"على الرغم من تبني "داعش" الاتصال الاستراتيجي في صياغة المواد الدعائية الصادرة عنه؛ إلا أن هذه الدعاية لم تكن بالفاعلية المتخيلة، وتسببت في إضعاف قاعدة تأييد التنظيم".. هذا هو الاستنتاج الرئيسي الذي توصل إليه "دوجلاس ويلبور" في دراسته الصادرة عن المجلة الدولية للاتصال الاستراتيجي في مايو 2017، بعنوان "مكانة الدعاية في الاتصال الاستراتيجي: حالة مجلة "دابق" الصادرة عن داعش". ويرى "ويلبور" أن تحليل مضمون "دابق" يكشف عن تركيزها على مخاطبة المسلمين السنة المتحدثين باللغة الإنجليزية، سواء من المقاتلين الأجانب في سوريا أو الجاليات الإسلامية في الدول الغربية، بسبب تبنيها مصطلحات ومفاهيم دينية وعقائدية غير معروفة لغير المسلمين. كما أن تركيز التنظيم على احتكار قيادة المسلمين في العالم وتكفير وشيطنة الجماعات والتيارات الدينية المخالفة تسبب في تفجير العداء بين التنظيم وكافة التنظيمات الإرهابية والتيارات المتشددة الأخرى. أسس الاتصال الاستراتيجي: على مدار عقود، سعت الاتجاهات النظرية التقليدية في مجال الاتصال إلى استبعاد مفهوم الدعاية بسبب الصورة السلبية للمفهوم، وارتباطه بتضليل الجمهور، والترويج لنظم الحكم السلطوية، إلا أن دراسات التسويق والاتصال الاستراتيجي بدأت في التركيز على الدعاية باعتبارها من أنماط الاتصال. وفي هذا الصدد، توافقت اتجاهات نظرية على تعريف الدعاية باعتبارها "محاولة متعمدة ومنهاجية لتشكيل الإدراك، والتلاعب بالوعي وتوجيه السلوك لتحقيق استجابة محددة مرغوبة من جانب فاعل معين". وتمثل الدعاية أحد أنماط الاتصال الاستراتيجي الذي يتضمن كافة صور الاتصال الموجه لتحقيق أهداف منظمة بعينها في المجال العام، من خلال التأثير على سلوك الأفراد. وتتمثل أهم أسس الاتصال الاستراتيجي فيما يلي: 1- التوجيه المُتعمد: يمثل الاتصال الاستراتيجي بالنسبة لأي منظمةٍ عمليةً مقصودةً ومتعمدة وموجهة لتحقيق أهداف المنظمة، ولا يقل أهمية عن أي وظيفة أخرى يتم تأديتها، وهو ما يجعل صياغة الخطاب الصادر عن المنظمة ضمن أولوياتها لبناء صورة إيجابية في المجال العام. 2- انتقاء الأهداف: يسعى الاتصال الاستراتيجي لتحقيق نتائج مرغوبة تم تحديدها مُسبقًا من جانب القائمين على التخطيط للمنظمة، بحيث تسهم هذه الأهداف في تحقيق الغايات الكبرى لها، والتي تتمثل في الحفاظ على بقائها وتماسكها، وتعزيز قدرتها على المنافسة في مواجهة الخصوم، بالإضافة إلى التوسع وتقوية تأثيرها في محيطها. 3- مركزية التخصص: لا تتم إدارة الاتصال الاستراتيجي من جانب المؤسسة بكاملها، وإنما يتم تفويض مجموعة أفراد متخصصين في إدارة الاتصال الاستراتيجي، باعتباره مجالاً شديد التعقيد والدقة، ويتطلب خبرات ومعارف متعددة في مجالات التسويق والخطاب والاتصال وتصميم الرسائل، لا تتوافر إلا للمتخصصين في الاتصال. 