يعتقد السنة والشيعة أن طول سيدنا آدم عليه السلام كان ستين ذراعا أو يزيد، وأن طول البشر نقص عبر آلاف السنين حتى استقر على ما هو عليه الآن، لكنه مرجّح لمزيد من القِصر والتقزّم. ويرى بعض المُشبِّهة والمجسّمة من أهل السنة أن آدم عليه السلام مخلوق على صورة الله تعالى عن ذلك علوا كبيرا. يعتمد أهلنا السنة على أسطورة أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ ، طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا ، فَلَمَّا خَلَقَهُ قَالَ: اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ النَّفَرِ - وَهُمْ نَفَرٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ جُلُوسٌ - فَاسْتَمِعْ مَا يُحَيُّونَكَ فَإِنَّهَا تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ، قَالَ: فَذَهَبَ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَقَالُوا: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، فَزَادُوا: وَرَحْمَةُ اللَّهِ. قَالَ: فَكُلُّ مَنْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ آدَمَ طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا، فَلَمْ يَزَلِ الْخَلْقُ يَنْقُصُ بَعْدُ حَتَّى الْآنَ» (صحيفة همام بن منبه (ص: 43) ، والمصنف 10/384 ، ومسند أحمد ح 8156 ، وصحيح البخاري ح3148 وح5873 وصحيح مسلم ح 7342 ). هذا (الحديث) الصحيح المقبول عند جماهير علمائنا ، أسطورة إسرائيلية ممزوجة بتخليط وإدراج من أبي هريرة رحمه الله. تنبيهات ضرورية: التنبيه الأول : يتعلق هذا الخبر بقصة أبي البشرية آدم عليه السلام ، ويتضمن معلومات كبيرة لافتة، أي أن دواعي شهرته قائمة. ثم يتفرّد أبو هريرة دون سائر الصحابة بروايته، فهل هو أولى بذلك من غيره؟ أم أنه من الأسرار التي خصه بها رسول الله؟ أم أنه سمعها من أهل الكتاب فنسي ونسبها لرسول الله؟ التنبيه الثاني : هذا الحديث أنكره الإمام مالك بشدة ، ففي سير أعلام النبلاء للذهبي (8/103) : قَالَ ابْنُ القَاسِمِ: سَأَلْتُ مَالِكاً عَمَّنْ حَدَّثَ بِالحَدِيْثِ: الَّذِيْنَ قَالُوا: (إِنَّ اللهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُوْرَتِهِ) ، وَالحَدِيْثِ الَّذِي جَاءَ: (إِنَّ اللهَ يَكْشِفُ عَنْ سَاقِهِ) ، (وَأَنَّهُ يُدْخِلُ يَدَهُ فِي جَهَنَّمَ حَتَّى يُخْرِجَ مَنْ أَرَادَ) . فَأَنْكَر مَالِكٌ ذَلِكَ إِنْكَاراً شَدِيْداً، وَنَهَى أَنْ يُحَدِّثَ بِهَا أَحَدٌ . فَقِيْلَ لَهُ: إِنَّ نَاساً مِنْ أَهْلِ العِلْمِ يَتَحَدَّثُوْنَ بِهِ. فَقَالَ: مَنْ هُوَ؟ قِيْلَ: ابْنُ عَجْلاَنَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ. قَالَ: لَمْ يَكُنِ ابْنُ عَجْلاَنَ يَعْرِفُ هَذِهِ الأَشْيَاءَ، وَلَمْ يَكُنْ عَالِماً. ه والشاهد عندنا أن الحديث لم يكن محلّ تسليم وتصحيح عند أوائل المحدثين من طبقة الإمام مالك ، وإنما حدث إطباق المحدثين على تصحيحه بعد الإمام أحمد بن حنبل والشيخين. نكارات الحديث: النكارة هي المعنى الباطل الفاسد المناقض للنقل الصحيح أو العقل الرجيح. وهذه نكارات أسطورة أبي هريرة رحمه الله: النكارة الأولى : جملة (خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ، طوله ستين ذراعا) ، تحتمل بوضوح أن آدم يشبه الله تعالى عن ذلك في الطول والهيئة، وهو ما أخذ به أهل التجسيم من الحنابلة ، وصرحوا به وعدّوه من أساسيات العقيدة ، وحاول جمهور أهل السنة تأويل هذه الجملة بناء على كونها حديثا صحيحا ، فنطقوا بالسخافات المنقوضة لغة وسياقا ، فزعم بعضهم أن ضمير الهاء عائد على آدم عليه السلام، وهو توجيه صبياني ، ولو قاله الرسول لكان عبثا منه ، لأن الله خلق كل المخلوقات على صورها الموجودة قديما وحديثا ، فلا فرق بين آدم والحيوان ، وكلام النبوة منزه عن العبث ، بل إنها لا تنطق إلا بما هو مفيد مبنى ومعنى. والخلاصة أن هذه الجملة منكرة جدا منقوضة بقوله تعالى: (ليس كمثله شيء) وقوله: (ولم يكن له كفؤا أحد). وهي ملائمة لمعتقد اليهود، وسيأتي نصها من التوراة المحرفة المتداولة. النكارة الثانية: جملة: (طوله ستون ذراعا) أي أن طوله كان أكثر من أربعين مترا ، وهذا محال علميا وخبال عقليا ، فإن الديناصورات التي انقرضت قبل آدم عليه السلام بملايين السنين لم تكن بهذا الطول والعظمة. ولو كان آدم عليه السلام طويلا إلى هذا الحد لما حماه شجر أو بيت من حرّ الشمس وزمهرير البرد ، فيكون طوله شقاء له. ولو كان كذلك، لكان أبناؤه وأحفاده مثله أو قريبين منه طولا وضخامة ، وبالتالي نجد آثارهم وبقاياهم الشاهدة على ذلك ، وهو ما تنفيه الأبحاث والدراسات العلمية . ثم إن الله يقول في كتابه المحكم: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ) ، وكان ذلك زمن آدم عليه السلام لأنه أول من بنى الكعبة وطاف بها ، بل كانت سكنا له في معتقدي. وجاء في الحديث الصحيح أن بيت المقدس بني بعد الكعبة بأربعين عاما. فهل يعقل أن يكون جيل آدم عليه السلام عمالقة فتسعهم الكعبة وبيت المقدس؟ إن الدراسات العلمية تظهر أن البشر الأوائل الذين أقاموا بمكة والقدس كانوا مثلنا طولا وعرضا. فهذا الجزء منكر منقوض بالقرآن والعلم والعقل، وسيأتي اضطراب الروايات الدالة على خرافية الخبر . النكارة الثالثة: جملة ( فَلَمْ يَزَلِ الْخَلْقُ يَنْقُصُ بَعْدُ حَتَّى الْآنَ ) منكرة يبطلها القرآن والعلم: أ الإبطال القرآني: أخبرنا كتاب الله الصادق أن قوم عاد كانوا أطول من الأجيال التي تقدمت عليهم ، فقال سبحانه عن خطاب سيدنا هود لقومه: ( أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ، وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً، فَاذْكُرُواْ آلاء اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ). وقد ذكر المؤرخون والمفسرون خرافات وأساطير عن طول قوم عاد ، فلا نذكرها لسخافتها ، ونكتفي بما جاء في كتاب الله. (وزادكم في الخلق بسطة)، يعني أنهم كانوا أطول وأضخم ممن تقدمهم قليلا، تماما كما كان طالوت أطول قليلا وأضخم من جيله زمن سيدنا داوود. فالله يقول عنه : (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ) ، والقرآن يفسر بعضه بعضا. والمعنى أن الأجيال قبل عاد قوم هود عليه السلام ، كانت أقصر وأنحف منهم. وحسب أسطورة ( طوله ستون ذراعا ... فَلَمْ يَزَلِ الْخَلْقُ يَنْقُصُ بَعْدُ حَتَّى الْآنَ ) ، ينبغي أن يكون قوم عاد أقصر وأنحف من الأمم المتقدمة عليهم . ثم إن الله تعالى دعانا لتأمل مساكن عاد وثمود الذين خلفوهم ، فقال: ( وَعَادًا وَثَمُودَ ، وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ، وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ). وتلك المساكن في الأحقاف والحجر دالة على أنهم كانوا مثلنا طولا وعرضا، لذلك استشكل الحافظ ابن حجر الحديث الخرافي فقال في شرحه من فتح الباري (6/367): قوله: (فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن)، أي أن كل قرن يكون نشأته في الطول أقصر من القرن الذي قبله ، فانتهى تناقص الطول إلى هذه الأمة، واستقر الأمر على ذلك. وقال ابن التين: قوله (فلم يزل الخلق ينقص) أي كما يزيد الشخص شيئا فشيئا ولا يتبين ذلك فيما بين الساعتين ولا اليومين، حتى إذا كثرت الأيام تبين، فكذلك هذا الحكم في النقص. ويشكل على هذا ما يوجد الآن من آثار الأمم السالفة كديار ثمود ، فإن مساكنهم تدل على أن قاماتهم لم تكن مفرطة الطول على حسب ما يقتضيه الترتيب السابق، ولا شك أن عهدهم قديم، وأن الزمان الذي بينهم وبين آدم دون الزمان الذي بينهم وبين أول هذه الأمة، ولم يظهر لي إلى الآن ما يزيل هذا الإشكال) قلت: ولن يزول الإشكال إلا بتكذيب الخبر وعدّه من الأساطير التي تلقّفها أبو هريرة رحمه الله من أحبار بني إسرائيل. ب الإبطال العلمي: استقرّ البحث العلمي ، القائم على دراسة بقايا البشر منذ مئات آلاف السنين، على أن هيئة البشرية لم تتغيّر منذ ظهور الإنسان المعاصر الآدمي ، فالطول والعرض واحد لم يزد ولم ينقص. ويعترف العلم أن الأقزام والطوال وجدوا في كل مراحل التاريخ البشري. ثم إن النقصان المذكور في الأسطورة ينبغي أن يستمر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لو صح الخبر، وهو ما لم يظهر له أثر إلى الآن، فلم توقف إذن؟ إننا أمام إشكال عظيم : إما أن الحديث صحيح فيكون مناقضا للقرآن والعلم ، وبالتالي يؤدي للطعن في عقل النبي والتزامه بمضامين الكتاب الحكيم، أو أن الحديث خرافة وأسطورة، وبالتالي يكون أبو هريرة بشرا يخطئ ويخلط وينسى ويصدق الخرافات ثم ينسبها للرسول من باب الوهم، ويكون كتابا الصحيحين مشتملين على الخرافات الإسرائيلية. ونظرا لأن النبي كان ممتثلا قول الله تعالى : ( وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ، إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ) ، وأنه لم يكن ليتركه ينطق بالخرافات والأساطير. ولأن أبا هريرة رحمه الله كان تلميذا لأهل الكتاب كما سيأتي، وأن مضامين هذا الخبر الأسطوري مشهورة عندهم، فلا نتردّد قيد ذرة في تكذيب الحديث وعدّه من أوهام أبي هريرة وخرافات بني إسرائيل. ومن استصعب هذا الكلام، فليشرب ماء البحر الميت، فمقام النبوة عندنا أعظم من ألوف مثل أبي هريرة والمحدثين من بعده رحمهم الله. الجذور الإسرائيلية (للحديث): ثبت أن (الحديث) منقوض قرآنا وعلما وعقلا، فتأكدت براءة النبي صلى الله عليه وسلم منه، لكن إسناده صحيح إلى أبي هريرة رحمه الله، وهو من أهل الصدق، وكان معروفا بالتلمذة لأحبار مسلمة بني إسرائيل. فهل يكون سمعه منهم ثم نسي فرفعه إلى رسول الله؟ يحتاج هذا إلى التأكد من وجود مضامين الخبر في الموروث اليهودي، وهو ما ثبت لدينا ، وإليك البيان : الجذر الأول: جاء في سفر التكوين ، الإصحاح الأول ، المنسوب للتوراة: وَقَالَ اللهُ: «نَعْمَلُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا، فَيَتَسَلَّطُونَ عَلَى سَمَكِ الْبَحْرِ وَعَلَى طَيْرِ السَّمَاءِ وَعَلَى الْبَهَائِمِ، وَعَلَى كُلِّ الأَرْضِ، وَعَلَى جَمِيعِ الدَّبَّابَاتِ الَّتِي تَدِبُّ عَلَى الأَرْضِ». فَخَلَقَ اللهُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِهِ. عَلَى صُورَةِ اللهِ خَلَقَهُ. ذَكَرًا وَأُنْثَى خَلَقَهُمْ. وفي الأصحَاحُ الْخَامِسُ: هذَا كِتَابُ مَوَالِيدِ آدَمَ، يَوْمَ خَلَقَ اللهُ الإِنْسَانَ. عَلَى شَبَهِ اللهِ عَمِلَهُ. ذَكَرًا وَأُنْثَى خَلَقَهُ، وَبَارَكَهُ وَدَعَا اسْمَهُ آدَمَ يَوْمَ خُلِقَ. ه فهذان النصان المقحمان في التوراة، هما أصل جملة : «خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ، طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا». الجذر الثاني: روى الضياء المقدسي في المنتقى من مسموعات مرو (ص: 66) من طريق الحسن بن أبي الحسن البصري، عن سمرة بن جندب، عن كعب الأحبار قال: بعث الله الأنبياء كلهم، كان آدم رجلاً طويلاً كان طوله في السماء ستين ذراعاً، وذكر الحديث. في إسناده ضعف، لكن المتن إسرائيلي، وسيأتي. الجذر الثالث: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، قَالَ: " خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْأَرْضَ يَوْمَ الْأَحَدِ وَالِاثْنَيْنِ وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا، وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مَنْ فَوْقِهَا يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ وَالْأَرْبِعَاءِ، ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَخَلَقَهَا يَوْمَ الْخَمِيسِ وَيَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا، وَخَلَقَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ عَلَى عَجَلٍ، ثُمَّ تَرَكَهُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا يَنْظُرُ إِلَيْهِ وَيَقُولُ: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14] ، ثُمَّ نَفَخَ فِيهِ مَنْ رُوحِهِ، فَلَمَّا دَخَلَ فِي بَعْضِهِ الرُّوحُ وَذَهَبَ لِيَجْلِسَ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء: 37] ، فَلَمَّا تَتَابَعَ فِيهِ الرُّوحُ عَطَسَ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يَرْحَمُكَ رَبُّكَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: اذْهَبْ إِلَى أَهْلِ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَسَلِّمْ عَلَيْهِمْ، فَفَعَلَ، فَقَالَ: هَذِهِ تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ. الخبر بطوله. ( القدر للفريابي ، وكبرى النسائي 9/92 ، والشريعة للآجري (2/856) والإبانة الكبرى لابن بطة (4/148) وإسناده صحيح إلى عبد الله. وعبد الله بن سلام حبر إسرائيلي أسلم زمن النبوة، لكنه لم يتخلص من موروث قومه، فكان ينشر الإسرائيليات بعد زمن النبوة، وخبره هذا أكبر دليل. ثم أخذه أبو هريرة بطوله فرواه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سيأتي. تلمذة أبي هريرة على يد الأحبار: رجوع أبي هريرة إلى مسلمة أهل الكتاب حقيقة كالشمس، وهذا شاهد كاف لذلك: روى الإمام أحمد في مسنده ح 23842 من طريق محمد بن إبراهيم التيمي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال: قدمت الشام، فلقيت كعبا، فكان يحدثني عن التوراة وأحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أتينا على ذكر يوم الجمعة، فحدثته أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: إن في الجمعة ساعة لا يوافقها مسلم يسأل الله فيها خيرا إلا أعطاه إياه. فقال كعب: صدق الله ورسوله، هي في كل سنة مرة. قلت: لا ، فنظر كعب ساعة ثم قال: صدق الله ورسوله، هي في كل شهر مرة. قلت: لا ، فنظر ساعة فقال: صدق الله ورسوله في كل جمعة مرة. قلت: نعم. فقال كعب: أتدري أي يوم هو؟ قلت: وأي يوم هو؟ قال: فيه خلق الله آدم، وفيه تقوم الساعة، والخلائق فيه مصيخة إلا الثقلين الجن والإنس خشية القيامة. فقدمت المدينة، فأخبرت عبد الله بن سلام بقول كعب، فقال: كذب كعب. قلت: إنه قد رجع إلى قولي. فقال: أتدري أي ساعة هي؟ قلت: لا ، وتهالكت عليه أخبرني أخبرني، فقال: هي فيما بين العصر والمغرب. قلت: كيف ولا صلاة؟ قال: أما سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول: لا يزال العبد في صلاة ما كان في مصلاه ينتظر الصلاة. قال شعيب الأرنؤوط : إسناده صحيح على شرط مسلم. وقال الإمام ابن خزيمة في صحيحه (3/115): اختلفوا في هذه اللفظة في قوله (فيه خلق آدم) إلى قوله (وفيه تقوم الساعة) أهو عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو عن أبي هريرة عن كعب الأحبار؟ ثم قال: والقلب إلى رواية من جعل هذا الكلام عن أبي هريرة عن كعب أميل، لأن محمد بن يحيى حدثنا قال: نا محمد بن يوسف: ثنا الأوزاعي عن يحيى عن أبي سلمة عن أبي هريرة: خير يوم تطلع فيه الشمس يوم الجمعة: فيه خلق آدم، وفيه أسكن الجنة، وفيه أخرج منها، وفيه تقوم الساعة. قال: قلت له : أشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: بل شيء حدثناه كعب. وهكذا رواه أبان بن يزيد العطار وشيبان بن عبد الرحمن النحوي عن يحيى بن أبي كثير. قال: و أما قوله: (خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة)، فهو عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم لا شك ولا مرية فيه. ه قلت: القصة مقلوبة محرفة في موطأ الإمام مالك بتحقيق الأعظمي (2/150) ، حيث جعل كلام كعب حديثا مرفوعا. وورد كلام كعب عن الجمعة مرفوعا إلى رسول الله من حديث أبي هريرة من غير طريق أبي سلمة ، عند مسلم وغيره، فتأكد نسيان أبي هريرة إلى حد عدم التمييز بين ما سمعه من الأحبار وما سمعه من المختار. وقصته في الخروج إلى الشام شهادة من أبي هريرة على نفسه بأنه خرج للقاء كعب الأحبار أحد أركان الإسرائيليات، ثم رجوعه إلى الحبر الأعظم عبد الله بن سلام رحمه الله للتأكد من صدق معارف كعب. ونلاحظ تلاعب كعب الأحبار وتدليسه، فكيف يوثق به؟ ونسجّل أن أبا هريرة كان حريصا جدا على معرفة ساعة الإجابة من يوم الجمعة على لسان عبد الله بن سلام، ولم يكتف بما سمعه من رسول الله في الموضوع. ثم إنه أخطأ في عدم رجوعه إلى كبار الصحابة واستفسارهم، ولو فعل لوجد أن ابن سلام ليس مصيبا فيما قال: ففي صحاح مسلم وابن خزيمة عَنْ أَبِى بُرْدَةَ بْنِ أَبِى مُوسَى الأَشْعَرِىِّ قَالَ قَالَ لِى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَسَمِعْتَ أَبَاكَ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِى شَأْنِ سَاعَةِ الْجُمُعَةِ قَالَ قُلْتُ نَعَمْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « هِىَ مَا بَيْنَ أَنْ يَجْلِسَ الإِمَامُ إِلَى أَنْ تُقْضَى الصَّلاَةُ ». فانظر كيف ترك أبو هريرة رحمه الله البحث عن ساعة الجمعة في السنة النبوية، وراح يستعلم في شأنها أهل الكتاب. وانظر كيف كان هؤلاء ، بمن فيهم المعدودون في الصحابة ، يقدمون موروثهم الإسرائيلي على البيان النبوي. ثم لا تتعجب كيف تسربت أساطيرهم وخرافاتهم إلى العقيدة والتفسير والتاريخ. سبب تخليط أبي هريرة ونسيانه: المرحلة الأولى: أخبر رسول الله أصحابه بأن أهل الجنة يكونون على طول ستين ذراعا كأبيهم آدم دون فارق بينه وبينهم، فسمع أبو هريرة ذلك من النبي أو من الصحابة فكان يرويه: ورد عنه من طرق قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوَّلُ زُمْرَةٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ عَلَى أَشَدِّ نَجْمٍ فِي السَّمَاءِ إِضَاءَةً ، ثُمَّ هُمْ بَعْدَ ذَلِكَ مَنَازِلَ ، لَا يَتَغَوَّطُونَ وَلَا يَبُولُونَ وَلَا يَتَمَخَّطُونَ وَلَا يَبْزُقُونَ ، أَمْشَاطُهُمُ الذَّهَبُ وَمَجَامِرُهُمْ الْأَلُوَّةُ ، وَرَشْحُهُمُ الْمِسْكُ ، أَخْلَاقُهُمْ عَلَى خُلُقِ رَجُلٍ وَاحِدٍ عَلَى صُورَةِ أَبِيهِمْ آدَمَ سِتِّينَ ذِرَاعًا. (رواه أحمد والشيخان) وروى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " يَدْخُلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ جُرْدًا، مُرْدًا، بِيضًا، جِعَادًا، مُكَحَّلِينَ، أَبْنَاءَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ، عَلَى خَلْقِ آدَمَ، سِتُّونَ ذِرَاعًا فِي عَرْضِ سَبْعِ أَذْرُعٍ " (رواه ابن أبي شيبة وأحمد). وله شواهد عن أنس بن مالك ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما. ولا شك أن شكل الإنسان في الجنة غير شكله في الدنيا، فلا إشكال في أن يكون أهلها عمالقة. كما سمع أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِذَا ضَرَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَجَنَّبِ الْوَجْهَ، وَلَا يَقُولُ: قَبَّحَ اللَّهُ وَجْهَكَ وَوَجْهَ مَنْ أَشْبَهَ وَجْهَكَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ" ( أخرجه عبد الرزاق، وأحمد، والبخاري في الأدب، وابن حبان) وهو حديث صحيح. ومعناه: كل الناس مخلوقون على صورة أبيهم آدم عليه السلام، فوجوههم تشبه وجهه من حيث الجملة. ومن قال لشخص: قبّح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك، فإنه يقع في شتم أبيه آدم وتقبيح وجهه لأنه يشبهه، تماما كمن قال لغيره: لعنك الله ولعن أجدادك، فإنه يلعن بذلك كل أجداده، فيدخل سيدنا آدم في ذلك، وإذا كان المدعو عليه من آل بيت رسول الله، فإن الداعي يكون قد لعن جده رسول الله من حيث لا يدري. فالضمير في (صورته) عائد على الشخص الذي يتعرض للتقبيح أو اللعن. ولا يعود الضمير على الله تعالى عن ذلك علوا كبيرا. لكن المُجسِّمة من الرواة حرّفوا الحديث عمدا، فورد هكذا: (على صورة الرحمن عز وجل). فاغتر بهم أمثال أحمد بن حنبل وابن راهويه. المرحلة الثانية: بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأن أبا هريرة لم يصحبه إلا مدة يسيرة، ففاته علم كثير، ولأنه كان معجبا بمرويات بني إسرائيل، فإنه صار يجالس مُسلِمَة أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وكعب الأحبار. وفي هذه المرحلة سمع منهم أن التوراة المحرفة تتحدث عن خلق آدم على صورة الله، تعالى عن ذلك علوا كبيرا، وأن طوله كان ستين ذراعا، وسمع من عبد الله بن سلام ذلك الخبر الطويل الخرافي، فظن أن التوراة والسنة النبوية متفقتان. فكان في البداية يروي ما سمعه من رسول الله على الوجه. ويروي ما سمعه من ابن سلام دون نسبته إليه أو إلى الرسول لأنه صدق ذلك وتبناه: فورد عن أبي هريرة أنه قَالَ في قصة طويلة دون رفع الخبر ولا نسبته لابن سلام: " ... فَخَلَقَ مِنْهَا آدَمَ بِيَدِهِ، ثُمَّ مَسَحَ عَلَى ظَهْرِهِ، فَقَالَ: (تَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ). قَالَ: ثُمَّ تَرَكَهُ أَرْبَعِينَ لَا يَنْفُخُ فِيهِ، ثُمَّ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ. قَالَ: فَجَرَى فِيهِ الرُّوحُ مِنْ رَأْسِهِ إِلَى صَدْرِهِ، فَأَرَادَ أَنْ يَثِبَ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: {خُلِقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَجِلٍ، سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونَ}. قَالَ: فَلَمَّا جَرَى فِيهِ الرُّوحُ جَلَسَ جَالِسًا فَعَطَسَ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قُلِ الْحَمْدُ اللَّهِ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، قَالَ: رَحِمَكَ رَبُّكَ، ثُمَّ قَالَ: يَا آدَمُ، انْطَلِقْ إِلَى هَؤُلَاءِ النَّفْرِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَسَلِّمْ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: فَانْطَلَقَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، قَالُوا: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ. فَقَالَ: يَا آدَمُ، هَذِهِ تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ. قَالَ: يَا رَبِّ وَمَنْ ذُرِّيَّتِي؟ ... الخرافة كما حكاها ابن سلام، وفي آخرها: فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَجَحَدَ آدَمُ فَجَحَدَتْ ذُرِّيَّتُهُ، وَنَسِيَ آدَمُ فَنَسِيَتْ ذُرِّيَّتُهُ " هكذا رواها موقوفة كل من ابن سعد في طبقاته، وابن بشران في الأمالي. لكنه صار بعد ذلك ينسب أسطورة عبد الله بن سلام لرسول الله، كما في "كبرى النسائي9/92"، و"الرد على الجهمية" لابن منده، وصوّب النسائي أنه عن ابن سلام، وحكم على رواية الرفع بالنكارة. وأورده الدارقطني في كتاب "العلل الواردة في الأحاديث النبوية" (8/147) دون ترجيح وقفه أو رفعه. المرحلة الثالثة: شاخ أبو هريرة رحمه الله وهرم، فلم يعد يضبط مروياته، ولا يميز بين الحديث والإسرائيليات، فاختلطت عليه أحاديث رسول الله عن طول أهل الجنة والنهي عن تقبيح الوجه بمرويات كعب الأحبار وعبد الله بن سلام ، فخرج على الناس بهذه الأسطورة المنكرة المنقوضة قرآنا وعلما وعقلا، وهي ما نسبه للرسول توهما وتخليطا: «خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ ، طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا. فَلَمَّا خَلَقَهُ قَالَ: اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ النَّفَرِ - وَهُمْ نَفَرٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ جُلُوسٌ - فَاسْتَمِعْ مَا يُحَيُّونَكَ فَإِنَّهَا تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ، قَالَ: فَذَهَبَ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَقَالُوا: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، فَزَادُوا: وَرَحْمَةُ اللَّهِ. قَالَ: فَكُلُّ مَنْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ آدَمَ طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا، فَلَمْ يَزَلِ الْخَلْقُ يَنْقُصُ بَعْدُ حَتَّى الْآنَ». فأوهم أن الله يشبه الإنسان في الهيئة والطول، حاشاه. وأن البشرية كانت في بدايتها عملاقة جاوزت الثلاثين مترا، فصارت تنقص جيلا بعد جيل حتى استقرت على ما هي عليه اليوم وزمن النبوة. ولأَن نَتَّهِم أبا هريرة بالجنون خير من التوقيع على ثبوت هذه الخرافة المنكرة عن رسول الله المعصوم من نقض القرآن والعقل. قرينة إضافية على توهم أبي هريرة وتخليطه: عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل أغنيائهم بنصف يوم. قلت: وما نصف يوم ؟ قال: (إن يوما عند ربك كألف سنة) قال: ويدخلون جميعا على صورة آدم. قلت: وما صورة آدم؟ قال: كان اثني عشر ذراعا طوله في السماء، وستة عرضا. قلت: بأي ذراع؟ قال: الذراع كطول الرجل الطويل. (رواه أحمد، والطبراني في الأوسط والبيهقي في البعث مرفوعا، وأخرجه ابن المبارك في الزهد موقوفا). وعند البيهقي: (ثمانية عشر ذراعا في سبعة أذرع) قال الدارقطني في العلل: ( والمَوقُوفُ أَصَحُّ ). قلت: إسناده حسن، وسواء كان الخبر موقوفا، وهو الراجح، أو مرفوعا على سبيل الوهم من أبي هريرة أو رجال السند، فهو رحمه الله كان يتبنى الطول المذكور في هذا الخبر. وهو مخالف لروايته (ستين ذراعا)، وأقل منها بكثير. فاثنا عشر ذراعا لا تبلغ عشرة أمتار، وهو قياس قريب من العقول مقارنة بالستين. ولو كان أبو هريرة موقنا أنه سمع من الرسول شيئا في طول آدم، لما تخبط هكذا وتناقض. شواهد خرافية منكرة: الخرافة الأولى: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: لما أهبط الله عز وجل آدم عَلَيْهِ السَّلَام، كَانَ رَأْسُهُ فِي السَّمَاءِ وَرِجْلاهُ فِي الأَرْضِ، فَطَأْطَأَهُ اللَّهُ إِلَى سِتِّينَ ذِرَاعًا فَقَالَ: يَا رَبِّ مَالِي لَا أَسْمَعُ أَصْوَاتَ الْمَلائِكَةِ؟ قَالَ: (خَطِيئَتُكَ يَا آدَمُ، وَلَكِنِ اذْهَبْ فَابْنِ لِي بَيْتًا فَطُفْ بِهِ وَاذْكُرْنِي حَوْلَهُ كَنَحْوِ مَا رَأَيْتَ الْمَلائِكَةَ تَصْنَعُ حَوْلَ عَرْشِي). فَأَقْبَلَ آدَمُ يَتَخَطَّى وَطُوِيَتْ لَهُ الأَرْضُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَكَّةَ فَبَنَى الْبَيْتَ الْحَرَامَ. رواه ابن سعد في "الطبقات"، ومحمد ابن أبي شيبة في "العرش"، والأزرقي في "أخبار مكة" وأبو الشيخ في "العظمة" وابن عساكر في "تاريخ دمشق" هكذا موقوفا من قول ابن عباس. ورواه الهروي في "الأربعين في دلائل التوحيد" مرفوعا بإسناد ضعيف جدا، فهو منكر. وورد من كلام قتادة وعطاء، فيكون مضطربا ضعيفا. وإن صح عن ابن عباس، فهو مأخوذ من بني إسرائيل، فإنهم من شيوخه كما هو معلوم. والفرق بينه وبين أبي هريرة هو أن عبد الله يحفظ جيدا ويضبط مروياته، فلا يرفع الإسرائيليات إلى رسول الله، عكس أبي هريرة ذي الضبط الناقص والحفظ المتدني. ويدل موقوف ابن