مقدمة: مازلنا نتحدث عن الكم الهائل من الخرافات والأساطير التي تشكو منها كتب التراث الإسلامي، فيما يبقى التحقيق في ذلك حبيس المراجع والدوريات المختصة والندوات التي لا يحضرها إلا النخب من الباحثين والمفكرين وأصحاب الإختصاص، دون سائر العوام الذين يكتفون بما يروج في المختصرات التقليدية في الفقه والعقيدة والسير، وبما تواتره الناس عن بعض أهل العلم من المحافظين خصوصا، وما تزكيه اليوم الكثير من المواقع والفضائيات دون تحقيق. وهو ما يسمح بنفاذ الكثير من التهم التي يتوجه بها بعض المتربصين إلى الإسلام فيصيبون منها بسهامهم الكثير من النفوس المهتزة، بل وقد يصلون بتشكيكاتهم في بعض الأحيان بالمسلم البسيط إلى التشكيك في دينه كله، خاصة وأن كل من تكلم في هذا الأمر يواجه عادة من بعض المتطرفين ممن يسمون أنفسهم أهل العلم بفتاوى نارية وردود قد تخرج في الكثير من الأحيان عن حدود اللياقة والأدب. لكن، وبعد الثورة الرقمية والمعلوماتية، فلم يعد بالإمكان التستر على الحقيقة، وقد سبقنا إلى ذلك الكثير من العلماء والمحققين الأفذاذ قديما وحديثا كالشيخ أبو رية في كتابه "أضواء على السنة المحمدية"، والذي يعد من أشهر البحوث التي شدتني في هذا المجال، وقد اعتمدنا عليه كثيرا في هذا المقال. سبق في مقالنا الأول حول تاريخ الوضع في السنة النبوية أن أشرنا باقتضاب إلى دور متأسلمة اليهود والنصارى في جعل الأحاديث التي توافق أهواءهم وعقائدهم السابقة ونسبتها إلى رسول الإسلام، وذكرنا في ذلك قول ابن خلدون1 الذي ذكر سؤال المسلمين بمن فيهم بعض الصحابة أهل الكتاب من اليهود والنصارى عما سكت عنه النبي (ص) من أخبار الأمم السابقة، وقد اشتهر من بينهم في عهد الرسول (ص) كعب القرظي وعبد الله بن سلام، وفي عهد عمر بن الخطاب (رض) كعب الأحبار ووهب بن منبه. ولئن كان الأولان أقل خطرا لأن الرسول (ص) كان بين ظهرانيهم، فلم يكن ليسكت عما قد يأتي به هؤلاء إلا ألا يبلغه، فإن الأخيران قد وجدا الفرصة سانحة في ظل غياب صمام الأمان هذا بعد وفاة النبي (ص) وتساهل الكثير من الصحابة مع مروياتهما، وقد دفع بعضهم الفضول إلى اكتشاف ما في كيسهما من العجائب، خاصة كعب الذي كان يسرد حكاياه على مسمع من بعض الخلفاء، وتساهل بعد ذلك المفسرون والرواة في النقل عن هؤلاء دون تمحيص حتى امتلأت كتب التفسير والحديث بهذه المنقولات. وسنكتفي هنا بنموذج كعب الأحبار لشهرته من بين متأسلمة اليهود، وتأثيره على الكثير من الصحابة والتابعين. وإسهامه الكبير في بث الإسرائيليات في كتب التفسير والحديث والسير. فمن هو كعب الأحبار وكيف تمكن من التأثير على بعض الصحابة وهو من التابعين ممن لم يدرك عصر النبي (ص)؟ ولماذا تهافت على مروياته بعض الحكام (الأمويون خصوصا) فأجازوها ولم ينكرها من والاهم من فقهاء الصحابة والتابعين، رغم أن بعضها يناقض العقل والقرآن؟ وكيف اشتهرت رواياته (فبت تجد اليوم من يدافع عنها دفاعه عن أصول الدين والعقيدة)؟ كعب الأحبار: أثارت شخصية كعب الأحبار جدلا واسعا في التاريخ الإسلامي، حيث ارتبط اسمه بنشأة عدد من العلوم الإسلامية كالحديث النبوي وعلم التفسير. ويعود نشاطه بالأساس إلى عصر الخلفاء، فهو إذن تابعي أسلم في عهد عمر بعد أن كان حبرا ومن كبار علماء اليهود في اليمن، واسمه كعب بن ماتع بن ذي هجن الحميري وكنيته أبو إسحاق. سيكون لكعب دور بارز فيما عرف بالإسرائيليات في كتب تفسير القرآن، حيث أن الرسول (ص) قد سكت عن الكثير من أخبار الأمم الغابرة، لا سيما بنو إسرائيل، ولما كان أكثر الأنبياء من اليهود وكان لأحبارهم دراية بعلم الكتاب كما جاء في القرآن الكريم رغم اتهامهم بتحريف الكثير من الحقائق. فقد وجد الفرصة سانحة مع وضعه الجديد كمسلم وثق فيه عدد من كبار الصحابة والتابعين، وأخذوا من كيسه كل ما كان يحدثهم به من التراث السابق للإسلام. وبعد إقامته بالمدينة لفترة، خرج كعب إلى الشام، وسكن حمص وتوفي بها سنة 32ه-652م عن مئة وأربع سنين، في خلافة عثمان بن عفان2. وقد كان من المقربين لمعاوية، حيث كان هذا الأخير واليا على الشام، لذا يتهمه الشيعة بوضع الأحاديث لصالحه في صراعه ضد العلويين، ويتقاطعون في تجريحه مع عدد من المفكرين والمحققين في التراث الإسلامي قديما وحديثا، بل يذهب بعضهم إلى التشكيك في إسلامه ورواياته كالشيخ محمود أبو رية3. وقبل أبورية، فإن كلا من الشيخ رشيد رضا والدكتور محمد حسين الذهبي والدكتور أحمد أمين قد قاما في الطعن في كعب الأحبار والنيل من عدالته والتحذير من روايته، وتابعهما آخرون4. كما دافع عنه آخرون وحاولوا رد هاته الاتهامات كالشيخ الزرقاني والدكتور محمد حسين الذهبي والدكتور أبو شهبة وغيرهم، مؤكدين على عدالة كعب وتوثيقه بناء على توثيق وتعديل علماء الجرح والتعديل له، وأخذ الصحابة والتابعين عنه5. فهل كان كعب فعلا مخلصا في إسلامه؟ هل جاء إسلامه عن قناعة أم عن مصلحة؟ شيخ القصاصين: كان كعب أول من قص القصص في الإسلام، وقد أذن له معاوية أن يقص القصص في جامع حمص، وهي من عادات اليهود، حيث كان الأحبار يقصون على المجتمعين للتعبد والصلاة قصص أنبياء بني إسرائيل للعظة والاعتبار، كما كان يفسر القرآن على طريقة تأويل أحبار اليهود للتوراة. يقول ولفنسون في كتابه كعب الأحبار: والطريقة التي يتبعها كعب حين يناقش الناس في آيات القرآن، هي عينها الطريقة التي يتبعها أحبار التلمود في كثير من الأحوال6. فهو بهذا شيخ الإسرائيليات دون منازع، وحسب نفس الباحث فقد كان كعب ينظر للإسلام بالعين اليهودية، ويحل جميع ما يعرض له من مشاكل دينية بالغوص في الآداب اليهودية. وقد فطن بعض الصحابة وأئمة التابعين إلى ذلك فكانوا يتجنبونه، خاصة بعد أن منعه عمر بن الخطاب (رض) عن الرواية. يقول ابن كثير7: "لما أسلم كعب في الدولة العمرية جعل يحدث عمر(رض)، فربما استمع له عمر، فترخص الناس في استماع ما عنده، ونقلوا ما عنده من غث وسمين". ولكن لم يلبث عمر أن فطن لكيده وتبين له سوء دخلته، فنهاه عن الحديث، وتوعده إن لم يترك الحديث عن الأول أو ليلحقنه بأرض القردة8. وقد كان كعب يدرس القرآن، ويقابل ما ورد فيه بآيات التوراة، حيث يقول: فاتحة التوراة فاتحة الأنعام، وخاتمة التوراة خاتمة سورة هود9. و أول ما نزل من التوراة عشر آيات وهي العشر التي في آخر سورة الأنعام10. وسمع كعب رجلا يقرأ: قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم..فقال: والذي نفس كعب بيده، إنها لأول شيء نزلت في التوراة11. تلامذة كعب: كان من أبرز من روى عن كعب الأحبار من الصحابة نجد العبادلة الأربعة12، وعمر وعلي وأنس ومعاوية وأبي هريرة13. ويتوقف عدد من المحققين عن العلاقة الفريدة التي جمعت بين كعب الأحبار وكل من ابن عباس وأبي هريرة، فيوردون أخبارا عديدة يفسر فيها كعب عددا من الآيات القرآنية لابن عباس. ومثال ذلك سؤال ابن عباس كعبا عن "أم الكتاب"، حيث يجيب كعب: علم الله ما هو خلق وما خلقه عاملون فقال بعلمه: كن كتابا فكان14، وهذا الذي قاله كعب عن معنى "أم الكتاب" هو بعينه المذكور في المصادر اليهودية عن "أم التوراة" إذا صح التعبير15. وفي قصة أخرى جاء ابن عباس إلى كعب الأحبار يسأله عن قول الله تعالى : "عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى"16، فقال إنها سدرة في أصل العرش، إليها ينتهي علم كل عالم، ملك مقرب، أو نبي مرسل، ماخلفها غيب لا يعلمه إلا الله. وفي رواية أخرى، إنها سدرة على رؤوس حملة العرش وإليها ينتهي علم الخلائق، ثم ليس لأحد وراءها علم، ولذلك سميت سدرة المنتهى، لانتهاء العلم إليها17. ويروى أن ابن عباس وعمرو بن العاص اختلفا في قراءة هذه اللآية "حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة" وارتفعا إلى كعب الأحبار في ذلك18. من رواياته العجيبة اجتهد كعب في بث الكثير من الخرافات والأساطير في التراث الإسلامي مما كلف المحققين قديما وحديثا جهودا جبارة لتنقيته من هاته الشوائب التي تسيء إلى أفكار وعقائد الإسلام. فعلى سبيل المثال ماجاء في هذه الرواية التي أوردها ابن كثير في تفسيره19. قال معاوية لكعب: أنت تقول إن ذا القرنين كان يربط خيله بالثريا! فقال كعب: إن قلت ذلك فإن الله قال: وآتيناه من كل شيء سببا!! وذكر القرطبي في تفسير سورة غافر عن خالد بن معدان عن كعب أنه قال: لما خلق الله تعالى العرش قال: لم يخلق الله تعالى خلقا أعظم مني، واهتز تعاظما، فطوقه الله بحية لها سبعون ألف جناح، في كل جناح سبعون ألف ريشة، في كل ريشة سبعون ألف وجه، في كل وجه سبعون ألف فم، في كل فم سبعون ألف لسان! يخرج من أفواهها كل يوم من التسبيح عدد قطر المطر، وعدد ورق الشجر، وعدد الحصى والثرى، وعدد أيام الدنيا، وعدد الملائكة أجمعين، والتوت الحية على العرش - فالعرش إلى نصف الحية وهي ملتوية عليه، فتواضع عند ذلك! وفي التفسير20 أن عبد الله بن قلابة خرج في طلب إبل له فوصل إلى جنة شداد فحمل ما قدر عليه مما كان هناك، وبلغ خبره معاوية فاستحضره وقص عليه، فبعث إلى كعب فسأله، فقال: هي إرم ذات العماد، وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك أحمر أشقر قصير على حاجبه خال. وعلى عنقه خال، يخرج في طلب إبل له، ثم التفت فأبصر ابن قلابة فقال: هذا والله هو ذلك الرجل لا يدخل المدينة أحد بعده إلى يوم القيامة21. فلما