4- التفاعل مع المجال العام: يركز الاتصال الاستراتيجي على التفاعل مع المجال العام للتأثير في سلوك الأفراد، وتعزيز قواعد تأييد المؤسسة لبناء حواضن اجتماعية داعمة لبقائها وتمددها. وهو ما يعني ضرورة صياغة رسائل تلقى قبولاً لدى الجمهور المتوقع، وتؤدي إلى ترسيخ قناعات قائمة لديهم، أو بناء قناعات جديدة. ركائز الدعاية الداعشية: تضمنت الدراسة تحليل مضمون لمجلة "دابق" التي يصدرها "داعش" باللغة الإنجليزية، وينشرها على المنصات الإلكترونية التابعة للتنظيم، حيث تمثل نقطة البداية في الدعاية الداعشية إعادة تشكيل إدراك المتابعين للعالم من خلال رؤية مثالية للعالم تم انتزاعها وتأويلها من التاريخ الإسلامي كي تلقى قبولاً بين طوائف الجمهور المُستهدف. ويتبنى التنظيم رؤية ثنائية بسيطة للعالم تقوم على تصور وجود صراع تاريخي بين "المؤمنين" وقوى الشر غير المؤمنة وفق رؤية التنظيم، مع فرض الاختيار على الجمهور ما بين الانضمام للتنظيم أو تحمل التكلفة الضخمة للانضمام للطوائف الأخرى، مع حرمان الجمهور من الاختيار الثالث المتمثل في الحياد أو عدم الانضمام لأي طائفة. وفي هذا الصدد تتمثل أهم أسس الدعاية الداعشية فيما يلي: 1- احتكار شرعية الخلافة: يتمثل المرتكز الرئيسي للدعاية الداعشية في احتكار شرعية الخلافة، ومطالبة كافة التيارات والفرق والطوائف الإسلامية بمبايعة التنظيم وقياداته والانضمام إليه وإلا أصبحوا من "الخوارج" وفق تعبيرات التنظيم في مجلة "دابق"، وتركز النصوص الصادرة عن التنظيم على أحادية الخلافة ومركزيتها وارتباطها الكامل بداعش ذاته ونفيها عن كافة التنظيمات والتيارات الدينية الأخرى. 2- توجيه الخطاب للمسلمين: على نقيض كافة الأطروحات حول توجيه "داعش" لغير المسلمين في الدول الغربية بهدف استقطابهم للتنظيم؛ إلا أن تحليل مضمون مجلة "دابق" الصادرة باللغة الإنجليزية يكشف عن التركيز على مخاطبة المسلمين الناطقين بالإنجليزية ممن لديهم قاعدة معرفة بالمصطلحات الدينية. وهو ما يعني أن "دابق" موجهة لثلاث فئات: للمقاتلين الأجانب داخل التنظيم في سوريا، والأقليات الإسلامية في الدول الغربية، وجمهور المسلمين الناطقين بالإنجليزية في كافة دول العالم. وتتضمن "دابق" كلمات ومصطلحات دينية باللغة العربية، وإشارات متعددة من القرآن الكريم، وأحداث من التاريخ الإسلامي التي لن يفهمها غير المسلمين، وتكرر توظيف "داعش" لمصطلحات مثل "الطاغوت" و"الشيطان" و"دار الكفر" و"الولاء والبراء" وغيرها من المفاهيم والمصطلحات التي لا يفهمها غير المسلمين. 3- استعراض الالتزام الديني: توقع "داعش" أن يتم توجيه اتهامات له بالخروج على الشريعة الإسلامية، وعدم تمثيل الإسلام، وهو ما دفعه لاستعراض التزامه الديني، وتصوير نفسه باعتباره ممثلاً للمسلمين في مختلف أنحاء العالم. وتركز كتابات "داعش" في مجلة "دابق" على التزامه بالمذهب الحنبلي، ورعايته تطبيق الشريعة الإسلامية في المناطق التي يسيطر عليها وفق رؤية التنظيم، كما يتبنى التنظيم نهجًا تبريريًّا يقوم على محاولة التوفيق العمدي بين ممارساته والشريعة وتأويل النصوص الدينية والأحداث التاريخية لدعم النهج المتطرف للتنظيم. 