تسهم الجامعات الأوكرانية في تكوين أعداد كبيرة من الأطر والكفاءات العلمية المغربية، وتعرف أوكرانيا إقبالا منقطع النظير في السنوات الأخيرة من لدن الطلاب المغاربة الحاملين لشهادة البكالوريا وما فوقها لمتابعة دراستهم فيها، إقبال نجد تفسيره في التكاليف الدراسية المنخفضة نسبيا بالمقارنة مع بعض الدول التي تعتمد نظام الدراسة غير المجانية كبريطانيا وكندا والولايات المتحدةالأمريكية وأستراليا وغيرها، زد على ذلك الرتب المشرفة التي تحتلها بعض الجامعات الأوكرانية على المستوى العالمي كجامعة شيفتشينكو بكييف، وجامعة كارازينا بخاركوف التي أنجبت ثلاثة علماء ممن حصلوا على جوائز نوبل – ميتشنيكوف في البيولوجيا، كوزنيتس في الاقتصاد ولانداو في الفيزياء -، وعشرات الجامعات الأخرى العريقة في عدد من المدن كالجامعة الوطنية بزباروجيا، وجامعة البوليتيكنيك بلفوف، وجامعة البوليتيكنيك بكييف وغيرها.. الاهتمام بالدراسة بأوكرانيا من لدن الطلاب المغاربة ليس وليد اليوم، فقد تكونت العديد من الكفاءات المغربية أثناء الحقبة السوفياتية في جامعات مختلفة من جمهوريات الاتحاد السوفياتي سابقا في تخصصات مثل الهندسة المعمارية، الطب، الصيدلة والهندسة بتخصصاتها... وبعد استقلال تلك الدول، نهجت العديد منها، وعلى رأسها أوكرانيا، العمل باعتماد إبرام عقود بين الطالب الأجنبي وبين الجامعة التي سيدرس فيها، ثم تطور الأمر ليصبح هذا العقد ثلاثي الأطراف يبرم بين الجامعة والطالب والشركة الوصية والتي قامت بجلب الطالب إلى هذا البلد وهي المسؤولة عليه منذ بداية مشواره الدراسي حتى التخرج. وللإشارة، فالجامعات الأوكرانية تكوّن سنويا ما يقارب 500 إطار في التخصصات سالفة الذكر وغيرها؛ فالإقبال الطلابي المغربي الكبير إلى أوكرانيا يرجع الفضل فيه إلى هذه الشركات الطلابية والتي تقوم بحملات دعائية، وتنظيم معارض ومنتديات للتعريف بالجامعات وبالدراسة. كما لا يمكن استثناء شبكة الأنترنيت بكل ما تحويه من مواقع لهذه الشركات ومواقع للتواصل الاجتماعي التي تلعب دورا كبيرا في التواصل مع كل من يرغب في الدراسة بأوكرانيا لحثه على الدراسة في إحىد الجامعات المتعاقد معها؛ وهو ما يعود على الشركات المتعاقدة بأرباح عالية، ربما قد تخلق تهافتا ومنافسة شرسة بينها لاستقطاب أكبر عدد ممكن من الطلاب، مما يصرف نظر البعض منها عن القيام بالتزاماتها ومد يد المساعدة وتأطير الطالب، وخصوصا في السنة الأولى أو ما تسمى بالسنة التحضيرية لمواجهة بعض الصعوبات ومن بينها العائق اللغوي والذي سنتطرق إليه بالتفصيل. الجانب التجاري في توجه بعض البلدان أو الجامعات للتسويق للخدمات الطلابية ليس بالشيء الجديد؛ فالمؤسسات التعليمية، كيفما كانت مدرسية أم جامعية، تعتمد في مصادر تمويلها ليس فقط على الدعم الحكومي (هذا إن كانت عمومية) ولكن على رسوم التكاليف التي يدفعها المستفيدون من هذه الخدمات التعليمية، وخصوصا إذا كانت خاصة. فمن جهة جلب أعداد كبيرة من الطلبة المستفيدين من الخدمات الطلابية سيخدم إيجابا هذه المؤسسات التعليمية ويخلق نوعا من المنافسة لتحسين وتطوير المستوى التعليمي لدى الطلاب، وسيجعل الجامعات في بحث مستمر في الاقتداء بنماذج من التجارب الرائدة لبعض الجامعات العالمية وتبني منظومات دولية في التعليم من أشهرها نظام بولونيا الخاص بإصلاح التعليم العالي المعلن عنه سنة 1999 بمدينة بولونيا الإيطالية والذي يهدف إلى دعم وتكثيف التعاون الأوروبي في مجال تطوير التعليم العالي في أوروبا، واعتماد نظام موحد للشواهد العليا واعتماد نظام دراسي موحد، وكذلك العمل بنظام موحد لقياس كفاءات الطالب ومستواه الطلابي. ولم تكن الجامعات الأوكرانية بمنأى عن مبادرات تعليمية أوروبية أخرى كبرنامج إيراسموس الذي يسمح بتنقل الطلاب الأوروبيين بين مختلف الجامعات في ظرف مدة محددة، فإذن انخراط الجامعات الأوكرانية في هذه المبادرات جعلها تتبوأ مقاعد لا يستهان بها دوليا، وهناك تعاون فعال بين العديد منها وبين عدد من الجامعات والمراكز العلمية الأوروبية والعالمية في المجالات العلمية والدراسية. فيمكن القول إن الشروط العلمية والأكاديمية لدى المؤسسات التعليمية العليا الأوكرانية متوفرة وجديرة بأن تكون أساسا وأرضية رائدة للراغبين في الحصول على العلم والمعرفة والشهادات الجامعية لتبوؤ مكانة محترمة في مجال سوق الشغل؛ غير أن الجانب اللغوي يبقى أحد أهم العوائق التي تقف عقبة في وجه الطالب الأجنبي عموما والطالب المغربي على وجه الخصوص، نظرا للصعوبات اللغوية التي تتميز بها اللغة المحلية ونقصد بها اللغتين الروسية أو الأوكرانية على حد سواء. تعتمد أوكرانيا في الدراسات الجامعية على لغتين هما اللغة الأوكرانية وهي اللغة الرسمية للبلد، والتي يعمل بها بالأساس في المناطق الغربية والوسطى، واللغة الروسية والتي تعتمد كلغة تدريس في المناطق الشرقية والجنوبية بشكل خاص، معظم الأجانب يتلقون دراستهم باللغة الروسية، فيما تحتل اللغة الإنجليزية المرتبة الثالثة كلغة تدريس في الجامعات الأوكرانية، وللطالب حق اختيار اللغة التي سيدرس بها تخصصه الدراسي... منطقيا، ولمعرفة البلد وتسهيل التواصل مع أهله يستحسن دراسة اللغة الروسية أو الأوكرانية، كيفما كانت لغة التدريس التي اختارها الطالب، فاللغتان المذكورتان أساس التعامل اليومي مع الناس وتفرض نفسها في كل مرافق الحياة، وتبقى اللغة الإنجليزية لغة الأعمال ويجيدها حوالي 18 % من سكان أوكرانيا (حسب استطلاع للرأي)، فيما لا تتعدى نسبة الذين يجيدون اللغة الفرنسية 2 %، بمعنى آخر يكون الطالب المغربي مجبرا على اختيار اللغات الثلاث: الأوكرانية، الروسية وكخيار ثالث اللغة الانجليزية. وقد يختار الطالب المغربي اللغة الإنجليزية دون الحاجة إلى اللغتين المذكورتين بحجة أنه سيربح سنة كاملة، بالإضافة إلى أنها لغة عالمية وأن العديد من طلاب الشرق الأوسط والهند والصين وكل من يعتمد اللغة الإنجليزية لغة تدريس وغيرهم... يدرسون بهذه اللغة، وقد نقبل بهذا الطرح أيضا إذا عرفنا أن اللغة هي أداة وليست هي الهدف في حد ذاته خصوصا في دراسة علم من العلوم، فلن تغير اللغة شيئا من الحقائق والقوانين العلمية التي ندرس، لكن في المقابل هل كل الطلبة المغاربة مؤهلون لدراسة تخصصات جامعية باللغة الإنجليزية؟ الجواب ربما سيكون بديهيا وهو لا، لسببين الأول لأن اللغة الإنجليزية تحتل المرتبة الرابعة أو الخامسة في المغرب كلغة متداولة وربما قد يقتصر التعامل بها في الأعمال وفي التعاملات التجارية، ولا تزيد سنوات تدريسها للتلاميذ سنتين أو ثلاث سنوات في التعليم الثانوي. فلا بد، إذن، من تكوين لغوي إضافي للطالب في اللغة الإنجليزية (في المغرب أو في بلد الدراسة أوكرانيا) إن أراد متابعة دراسته وبلوغ مستوى ينسجم مع تكوينه العلمي. نبذة عن اللغة الروسية كما سبق الذكر، فإن مسألة اختيار لغة التدريس، روسية كانت أم أوكرانية، تبقى بيد الطالب، فلا بأس أن نورد موجزا للتعريف بهذه اللغة. تعتبر اللغة الروسية إحدى أكثر اللغات السلافية انتشارا في الفضاء السوفياتي السابق الذي كان يجمع 15 دولة. وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي، بقيت هذه اللغة سائدة في هذه البلدان، إلى جانب اللغات المحلية، ويتحدث بها أكثر من 400 مليون شخص، وهي إحدى اللغات الست في الأممالمتحدة؛ بل أكثر من ذلك العديد من دول أوروبا الشرقية غير السوفييتية هناك نسبة كبيرة ممن يتكلمون هذه اللغة. بالنسبة إلى أوكرانيا بعد فترة استقلالها أي منذ سنة 1991، بدأ اهتمام كبير باللغة الأوكرانية لتطويرها كأحد أسس الهوية الوطنية. وفعلا، تحتل هذه اللغة مكانتها المرموقة وأصبحت لغة علم وتدريس كما كانت فيما قبل لغة أدب وتراث علمي غني أسهم فيه العديد من مشاهير الأدباء والعلماء الأوكران كطراس شيفتشينكو، إيفان فرانكو، نيكولاي غوغل، ليسا أوكراينكا وغيرهم. ويمكن القول إن الشعب الأوكراني ثنائي اللغة (Bilingue) أوكراني – روسي. وفي الفترة المذكورة، تزايد الاهتمام بتدريس اللغات الأجنبية وتعليمها للحاجة الماسة للتعامل مع العالم الخارجي؛ وعلى رأس هذه اللغات تعلما اللغة الإنجليزية، وبقيت اللغة الروسية أداة للتعامل مع باقي بلدان الاتحاد السوفياتي السابق وكذلك إحدى لغات التدريس الجامعي. يجتاز الطالب الأجنبي سنة دراسية كاملة لتعلم أسس ومبادئ اللغة الروسية، بشكل مكثف على يد أساتذة ناطقين بهذه اللغة، ومع طلاب من جنسيات مختلفة، لتكون اللغة التي يدرسها أداة للتواصل مع المحيط خارج المؤسسة التعليمية في حاجاته اليومية، وكذلك مع زملائه في الفصل، ولا تقتصر هذه السنة على دراسة اللغة الروسية لوحدها (قواعد، محادثة، وغير ذلك)، بل يدرس بالإضافة إلى ذلك موادا لها علاقة بالتخصص الذي يريد متابعة دراسته فيه. بالرغم من التعدد الثقافي واللغوي للمغاربة، وبالرغم من تفوقهم لغويا بالمقارنة مع باقي الطلاب من باقي البلدان التي يدرس أبناؤها في أوكرانيا (بشهادة العديد من الأساتذة)؛ فإن اللغة الروسية تبقى من التحديات والمعوقات التي