غادرنا إلى دار البقاء صباح يوم الخميس 18 يناير 2018 الفقيد المحامي والحقوقي طارق السباعي، رئيس الهيئة الوطنية للمال العام. لقد نزل الخبر كالصاعقة على قلب كل أصدقائه ومحبيه، شخصيا عايشت الرجل كقاض سابق وحقوقي اكتشفت فيه معنى الإنسان المحب للحياة ولحقوق الإنسان، كان محبا لمهنته ومخلصا لها، مضحيا بماله ووقته وفكره للترافع في القضايا الحقوقية، ولاسيما قضايا المال العام، بشكل مجاني وبإخلاص وتفان قل نظيره، لا يمل ولا يكل من دراسة الملفات وتقديم الشكايات، لا فرق بين مسؤول كبير وصغير، عنده المجرم سيان، والمال مال الشعب. كان رحمة الله عليه يقض مضجع كل ناهبي المال العام وترتعد فرائصهم بمجرد سماع اسمه، لا يخافهم ولا يهابهم، اختط لنفسه ممارسة دفاعية خاصة للترافع في مجال حماية المال العام قوامها الشجاعة الأدبية والفضح وإقامة المساطر لأن هيبة المال العام وهيبة القانون أحق وأجدر. مرافعاته في هذا المجال مرجعية، وأصبح أشهر من نار على علم، حتى بات بيته ومكتبه قبلة لكل ضحايا المال العام، لم يكن يسأل إلا عن الإثبات والحجة لتقديم الشكايات، والباقي مجرد تفاصيل، كان له قصب السبق في المجال، حج إلى عدة مدن وزار جل محاكم المملكة وتشهد مرافعاته بمناصرته للضعفاء وقضايا الاعتداءات على حقوق الإنسان والصحافة. إن المرحوم الأستاذ طارق السباعي يعد من مفاخر مهنة المتاعب، مهنة الدفاع. كان يعشق مهنته ويعتبر نفسه جنديا يقاتل من أجل إثبات الحقيقة ورفع الظلم والدفاع عن الحقوق والحريات وصون الأمن القضائي، رافع من أجل الوطن بشجاعة ونكران الذات وآمن أشد الإيمان بقضيته، وبكل تواضع كان لسان الحق، بحيث كان ينطق بلسان موكليه ويذود في حمايتهم، كان يعتبر قضاياهم بمثابة قضيته. يشهد له كل رفاقه بأنه كان صديقا لموكليه وعلاقاته معهم اتسمت بالزمالة والوضوح وعدم التكلف، لأنه كان يؤمن بأن من أسباب نجاح المحامي، على غير ما يعتقد كثيرون، هو التواضع والإنصات والتواصل والنصح والتفاؤل، والأهم هو القرب من الناس والتعبير عن همومهم وأحزانهم وهواجسهم ومطالبهم ومتمنياتهم، بحيث يفرح لفرحهم ويقرح لقرحهم؛ فهو ضميرهم بل وطبيبهم وناصحهم الأمين وصديقهم الوفي، يسافر بصحبتهم ويشاركهم أتعاب السفر وبهجته ونكته. لأنه كان مناضلا صنديدا لا يخاف في الحق لومة لائم، ترك مواقف مشرفة للتاريخ، علمنا معاني الإنسانية والشموخ والإباء والصفح والتسامح والفضيلة، كان قاسيا في نقده قويا في حجته لم يكسره المسار المهني الشاق الذي اختاره بل تحمل شراسته إلى أن وافاه الأجل المحتوم، حلمه أن يتنصر المستضعفون ويعود المال المنهوب إلى أصحابه، محاضراته كانت تستفز عقولنا وتمتعنا بجرأتها ومستملحاتها، كنا نضحك للواقع البئيس الذي يحكيه لنا، ولم تكن الابتسامة تفارقه حتى وهو يطالب بالسجن لناهبي المال العام ولتجار السياسة والدين لأنه لم يطالب إلا بتحقيق العدالة وبربط المسؤولية بالمحاسبة. لن أنسى ما حييت ما قدمه لي الراحل من دعم ومؤازرة أمام المجلس الأعلى للقضاء في محاكمتين تأديبيتين نادرتين في تاريخ الحراك القضائي المبارك الداعم لاستقلالية السلطة القضائية، وفي مرافعة متميزة أمام محكمة الاستئناف بتطوان حول أحقيتي في الولوج إلى مهنة المحاماة. وبالمناسبة، أذكر هنا رسالته الشهيرة إلى وزير العدل السابق التي خطتها أنامله بشجاعة الحقوقي وبضمير المحامي، يقول في بعض مقاطعها: "لي الشرف أن أكتب