عباس على أن طول آدم كان بداية من الأرض إلى السماء، وهذا خرافة تستهوي الصبيان، وتصدقها عقول أهل القرن الأول. فالأثر ينقض جملة: (خلق الله آدم على صورته طوله ستين ذراعا)، لأن خلقه حسب الخرافة كان غير ذلك، فيجب أن يقال: خلق الله آدم على صورته طوله بين السماء والأرض ثم طأطأه إلى ستين ذراعا. ولا يصلح شاهدا على رفع خرافة أبي هريرة، بل يؤكد وهمه وتخليطه. الخرافة الثانية: عَنِ الْحَسَنِ البصري، عن عُتيّ بن ضمرة السعدي عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ أَبَاكُمْ آدَمَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ طِوَالًا مِثْلَ النَّخْلَةِ السَّحُوقِ، سِتِّينَ ذِرَاعًا. وَكَانَ طَوِيلَ الشَّعْرِ، مُوَارِيًا الْعَوْرَةَ. فَلَمَّا أَصَابَ الْخَطِيئَةَ بَدَتْ لَهُ سَوْأَتُهُ، فَخَرَجَ هَارِبًا فِي الْجَنَّةِ. فَلَقِيَتْهُ شَجَرَةٌ، فَأَخَذَتْ بِنَاصِيَتِهِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: يَا آدَمُ أَفِرَارًا مِنِّي؟ قَالَ: لَا يَا رَبِّ، وَلَكِنْ حَيَاءً مِمَّا جِئْتُ بِهِ. قَالَ: فَأَهْبَطَهُ اللَّهُ إِلَى الْأَرْضِ ، فَلَمَّا حَضَرَتْ وَفَاتُهُ، بَعَثَ اللَّهُ بِكَفَنِهِ وَحَنُوطِهِ مِنَ الْجَنَّةِ. فَلَمَّا رَأَتْ حَوَّاءُ الْمَلَائِكَةَ ذَهَبَتْ لِتَدْخُلَ دُونَهُمْ، فَقَالَ: خَلِّي بَيْنِي وَبَيْنَ رُسُلِ رَبِّي، فَمَا لَقِيتُ مَا لَقِيتُ إِلَّا مِنْ قِبَلِكِ، وَمَا أَصَابَنِي مَا أَصَابَنِي إِلَّا فِيكِ. فَغَسَّلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ بِالْمَاءِ وَالسِّدْرِ وِتْرًا، وَكَفَّنُوهُ فِي وِتْرٍ مِنَ الثِّيَابِ، وَأَلْحَدُوا لَهُ، وَدَفَنُوهُ، وَقَالُوا: هَذِهِ سُنَّةُ وَلَدِ آدَمَ مِنْ بَعْدِهِ " (مسند الطيالسي، والزهد لابن حنبل، وطبقات ابن سعد، والرقة لابن أبي الدنيا، وتفسير ابن أبي حاتم، وأوسط ابن المنذر، وتفسير وتاريخ الطبري، والمستدرك، ومسند الطبراني، ومكارم الخرائطي، وعظمة أبي الشيخ، وبعث البيهقي وتاريخ دمشق، وبعضهم يسقط عتيا ) قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وهو من النوع الذي لا يوجد للتابعي إلا الراوي الواحد، فإن عتي بن ضمرة السعدي ليس له راو غير الحسن، وعندي أن الشيخين عللاه بعلة أخرى، وهو أنه روي عن الحسن عن أُبي دون ذكر عتي. ه وأقر صحته الذهبي، وحسنه العيني وابن حجر في "الفتح" واستنكره ابن عدي في الكامل، والمزي وابن حجر في "التهذيبين". وقال الحويني في "كتاب تنبيه الهاجد" : وهذا حديث منكر، وسنده ضعيف أو واهٍ، وعلي بن عاصم كان كثير الخطأ وسعيد بن أبى عروبة كان تَغيَّر، وعلي بن عاصم ليس من قدماء أصحابه، وقتادة مدلسٌ، والحسن البصرى لم يسمع من أبى بن كعبٍ. أيقالُ في مثل هذا الإسناد أنه حسنٌ؟! قلت: أخطأ الحويني في التعليل، فللحديث طرق مختلفة إلى الحسن البصري، وهو ضعيف لهذه العلل: أولا: الاضطراب: فقد رواه من تقدم مرفوعا، ورواه ابن أبي شيبة في "المصنف" وابن سعد في "الطبقات"، وابن قتيبة في "المعارف" ، وعبد الله بن أحمد في زوائد مسند أبيه، وابن المنذر في "الأوسط"، والمروزي في "تعظيم الصلاة"، والبيهقي في "السنن" موقوفا على سيدنا أبي بن كعب. واضطرب الحسن فيه، فرواه مرة عن عتي بن ضمرة، ومرة عن أبي بن كعب، وأخرى عن سمرة بن جندب عن كعب الأحبار. واضطرب في متنه، فرواه هكذا، وروى قصة الوفاة دون الطول. والموقوف أصح إسنادا، وهو ما رجحه ابن المنذر في "الأوسط"9/159، والضياء في "الأحاديث المختارة" (2/ 122). ثانيا: الحسن البصري يدلس عن عتي بن ضمرة ، ولم يصرح بالسماع منه، فالظاهر أنه أسقط دجالا أو كذابا بينهما. أسند الحاكم في "معرفة علوم الحديث" (ص: 164) عن خلف بن سالم قال: سمعت عدة من مشايخ أصحابنا تذاكروا كثرة التدليس والمدلسين، فأخذنا في تمييز أخبارهم، فاشتبه علينا تدليس الحسن بن أبي الحسن وإبراهيم بن يزيد النخعي، لأن الحسن كثيرا ما يدخل بينه وبين الصحابة أقواما مجهولين، وربما دلس عن مثل عتي بن ضمرة وحنيف بن المنتجب ودغفل بن حنظلة وأمثالهم. ه ومع هذا رأيناه يصحح خرافته مرفوعة، فشتان بين التقعيد والتطبيق. ثالثا: روى الضياء المقدسي في المنتقى من مسموعات مرو (ص: 66) هذا المتن نفسه من طريق الحسن البصري، عن سمرة بن جندب، عن كعب الأحبار قال: بعث الله الأنبياء كلهم، كان آدم رجلاً طويلاً كان طوله في السماء ستين ذراعاً، وذكر