فرغ كعب من كلامه قال له معاوية: يا أبا إسحاق، أخبرني عن كرسي سليمان بن داود وما كان عليه ومن أي هو. فأخذ ينشئ من خرافاته وأساطيره22. ومن ذلك ما أخرجه ابن خيثمة عن قتادة قال: بلغ حذيفة أن كعبا يقول: إن السماء تدور على قطب كالرحى فقال: كذب كعب، إن الله يقول: " يمسك السماوات والأرض أن تزولا"23. وعن مكحول، قال كعب: أربعة من الأنبياء أحياء أمان لأهل الأرض، اثنان في الأرض: الخضر وإلياس، واثنان في السماء: إدريس وعيسى24، وغير ذلك كثير مما لايسع المجال لتقصيه كله هنا. وقد كان يقول للصحابة: "ما من شيء إلا وهو مكتوب في التوراة ليصدقوه. وهكذا نفذت الإسرائيليات إلى معتقدات المسلمين، لتشوه الكثير من العقائد الواضحة في القرآن وصحاح السنن، حيث يطرح الأثر اليهودي في التفسير والحديث النبوي إلى اليوم الكثير من الإشكالات التي طرحها العديد من العلماء والباحثين قديما وحديثا، مما لا يمكن حصره في هذا المقال. بل يحتاج إلى المزيد من الجهود لتنقية التراث الإسلامي من مختلف الشوائب التي تزيد من تخبط مسارات الفكر الإسلامي وتناقض مرجعياته، ولن يتأتى ذلك إلا بتبني الحياد الموضوعي إزاء دراسة عدد من الشخصيات التي وسمت هذا التراث والتي يبقى من أشهرها كعب الأحبار، وتلميذه أبو هريرة..يتبع هوامش: 1- مقدمة ابن خلدون: 439. 2- الزركلي، الأعلام، قاموس تراجم، بيروت، دار العلم للملايين، ط5، 1980. 3- أنظر كتاب أضواء على السنة المحمدية أو دفاع عن الحديث للشيخ أبو رية وفيه تحقيق دقيق عن كعب الأحبار. 4- إلياس، خليل إسماعيل، كعب الأحبار وأثره في التفسير، بيروت، دار الكتب العلمية، ط1، 2007، ص 41-54. 5- الجامع في الحديث، لعبد الله بن وهب، ص 84. 6- كعب الأحبار-د.إسرائيل بن زئيف (ولفنسون) الملقب بأبي ذؤيب، باب2/فصل1. 7- ص 17 ج 4 من تفسير ابن كثير. 8- البداية والنهاية ص 206 ج 8، ورواية الذهبي في سير أعلام النبلاء "لتتركن الحديث أو لألحقنك بأرض القردة ص 433 ج 2. 9- حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، للأصبهاني، ج 5، ص 378. 10- حلية الأولياء، ج 6، ص 13. 11- حلية الأولياء، ج 5، ص 383. 12- عبد الله بن عمر و عبد الله بن عباس و عبد الله بن الزبير و عبد الله بن عمرو بن العاص. 13- السخاوي، فتح المغيث شرح ألفية الحديث، نقلا عن إلياس، خليل إسماعيل، كعب الأحبار وأثره في التفسير، بيروت، دار الكتب العلمية، ط 1، 2007، ص 90. 14- تفسير الطبري، ج 13، ص 100، وج 17، ص 126. 15- مدراس رباه 1-5. 16- سورة النجم، آية 13-16. 17- تفسير الطبري، ج27، ص38. 18- أنظر ص 112 ج 2 من سنن الترمذي طبع بالهند. 19- تفسير ابن كثير ص 101 ج 3. 20- أنظر الفخر الرازي والطبري وأبي السعود والنيسابوري على هامش تفسير الطبري ص 87 ج 3. 21- أراد بهذا قطع الطريق على معاوية، لأن وصول غيره إليها ليبحث عنها سيفضحه ويفضح رواياته وخرافاته. 22- أنظر تفسير ابن كثير ص 36 ج 4. 23- أنظر ص 323 ج 5 من الإصابة في تمييز الصحابة. 24 -أنظر ص 337 ج 6 من فتح الباري. *باحث في اختلاف المذاهب الإسلامية