4- إعادة تعريف المفاهيم: يسعى التنظيم إلى إعادة تعريف المفاهيم والمصطلحات بما يتوافق مع رؤيته للعالم، وفي صدارة هذه المفاهيم مفهوم الهجرة، إذ حشد التنظيم نصوصًا دينية انتزعها من سياقها التاريخي لإدانة هجرة المسلمين من مناطق الصراعات إلى الدول الغربية، ودعوة المسلمين في كافة أنحاء العالم للهجرة إلى سوريا والعراق والانضمام لداعش. ففي مقال نشره التنظيم في مجلة "دابق" في عام 2015 بعنوان "خطر هجر دار الإسلام"، استعرض التنظيم قصة هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، مع تفسيرها وفق ما يخدم أغراض التنظيم ودعوة الجاليات الإسلامية في الدول الإسلامية للهجرة للانضمام للتنظيم في سوريا والعراق. 5- إعادة صياغة الواقع: تركز "دابق" على تأطير الأحداث والوقائع وإعادة تفسيرها وفق ما يخدم أغراض التنظيم؛ حيث تناولت مجلة "دابق" الاشتباكات بين الشرطة وبعض الأقليات في الولاياتالمتحدة، وتصاعد العنصرية في المجتمع الأمريكي. واستغل التنظيم هذه الأحداث لتصوير الغرب ككيان مفكك وغير مستقر، وبناء صورة لمجتمع موحد ومتماسك وغير عنصري تحت حكم التنظيم، بالإضافة إلى انتقاد الليبرالية الغربية وقيمها، واتهامها بالتسبب في تصدع الدول في العالم الإسلامي. تراجع فاعلية التنظيم: على نقيض الاتجاهات السائدة حول فاعلية ونجاح دعاية تنظيم "داعش" في الترويج للتنظيم واجتذاب عناصر جديدة لصفوفه، إلا أن الدراسة تؤكد أن خطاب التنظيم وتطبيقه لقواعد الاتصال الاستراتيجي ينطوي على نقاط ضعف متعددة تؤثر سلبًا على فاعلية الدعاية الداعشية. ويتصدر عوامل الضعف في خطابه، الإغراق في المحلية، ومخاطبة الذات، فعلى الرغم من صدور "دابق" باللغة الإنجليزية، إلا أن المقالات والمواد الدعائية داخلها لا تزال أسيرة واقع التنظيم في سوريا والعراق. وتعددت المقالات التي يهاجم فيها التنظيم خصومه المحليين ومنافسيه من الجماعات الإرهابية المتشددة في سوريا، مثل جيش المجاهدين المرتبط بتركيا، وفق ما أورده التنظيم في "دابق" عام 2015. ويتصل بذلك تبنيه دعاية لغة وأسلوب خطاب غير مفهوم لغير المسلمين، وقد يجد بعض المسلمين غير الملتزمين دينيًّا صعوبة بالغة في فهمه، وهو ما يجعل تأثير "دابق" محدودًا للغاية. ويخاطب قاعدة محدودة من المتعاطفين مع داعش ومؤيديه، وهو ما يمكن اعتباره ضمن أنماط "خطاب الذات" الذي لا يؤدي إلى تعزيز صفوفه بمؤيدين جدد وكوادر من خارج دوائر مؤيديه. وفي السياق ذاته، يتسبب خطاب التنظيم العدائي تجاه كافة الفرق والجماعات والتنظيمات المتشددة الأخرى، مثل تنظيم القاعدة وجبهة النصرة، في إضعاف داعش ذاتها من خلال تقسيم وتفكيك جبهة الجماعات المتطرفة بدلا من السعي لتوحيدها وتعزيز تماسكها. بالإضافة إلى إجبار داعش على محاربة أكثر من جبهة في الوقت نفسه، وهو ما يعني أن دعاية التنظيم تعمل ضد مصالحه الاستراتيجية على المدى البعيد. وختامًا، يمكن القول إن تطبيق تنظيم "داعش" الاتصال الاستراتيجي في صياغة ونشر دعايته، لم يؤدِّ إلى تحقيق الأهداف الأساسية التي حددها التنظيم بصورة كاملة بسبب الافتقاد للمرونة، وهيمنة التشدد الأيديولوجي على الخطاب الذي يصدره التنظيم، بالإضافة إلى المحلية في صياغة خطابه، وتأجيج الصراعات مع الجماعات المنافسة بدلاً من احتوائها، وهو ما يُفسر الانحسار الميداني لداعش في سوريا والعراق حسب الدراسة. *مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة