بعودته لتدريس المواد العلمية باللغة الفرنسية , هل أعلن المغرب فشله في التعريب؟ كيف سيتعامل التلاميذ مع هذا النهج الجديد بعد ثلاث عقود من التدريس باللغة العربية ؟ وهل ستكون النتيجة منصفة بين التعليم الخاص والعمومي ,علما أن مستوى هذا الأخير ضعيف في الفرنسية وحصصه قليلة ,ألا يخل هذا الوضع بمبدأ تكافؤ الفرص الذي يتوخاه مجلس عزيمان؟ قرار بلمختار المفاجئ بالعودة لتدريس المواد العلمية بالفرنسية, شق الرأي العام المغربي إلى مؤيد ومتحفظ. وخلق تخوفا وارتياحا لدى التلاميذ ,تخوف من مدى قدرتهم على اجتياز امتحانات أولى باكلوريا السنة القادمة بشكل جيد, و ارتياح بسبب التوازن الذي سيحدثه هذا القرار بالنسبة لمسارهم الدراسي الجامعي. وكانت مذكرة وزارة التربية الوطنية والتكوين المهني، التي صدرت الأسبوع الماضي, تقضي بتدريس المواد العلمية (الرياضيات والعلوم الفيزيائية) باللغة الفرنسية، ويتعلق الأمر بكل من تخصص الجذع المشترك التكنولوجي وشعب ومسالك التقني الصناعي في جميع مستوياتها. وبأن القرار سيدخل حيز التنفيذ ابتداء من الموسم الدراسي المقبل 2016/2017، وبإمكان الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين الشروع في تطبيق المذكرة ابتداء من الدخول المدرسي الحالي. وهو نفس الطرح الذي تقدم به مجلس عزيمان من خلال استراتيجية الأصلاح , التي ركزت على استفادة المتعلمين، بفرص متكافئة من ثلاث لغات في التعليم الأولي والابتدائي؛ هي العربية كلغة أساسية، والأمازيغية كلغة التواصل، والفرنسية كلغة الانفتاح، تضاف إليها الإنجليزية ابتداء من السنة الأولى إعدادي، ولغة أجنبية أخرى اختيارية منذ السنة الأولى ثانوي تأهيلي؛كما تتوخى تنويع لغات التدريس، بالإعمال التدريجي للتناوب اللغوي كآلية لتعزيز التمكن من اللغات عن طريق التدريس بها، وذلك بتعليم بعض المضامين والمجزوءات، في بعض المواد، باللغة الفرنسية ابتداء من الإعدادي، والإنجليزية ابتداء من الثانوي التأهيلي؛ وهذا ما سيجعل الحاصل على البكالوريا متمكنا من اللغتين العربية والأمازيغية، ومن لغتين أجنبيتين على الأقل. جانب كبير من الرأي العام المغربي يرى أن التعريب خلق اختلالا كبيرا في المنظومة التعليمية, لأنه لم يواكب التلاميذ في دراساتهم الجامعية, يتخلى عنهم عند الحد الفاصل بين الثانوي والجامعي ويتركهم يواجهون مصيرا مغايرا لما درسوه .العديد من أبناء الشعب لم يتمكنوا من متابعة السير ومن صمد كان عليه أن يعيد السنة الأولى أو يعمد لدروس الدعم في اللغة الفرنسية كي يستطيع متابعة دراسته الجامعية ,فبالرغم من النقط العالية التي كانوا يحصلون عليها , كان الأساتذة في الجامعة يتبرمون من مستواهم الذي لايواكب مستوى التعليم العالي,مما اضطر بعض الجامعات إلى إحداث شراكات مع مراكز ثقافية فرنسية لتقديم دروس الدعم للطلبة , هذا الوضع أفرز جيلا جامعيا ليس في مستوى تطلعات المغرب . الآباء أيضا متخوفون عن مصير أبنائهم و يشفقون عليهم من هذا التناقض المفاجئ, العديد منهم يعتبر أن هذه القرارات المفاجئة تمثل ظلما في حق أبنائهم الذين أضحوا فئران تجارب لسياسات حكومية متعاقبة لا تقدر حجم القرارات وانعكاساتها المستقبلية, فالقرارات تتغير بتغيير الحكومات, مما يجعلنا ننتظر تنفيذ توصية المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي بإصدار قانون إطار يحمي التعليم من تغيير استراتيجيات الإصلاح بتغيير الحكومات. التربويون بدورهم انقسموا إلى رأيين ,العديد ممن سألناهم من نساء ورجال التعليم استحسنوا القرار, اعتبروا القرار بالنسبة لهم مريحا لأنهم درسوا هذه المواد أصلا بالفرنسية ولا إشكال في تدريسها , ولكن الإشكال في بذل مجهود إضافي مع التلاميذ كي يستوعبوا ويتابعوا الدرس بلغة لم يتعودوا التدريس بها ,خصوصا في التعليم العمومي الذي يفتقر فيه التلاميذ للغة الفرنسية ,فيما يستحسن آخرون هذا القرار ويرون أن هذه الخطوة تتسم بالشجاعة، في ظل المفارقة الكبيرة بين تدريس التلاميذ مدة 12 سنة باللغة العربية، ليجدوا أنفسهم يدرسون باللغة الفرنسية في الجامعات والمعاهد العليا، ويرون أن هذا القرار يجب أن يعزز بإجراءات منها دعم التلاميذ بسبب ضعف مستوى اللغة الفرنسية لديهم؛ مما يجعل استيعابهم المواد العلمية دون المستوى المطلوب. يرى أستاذ مادة الرياضيات بالسلك الثاني، أن المشكل غير قائم بالنسبة للأساتذة المدرسين للغات العلمية على مستوى الثانويات التأهيلية، لكن المشكل يكمن في مستوى تلاميذ القطاع العمومي الذين يعانون بسبب مستواهم الضعيف في اللغة الفرنسية، الأمر الذي يمنعهم من استيعاب دروس المواد العلمية بالشكل الكافي والمطلوب، مما يضطر الأساتذة إلى الشرح باللغة العربية. فيما لا يعاني تلامذة القطاع الخصوصي من هذا المشكل.وقد ينعكس هذا التفاوت على مستوى النتائج العامة ويخلق هوة اجتماعية كبرى بين هاتين الفئتين, خصوصا وأن قرار فرنسة المواد العلمية لم تواكبه برمجة مسبقة لآليات التدريس. أغلب الأساتذة في المواد العلمية أجمعوا على أن الانتقال من دراسة المواد العلمية باللغة العربية في المستوى الثانوي إلى الفرنسية في الجامعة كان يطرح خللا كبيرا على مستوى المسار التعليمي للطلبة وعدم توازن نفسي ومعرفي لهم، ويساهم في ترك الطلبة الجامعيين لدراستهم، مشددين على ضرورة دعم التلاميذ في اللغة الفرنسية حتى يتمكنوا من متابعة دراسة كل التخصصات الجامعية .. الباحث التربوي محمد الشلوشي,ذهب بعيدا في الطرح لدرجة أنه اعتبر أن حتى اللغة الفرنسية لم تعد لغة علوم اليوم، والأوْلى التفكير في التدريس بالإنجليزية، كما هو الأمر في أغلب بلدان العالم. مستطردا بأن جرعة بهذا الحجم تحتاج إلى تدبير متوسط المدى وموارد بشرية كافية، ومعادلات سياسية لم يحن وقتها بعد، متابعا: «أولى هذه التدابير البدء في تدريس الإنجليزية مبكرا جدا، والتفكير جديا في تعميم اعتمادها في الشعب العلمية بالتعليم العالي تدريجيا». واعتبر الشلوشي أن الوزير بلمختار بخطوته هذه تحلى بالجرأة الكافية لإخراج التعليم إلى آفاق عالمية رحبة، خصوصا أن عملية كهذه لن تكلف ميزانية الدولة درهما، على اعتبار أن الأطر التعليمية كلها مؤهلة لمثل هذه النقلة الجذرية، نظرا لأن تكوينها الجامعي كان باللغة الفرنسية.