يحقق شهودها واستخلافها وخيريتها. وهذا أيضا مما ينبغي الاشتغال عليه لاستخراجه وبنائه من الوحي لا من التاريخ.
يسعى كثير من المسلمين إلى ما يمكن اعتباره بالمشيخة العلمية على شاكلة المشيخة الدينية إن صح التعبير، كيف تنظرون إلى هذه المشيخة ومعالم الإبداع والتحرر منها؟
ليست سلبية بإطلاق، إذ الأصل فيها تعليم وتعلم، والعلم كما يقرأ من الكتب يتعلم من الرجال أو النساء، وهناك فنون علمية لا يمكن أن نتعلم وتضبط إلا شفاها (كالقراءات والصوتيات واللغات...)، ولا فرق عندي في ذلك بين مشيخة علمية ودينية، فالشيخ معلم. فقط ينبغي أن نزيل الشحنة السلبية التي لزمت هذا المفهوم وحولته إلى أحوال طقوسية تجديدية وأحيانا تقديسية وسلبت عنه طابع العلم والتعلم والبناء. كتقديس الشيخ وعدم مناقشته، ومنهج التلقين الصرف بدل التكوين المنهجي الذي ينمي ملكة النقد والتحليل. والأفضل والأسلم أن يعدد الإنسان شيوخه وأساتذه، وأن ينهل من مشارب مختلفة، بجهد ذاتي زائد، إذ الخطير في مسألة المشيخة هذه، كما تكرست في عصور الجمود والتقليد، أنها كانت إنتاجا تكراريا نمطيا لأشخاص ولأفكار، الغرض منها امتداد واستمرار المدرسة أو المذهب والحفاظ على الإرث كما هو.
إذا أردنا أن نعرف من الأستاذ شبار كتبا تثبت البناء الفكري السليم لدى المسلم، بما تنصح؟
أول الكتب التي تثبت البناء الفكري السليم هو كتاب الله تعالى القرآن المجيد، والقرآن المجيد يحيلك على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرته، لكن السنة كما هو معروف وقع فيها ما وقع من حركات الوضع والدس للأحاديث كما أن السيرة تناولها الإخباريون بحشو وإضافات زائدة، مما يستدعي الحذر وإعمال المنهج النقدي الذي وضعه المحدثون أنفسهم لتحل هذه المرويات وعلى رأسه ألا يخالف أثر مروي حقائق وأحكام القرآن الكريمذ، إذ لا يعقل بمقتضى الرسالة نفسها أن يخالف الرسول المبلغ الذي أنزل عليه الكتاب ليبينه للناس شيئا من هذا الكتاب في بيانه وتبليغه. وهناك شروط تفصيلية أخرى تنظر في مظانها، وكذلك تجربة النموذج الإسلامي الأول في تلقيه وفهمه وعلمه وعمله، وكيف استطاع تحويل تعاليم الرسالة في زمن قياسي إلى واقع حضاري جسد كونيتها وعالميتها. هذه مصادر قوة المسلم ودوافعه الإيمانية والعقدية نحو البذل والعطاء. و تنظر أيضا اللحظات التاريخية المجددة التي حاولت إعادة الوصل بينها وبين الوحي بإزاحة الوسائط المختلفة في مناهجها ورؤاها لإعادة بناء الفكر والعلم. وفي فكرنا المعاصر، الحاجة ماسة الآن إلى نوع من الفكر يسد
الأخلال التاريخية ويتجاوزها إلى بناء معرفة موصولة بالأصول مستفيدة من التجارب، وهناك كتابات ذات طابع سنني اجاعي حضاري وبمناهج نقدية بنائية،
يشعر فيها الإنسان أنه موصول بدينه (نصا منفتحا) وغير مفصول عن واقعه وعصره (حالا متغيرا).
والقراءة أخيرا ينبغي أن تكون على أساس تكوين الذات لتحقيق الكسب المعرفي، وليس تلقينا لها لتكرار نموذج معين.
حاوره: عبدلاوي لخلافة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.