مقدمة: كما أشرنا إلى ذلك في المقال السابق، فإن كل اختبار جديد من اختبارات البكالوريا في مادة الرياضيات له تأثير في مسار تدريس هذه المادة، إلا أن تأثير اختبار واحد يظل محدودا وتراكم الاختبارات هو الذي يحرك عجلة التغيير نحو الأحسن أو نحو الأسوأ ويؤثر في النتائج التي يحققها التلاميذ بجانبيها الكمي والكيفي؛ وذلك من خلال الإشارات والرسائل التي تنبعث من تراكم الاختبارات وتفعل فعلها السحري المؤثر والمُوَجّه لعمل وممارسة الفاعلين في مجال تدريس الرياضيات، من أساتذة ومفتشين ومؤلفين، ومن خلال الاستراتيجيات التي تتبناها المؤسسات الوصية حسب كيفية إدراكها وفهمها لهذه الرسائل المنبعثة، وبالتالي تفاعلها الإيجابي أو السلبي معها. قراءة في نتائج البكالوريا للمسالك العلمية للدورة العادية لسنة 2017: بلغ عدد المرشحين بالمسالك العلمية هذه السنة 100 ألف و244 مرشحا، وكانت نسبة النجاح 52,78%، وهي نسبة مرتفعة نسبيا بالمقارنة مع نسبة السنة الماضية التي وصلت 51,74%. أما بخصوص المسالك الدولية، فقد خلقت المفاجأة حيث بلغت نسبة النجاح 97,09%. وهكذا يبدو أن نسبة النجاح جيدة بالمقارنة مع السنوات الفارطة، وأن مبادرة خلق المسالك الدولية قد ساهمت بشكل كبير في الرفع من نسبة النجاح، إلا أن المشكل المطروح هذه السنة ليس في نسبة النجاح ولكن في تراجع نسبة الميزة "حسن جدا"؛ حيث تقهقر معظم التلاميذ الذين كان يُعَوَّل عليهم للظفر بهذه الميزة، وتراجع معظمهم إلى الميزة "حسن"، وكذلك نسبة الميزة "حسن" تراجع جزء منها إلى "مستحسن"، وهكذا... وقد تولد لدينا هذا الانطباع من خلال نتائج بعض المؤسسات في مدينة الرباط، وننتظر أن تظهر إحصائيات رسمية مضبوطة للتأكد من صحة أو خطأ هذا الانطباع. ما موقع اختبار مادة الرياضيات في هذه الخريطة؟ سبق أن أشرنا في المقالات السابقة التي خُصِّصَت لتحليل اختبارات البكالوريا لمادة الرياضيات لهذه السنة والسنتين الماضيتين، إلى مدى الجمود الذي أصاب هذه الاختبارات على طول عشر سنوات، الشيء الذي أدى إلى نوع من الركود على مستوى النتائج وعلى مستوى اجتهادات الأساتذة الذين فعل فيهم الروتين فعل الفيروس القاتل لكل محاولات الابداع، وصار الأستاذ المبدع غريبا بين عُشَّاق الروتين، وسادت قناعات جديدة مفادها أن الإعداد لاختبارات البكالوريا في مادة الرياضيات لا يتطلب أكثر من إنجاز بعض الاختبارات السابقة وكفى الله المؤمنين شر القتال، وصار التلاميذ لا ينجزون إلا التمارين التي سبق أن طرحت في البكالوريا أو تمارين نسخت على شاكلتها ولا شيء غير ذلك، وكل خروج عن هذه القاعدة يعد مضيعة للوقت وخروجا عن الطريق القويم. وهكذا أصبحت الدوغمائية تجتاح عقول التلاميذ، يحفظون بعض الإجابات شبه الجاهزة وبعض الخوارزميات ويطبقونها ولا شيء غير ذلك، مما أدى إلى تدمير كل خلايا الابداع في أذهانهم. بهذه الكيفية كان تعليمنا للرياضيات يساهم في خلق جيل من عديمي القدرة على الفعل والاكتشاف والمغامرة والابداع؛ حيث إن باب الاجتهاد والتدريب على استخدام العقل أصبح شيئا ثانويا وليس ذا أولوية. هكذا تم تغييب التنافس والبحث في صفوف التلاميذ وخمدت شعلة الاجتهاد شيئا فشيئا، وأصبحنا نكون جيوشا من الكسالى لا يتقنون إلا الغش ولا يجتهدون إلا فيه. وكما أصبح الأستاذ المُجِدُّ غريبا، أصبح كذلك التلميذ المُجِدُّ غريبا وأضحى ينعت ب "القَرَّايْ"، وكأن القْرَايَة لَعْنة أصابته من سماء رب العالمين. والقَرَّايْ "والأعياذ بالله" هو ذلك الشخص الذي لا يضحك ولا يلعب ولا يعرف إلا المعقول، وكثير من القَرَّايَة