ودعا إلى توسيع هذه العملية لتشمل تدريس العلوم بالتعليم الإعدادي باللغة الفرنسية، وكذلك تدريس الرياضيات والنشاط العلمي بالمستوى السادس من التعليم الابتدائي، عملا بمبدأ التناوب اللغوي الذي أقره مجلس عزيمان ؛ آراء أخرى معارضة لبعض المدراء ,ترى أن هذا الإجراء سيخلق ارتباكا بالمؤسسات التعليمية المعنية في ظل الخصاص المسجل في أساتذة الرياضيات, خصوصا وأن الخريجين الجدد غير مؤهلين لتدريسها باللغة الفرنسية، وأنه لم يخبر بتنفيذ هذا الإجراء الفجائي إلا بعد انطلاق الموسم الدراسي. إلا أن مصادر وزارية أكدت أن الأساتذة الذين سيقومون بتدريس هذه المواد العلمية، سيتم اختيارهم ممن تلقوا تكوينا سابقا باللغة الفرنسية، واستبعدت ما يروج حول استقدام أساتذة فرنسيين لتدريس هذه المواد. قرار بلمختار الذي أحدث هزة في الساحة التعليمية وتساؤلات حول أشكال تصريفه و نجاعته في إنقاذ التعليم من «السكتة القلبية» التي أوشك عليها, يطرح أيضا مدى مراعاته لتحقيق مبدأ تكافؤ الفرص الذي يعد أحد ركائز مجلس عزيمان لإصلاح التعليم, في ظل واقع تعليمي يشكو الهشاشة والخصاص والاكتظاظ..., و يعاني هوة تزداد اتساعا بين تعليم عمومي يفتقر لأبسط مقومات الإنصاف وتعليم خاص يستنفد جيوب أسر تنشد الجودة. وقد كان رئيس المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي, قد توقف في حوار لجريدتناأجراه معه الأستاذ ابراهيم الباعمراني , توقف بالشرح و التحليل للمرتكزات الأساسية للهندسة اللغوية التي اعتمدتها الرؤية الااستراتيجية الإصلاح التي ارتكزت على مجموعة من المبادئ والأهداف التي يفرضها العقل والمصلحة العليا للمتعلمين.أبرزها يتعلق بتحقيق الإنصاف وتكافؤ الفرص في التمكن من اللغات، واستحضار الأهمية الخاصة للغات في تحسين جودة التعلمات والتكوينات وفي النجاح الدراسي، وفي المردودية الداخلية والخارجية للمنظومة، وفي النهوض بالبحث، وفي تحقيق الاندماج، وضمان انسجام السياسة اللغوية في المنظومة التربوية بمختلف مكوناتها، وجعل كل متعلم عند نهاية التعليم الثانوي التأهيلي متمكنا من اللغة العربية، قادرا على التواصل باللغة الأمازيغية ومتقنا للغتين أجنبيتين على الأقل. كما تتصل هذه المبادئ بإعطاء الأسبقية للدور الوظيفي للغات المعتمدة في ترسيخ الهوية، والانفتاح الكوني، واكتساب المعارف والكفايات والثقافة، والارتقاء بالبحث، وتحقيق الاندماج الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والقيمي، والمراجعة العميقة المناهج وبرامج تدريس اللغة العربية، وتجديد المقاربات البيداغوجية والأدوات الديداكتيكية المعتمدة في تدريسها، والسهر على المزيد من تهيئة هذه اللغة في أفق تعزيز تحديثها وتنميتها وتبسيطها، ومواصلة المجهودات الرامية إلى تهيئة اللغة الأمازيغية، ومراجعة مناهج وبرامج تدريس اللغات الأجنبية طبقا للمقاربات والطرائق التعليمية الجديدة، وأخيرا تنويع لغات التدريس، لاسيما باعتماد التناوب اللغوي لتقوية التمكن من الكفايات اللغوية لدى المتعلمين، وتوفير سبل الانسجام في لغات التدريس بين أسلاك التعليم والتكوين. ويمكن القول، بكل تأكيد، أن الاشتغال الرصين من قبل هيئات المجلس وأعضائه على هذا الموضوع الوازن، قد أثمر اقتراح هندسة لغوية جديدة تستند إلى التعدد اللغوي، وتحدد بوضوح وضع كل لغة على حدة داخل المنظومة التربوية، وكل ذلك باستحضار للدور الحاسم لإتقان اللغات الوطنية والأجنبية في الرفع النوعي من جودة المنظومة التربوية. وإن المجلس لفخور جدا بكون مقترحاته حظيت بدعم وسند جلالة الملك، حيث جاء في خطاب جلالته الموجه للأمة بمناسبة عيد العرش الأخير: « إن إصلاح التعليم يجب أن يهدف أولا إلى تمكين المتعلم من اكتساب المعارف والمهارات، وإتقان اللغات الوطنية والأجنبية...»