الحديث. فتأكد أن ذكر أبي بن كعب خطأ وتخبط من الرواة، وأن الخبر خرافة حدّث بها كعب الأحبار، فاشتبه أبي بن كعب الصحابي الجليل بكعب الإسرائيلي على الرواة، خاصة وأن الطرق إلى الحسن لا تخلو من ضعف. وقد أصاب الحافظ ابن كثير بقوله في "البداية والنهاية": وكأنه مأخوذ من أهل الكتاب. ه رابعا: ما نسب لسيدنا آدم أنه قال لأمنا حواء: (خَلِّي بَيْنِي وَبَيْنَ رُسُلِ رَبِّي، فَمَا لَقِيتُ مَا لَقِيتُ إِلَّا مِنْ قِبَلِكِ، وَمَا أَصَابَنِي مَا أَصَابَنِي إِلَّا فِيكِ). منكر يكذبه القرآن الذي أخبرنا في سورة "طه" أن إبليس أغوى آدم قبل حواء، لذلك حمّله الله المسئولية الأولى عن الأكل من الشجرة. وأهل الكتاب هم الذين روّجوا أكذوبة خيانة حواء لآدم وتحالفها مع إبليس للإيقاع به في المعصية. فهذا أمارة إضافية على كون الخبر أسطورة إسرائيلية. وبالجملة، فلا يصح الخبر عن أبي بن كعب، ولا عن رسول الله، وعلامات الإسرائيليات بادية عليه. الخرافة مشتركة بين السنة والشيعة: جاء في روضة الكافي(ص 195 ح 308) بإسناده عن مقاتل بن سليمان قال: سألت أبا عبدالله (ع): كم كان طول آدم عليه السلام حين هبط به إلى الأرض؟ وكم كان طول حواء ؟ قال: وجدنا في كتاب علي بن أبي طالب (ع): إن الله عز وجل لما أهبط آدم وزوجته حواء عليها السلام إلى الأرض، كانت رجلاه بثنية الصفا ورأسه دون أفق، وإنه شكا إلى الله ما يصيبه من حر الشمس، فأوحى الله عز وجل إلى جبريل عليه السلام: إن آدم قد شكا ما يصيبه من حر الشمس، فأغمزه وصيّر طوله سبعين ذراعاً بذراعه، وأغمز حواء غمزة فيصيّر طولها خمسة وثلاثين ذراعاً بذراعها. وهذه أبلغ في التخريف والدجل، فكيف يتناسب طول آدم مع طول حوّاء عليهما السلام؟ وزادت خرافة الشيعة عشرة أمتار على أسطورتنا السنية. المغترون من السنة بأسطورة الصورة: جاء في الإبانة لابن بطة (3/244): (باب الإيمان بأن الله عز وجل خلق آدم على صورته بلا كيف) ثم قال: وكل ما جاء من هذه الأحاديث وصحت عن رسول الله ففرض على المسلمين قبولها والتصديق بها والتسليم لها وترك الاعتراض عليها، وواجب على من قبلها وصدق بها أن لا يضرب لها المقاييس ولا يتحمل لها المعاني والتفاسير، لكن تمر على ما جاءت ولا يقال فيها لم ولا كيف إيمانا بها وتصديقا. ونقف من لفظها وروايتها حيث وقف أئمتنا وشيوخنا، وننتهي منها حيث انتهى بنا كما قال المصطفى نبينا بلا معارضة ولا تكذيب ولا تنقير ولا تفتيش. قال: فإن الذين نقلوها إلينا هم الذين نقلوا إلينا القرآن وأصل الشريعة، فالطعن عليهم والرد لما نقلوه من هذه الأحاديث طعن في الدين ورد لشريعة المسلمين، ومن فعل ذلك فالله حسيبه والمنتقم منه بما هو أهله. ثم روى عن ابن عمر قال: قال رسول الله: (لا تقبحوا الوجه فإن الله خلق آدم على صورة الرحمن) وحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله: إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه، فإنما صورة الإنسان على صورة الرحمن جل اسمه. ثم أسند إلى أبي بكر المروذي أنه قال لأحمد بن حنبل: كيف تقول في حديث النبي: (خلق الله آدم على صورته)؟ قال: أما الأعمش فيقول عن حبيب بن أبي ثابت عن عطاء عن ابن عمر عن النبي: (إن الله عز وجل خلق آدم على صورة الرحمن)، فنقول كما جاء الحديث. وعن إسحاق بن منصور قال: قلت لأحمد: (لا تقبحوا الوجوه فإن الله خلق آدم على صورته)، أليس تقول بهذه الأحاديث؟ قال أحمد: صحيح. قال ابن راهويه: صحيح ولا يدعه إلا مبتدع أو ضعيف الرأي. وعن أحمد: من قال: إن الله تعالى خلق آدم على صورة آدم فهو جهمي، وأي صورة كانت لآدم قبل أن يخلقه. وعقيدة التشبيه الخبيثة هذه يرسخها الشيخ ابن عثيمين من المعاصرين، فيقول في "لقاء الباب المفتوح" (66/19): الضمير في (صورته) يعود إلى الله عزَّ وجلَّ؛ ولكن هل يلزم من كون الله خلق آدم على صورته أن يكون مماثلاً له؟! الجواب: لا. ثم جاء بالسخافات لنفي التشبيه اللازم لهم من حيث الجملة والمبدأ. بل بلغ السفه بالشيخ حمود بن عبد الله التويجري إلى حد تأليف رسالة "عقيدة أهل الإيمان في خلق آدم على صورة الرحمن"، وقدّم له الشيخ ابن باز مقرا موافقا. وللشيخ "عبد الله بن محمد بن أحمد الدويش" رسالته السخيفة: "دفاع أهل السنة والإيمان عن حديث خلق آدم على صورة الرحمن". وأسجّل هنا أن الشيخ الألباني رحمه الله ضعّف رواية (على صورة الرحمن) ، وجعل الضمير عائدا على آدم عليه السلام. [email protected]