تقف أمام العديد من الطلاب المغاربة للتحصيل العلمي، فلا يمكن الاستغناء عنها إلا بإيجادها، الأمر الذي يتطلب من الطلاب بذل مجهودات كبيرة والحرص على الحضور المنتظم والمستمر، والبحث عن فرص للتواصل بها وتطبيقها، ولا يقتصر الأمر على السنة التحضيرية والتي تعتبر أساسية، ولكن حتى نكون صريحين، لا يمكن بأي حال الوصول إلى أعلى مستوى في هذه اللغة في ظرف سنة واحدة، بل الأمر يتطلب نفسا طويلا ومواصلة دراسة اللغة حتى وبالموازاة مع دراسة التخصص، فأمام الطالب فهم الدروس والمحاضرات، اجتياز الامتحانات، وأهم عقبة هي كتابة بحث نهاية المشوار الدراسي سواء تعلق الأمر بمستوى نيل شهادة البكالوريوس، شهادة الماجستير أو شهادة الدكتوراة، فشتان بين مستوى لغة الحياة اليومية والتواصل مع الناس في المواضيع العامة، وفهم الأسلوب العلمي والأكاديمي وكتابة أطروحة لنيل الدكتوراة باللغة الروسية على سبيل المثال. أوجه التشابه والاختلاف بين اللغتين العربية والروسية هناك نظرية تقول إنه كلما تعددت اللغات التي نجيدها كلما سهل علينا تعلم لغات أخرى جديدة؛ لأن الرصيد اللغوي يكتسب والقواعد اللغوية تفهم بسهولة أكثر في تعلم لغة أجنبية جديدة إذا كان ما ندرس يذكرنا بما نعرف أو على الأقل يشابه إلى حد ما قواعد متراكمة مما تعلمناه سابقا وذلك عن طريق الملاحظة والتحليل؛ فالطريقة نفسها تقودنا إلى معرفة أشياء مهمة عن اللغة الروسية لها ما يشابهها في اللغة العربية. ومثال ذلك حالات الإعراب، في اللغة الروسية الستة وما يقابلها في الحالات الثلاث في اللغة العربية، فحالتا الرفع والنصب في اللغة العربية تشبه تماما الحالتين الإعرابيتين نفسيهما مع اختلاف المصطلحين طبعا، وحالة الجر تجمع باقي الحالات الإعرابية الأربع في اللغة الروسية، فالطالب المغربي أو أي طالب ناطق باللغة العربية، عندما سيفهم هذا التشابه سيسهل عليه بسرعة فهم لماذا تتغير أواخر الكلمة في اللغة الروسية بما فيها أسماء العلم، الشيء الذي يعتبر إعجازا لباقي الطلاب الناطقين بلغات أخرى كالفرنسية، الانجليزية، الصينية وغيرها من العديد من اللغات. ما عدا ذلك تبقى أوجه الاختلاف أكثر بين العربية والروسية، وخصوصا إذا تعلق الأمر بالرصيد اللغوي؛ فناذرا ما نجد مفردات روسية لها جذور عربية أو ما يشابهها في اللغة العربية، وهو ما يشكل صعوبة إضافية لحفظ مفردات روسية بسرعة. في المقابل، هناك مفردات روسية مستعارة من اللغة الإنجليزية، على وجه الخصوص ومن اللغات الأوروبية الأخرى. الحافز نحو التحصيل العلمي والحصول على شهادة عليا تمكنان الطالب من بلوغ مستوى معرفي يؤهله بعد التخرج لولوج سوق الشغل والظفر بمنصب يتناسب مع مؤهلاته هي أحد الحلول لمواجهة عقبات كالمشكل اللغوي وتحديات أخرى، دون أن ننسى مسألة الاندماج في المجتمع للتواصل مع أفراده وهو من أنجع الطرق أيضا لتحسين المستوى اللغوي والتعرف على ثقافة الغير لتسهيل التواصل. *أستاذ جامعي بالجامعة الوطنية للاقتصاد بمدينة خاركوف بأوكرانيا