أُحِيكَتْ لهم المُؤامَرات بفرط ما اقترفوه من جرائم في حق الكسالى المحترمين الذين لم نستوردهم من أدغال إفريقيا بل صنعناهم بأيدينا (Made in Morocoo)؛ وذلك منذ أن تبنينا ما يسمى بالإطار المرجعي للرياضيات وبدأ إخواننا في اللجنة الوطنية للامتحانات يطبقونه بالنقطة والفاصلة وهاجسهم الأوحد والوحيد هو عدم الخروج عن النص. هكذا تم تحجيم كل شيء لمدة عشر سنوات. لكن وبقدرة قادر حلت سنة 2015 وجاءت ببصيص من الأمل باخْتِبَار مذاقه مختلف وأسلوبه مختلف. وقد كان موضوع هذا الاختبار مهما ليس لأنه خرج عن نطاق الإطار المرجعي للرياضات، لكن لأنه استطاع قراءة بنود الإطار المرجعي قراءة ذكية وشجاعة بعيدا عن التدجين والحسابات السياسية أو غيرها. هذا الاختبار "التاريخي" تم إلغاؤه بسبب عملية التسريب الغامضة التي تعرض لها، ومع ذلك فإنه لعب دوره كاملا وخلق سابقة مهمة كنا في حاجة ماسة إليها من أجل القطيعة مع الزمن البائد والإعلان عن بداية عهد جديد، وهو العهد الذي نعيشه الآن. إذا قمنا بمقارنة نتائج البكالوريا قبل 2015 مع السنوات التي بعده، نجد أن نسبة النجاح قبل هذا التاريخ كانت أقل من 48%، على سبيل المثال وصلت النسبة 45,20% سنة 2014، ووصلت إلى 47,68% سنة 2015 بسبب أن الاختبار الملغى تم تعويضه باختبار كلاسيكي من الصنف المعتاد نفسه ربما بحكم الضرورة. وقد لعب الاختبار الملغى لسنة 2015 دورا هاما جدا؛ فقد قامت القيامة بعد هذ الاختبار وجعلت كل الفاعلين يتوخون الحذر ويلتقطون منه إشارات التغيير الممكنة في المستقبل، وأعادوا الاعتبار للحساب المثلث في الأولى باك بعد الاهمال الكبير الذي تعرض له طوال عشر سنوات؛ حيث إن معظم الأساتذة تعودوا على عدم إعارته إي اهتمام في السنة الأولى من البكالوريا، وتزايد الاهتمام بالهندسة الكلاسيكية التي هي مصدر الأفكار والابداع، وكمثال على ذلك العودة إلى التعريف الهندسي للفلكة وحساب مساحة المثلث باستعمال الجداء المتجهي. كما اكتشفوا ربما لأول مرة الامكانات الهائلة التي يتوفر عليها التمثيل المبياني وإمكانية توظيفه في تقديم معطيات معينة، وأعادوا الاعتبار لحساب التكامل بواسطة الاخطاط وأشياء أخرى، وبدأت رياح التغيير تلوح في الأفق. وبصفة عامة، بدأ وعي جديد يتبلور مفاده أن الاختبار الوطني ليس مجرد اختبار نمطي، بل هو مناسبة لتجسيد مختلف الجوانب الذكية في برنامج مادة الرياضيات والإطار المرجعي، وهو محرك رئيسي يدفع الأساتذة نحو إبداع أشياء جديدة لكن لا يمكنه أن يلعب هذا الدور إلا إذا حمل أفكارا جديدة ومطروحة بشكل بسيط وذكي. مضى عام بأكمله وجاء اختبار 2016 يحمل جديدا، وجاءت نسبة النجاح مشرفة وتجاوزت سقف 50%؛ حيث وصلت إلى 51,74%، وتلاه اختبار هذه السنة 2017 وكانت النتيجة أفضل ووصلت إلى 52,78%. يمكن القول إذن إن قطار التغيير قد وُضِع على السكة وانطلق، ليس فقط بالنسبة لتغيير نمط الاختبار بالشكل الذي ذكرناه سابقا، لكن كذلك باجتياز تلاميذ المسالك الدولية لامتحانات البكالوريا لأول مرة وتحقيقها لنتائج باهرة تتمثل في 97,09%. هذا في حد ذاته إنجاز عظيم وغير مسبوق يبطل عراقيل المشككين في قدرة تلاميذ المغاربة على تجاوز الصعاب وتحقيق نتائج جيدة إذا ما أتيحت لهم الفرصة. لكن السؤال المطروح هو لماذا تراجعت نسبة الحصول على الميزة؟ نعتقد أن مرحلة التجديد التي نعيشها لا زالت في بدايتها ولا زال الوقت مبكرا ليحصل التراكم الكافي لتحقيق طفرة على مستوى الكم والكيف، لكنها بداية مشرفة على طرق التغيير. *مفتش ممتاز لمادة الرياضيات سابقا [email protected]