إليكم في إطار المناشدة الحقوقية حول القاضي محمد الهيني الذي تعرض للعزل من مهنته بقرار إداري من المجلس الأعلى للقضاء، ولقد تتبعتم بلا شك كحقوقي التضامن الواسع معه تضامنا سياسيا وحقوقيا كبيرا معتبرين عقابه كان بسبب مواقفه وآرائه المدافعة عن استقلالية القضاء، ودوره الدستوري الطبيعي في حماية حقوق وحريات المواطنين. فالكثير من الحقوقيين ورجال القانون يعتبرون الهيني رمزا للقاضي الذي يصدح بكلمة الحق دون الخشية من لومة لائم، حتى لو تعرض للعزل والتضييق، ومعاناته يعرفها الجميع؛ فهو بدون راتب، وبدون معاش أيضا، رغم أنه قضى أكثر من 17 سنة يزاول مهنة القضاء، ويسعى إلى تطبيق مفهوم العدالة في البلاد. أستاذي العزيز لقد كان قرار قبول مجلس هيئة المحامين بتطوان للأستاذ محمد الهيني بجدول هيئة المحامين بتطوان بردا وسلاما، بل قرارا شجاعا وحقوقيا بكل ما لحمولته من معنى؛ فقد استحضر مقتضيات العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية ومنها حق التظلم الذي يكفل الحقوق والحريات المعترف بها، حتى لو صدر الانتهاك عن أشخاص يتصرفون بصفتهم الرسمية، فقرار هيئة المحامين بتطوان أثلج صدور كافة الحقوقيين، هكذا كانت مجالس هيئات المحامين وكانت جمعية هيئات المحامين تنصر المظلومين وتدافع عن الحق دون تردد وكانت تقبل في صفوفها مناضلين شرفاء عوقبوا عقوبات قاسية بسبب دفاعهم عن قضايا الحرية والديمقراطية ومنهم من صدرت في حقهم أحكام بالإعدام في قضايا سياسية. ولم يسبق لهذه الهيئات أن قامت بطرد عمر بنجلون وعبد الرحمان بنعمرو وأحمد بنجلون ومحمد اليازغي رغم قضائهم لسنوات من الاعتقال السياسي فهم معارضون للسياسة اللاشعبية واللا ديمقراطية والمتعارضة مع المواثيق الدولية في أن يكون البشر أحرارا، ومتمتعين بالحرية المدنية والسياسية ومتحررين من الخوف والفاقة، لتكون السبيل لتهيئة الظروف لتمكين كل إنسان من التمتع بحقوقه المدنية والسياسية، وكذلك بحقوقه الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. أعلم جيدا أن لكم الحق في أن تطلبوا من الوكيل العام بتطوان أن يستأنف قرار مجلس هيئة المحامين، فأنتم ما زلتم رئيسا للنيابة العامة حتى تتشكل السلطة القضائية المستقلة. أناشد حقوقيتكم وصدق مشاعركم واستقلال قراركم، فالأستاذ محمد الهيني صديق لكافة الحقوقيين، ولا شك أنكم ستغلبون جانب الحكمة والتبصر، فالحقد داءٌ دفينٌ ليس يحمله...إلا جهولٌ مليءُ النفس بالعلل". إنا لله وإنا إليه راجعون إن وفاة الفقيد والأخ والصديق الأستاذ طارق السباعي لخسارة كبرى للعدالة ولهيئة الدفاع وللحركة الحقوقية عامة. افتقدنا هرما كبيرا كان مناصر دوما لقضايا العدالة وحماية المال العام، وشخصيا فقدت أخا كبيرا وصديقا متميزا كان على الدوام معي في كل النضالات التي خضتها وضحى بوقته وماله وفكره لنصرتي والوقوف بجانبي. لن نقول وداعا لأنك ستبقى في قلوبنا جميعا أيها العزيز والهرم الحقوقي الشامخ والكبير، لا ندري لماذا تسقط الأشجار المثمرة لهيئة الدفاع تباعا، بالأمس نقيبنا البقيوي واليوم أنت ولا ندري غدا على من يأتي الدور، هل قدرنا أن نحصي ضحايانا وأن نودع كبارنا ورموزنا، فقدناكم ولكن مبادئكم وأخلاقكم تتحدث عنكم، كنتم رجالا عندما غاب الكثيرون ونعاهدكم أننا سنواصل مسيرتكم بالروح نفسها وبالضمير نفسه، والله الموفق والهادي إلى الصواب. رحمكم الله ورزقكم الجنة وتقبل منكم صالح الأعمال.