نجحت (الأحاديث) المحتقرة للمرأة في الرواج بين العلماء قبل العامة بسبب آثار الجاهلية وترسباتها، وتغلغل الإسرائيليات وتلقيها بالقبول أيام الصحابة والتابعين. وعندما نشتغل على تضعيف وردّ هذا النوع من الأحاديث، فإننا نقصد تبرئة الإسلام الحق في شخص نبيه عليه السلام من الأقوال المنسوبة إليه، والمسيئة إلى شطر المجتمع، المؤدية إلى نفور بعض الرجال والنساء من الدين في حد ذاته، فليعقل المستغربون والمتسائلون هذا. ويحسب بعض المتابعين أننا نرد تلك الأحاديث بالعقل لا بالنقل، وهم واهمون في ذلك، فنحن نردها بمخالفة القرآن حينا، ومعارضة الأحاديث الصحيحة حينا آخر، وبإثبات اضطراب متونها أو وجود الرواة الضعفاء في أسانيدها، وكل ذلك من العلوم النقلية. ثم إن مخالفة حقائق العلم ومسلمات العقل علّة قادحة في صحة الحديث عند المحدثين، قال الحافظ السخاوي في "فتح المغيث بشرح ألفية الحديث" تحت عنوان: طريق معرفة الوضع ... قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَكُل حَدِيثٍ رَأَيْتَهُ يُخَالِفُ الْعُقُولَ، أَوْ يُنَاقِضُ الْأُصُولَ، فَاعْلَمْ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ، فَلَا تَتَكَلَّفِ اعْتِبَارَهُ، أَيْ: لَا تَعْتَبِرْ رُوَاتهُ، وَلَا تَنْظُرْ فِي جَرْحِهِمْ. أَوْ يَكُونَ مِمَّا يَدْفَعُهُ الْحِسُّ وَالْمُشَاهَدَةُ، أَوْ مُبَايِنًا لِنَصِّ الْكِتَابِ، أَوِ السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ، أَوِ الْإِجْمَاعِ الْقَطْعِيِّ، حَيْثُ لَا يَقْبَلُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ التَّأْوِيلَ. ه فتضعيف الحديث بالقرائن العقلية منهج نقلي معتمد لدى علماء الشريعة، وقد تطور العلم وتقررت حقائق كثيرة لم يدركها السابقون، لذلك صححوا أحاديث لم تؤهلهم أرضيتهم المعرفية لاكتشاف عللها ومناقضتها للعلم والعقل، وحديث موضوعنا هذا منها. ومن الأحاديث المعتمدة في احتقار المرأة وانتقاصها عندنا نحن المسلمين، حديث يفيد أن أمّنا حوّاء خانت أبانا آدم، فورثت النساء الخيانة منها، وهذا نص الحديث: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «لَوْلاَ بَنُو إِسْرَائِيلَ لَمْ يَخْنَزِ اللَّحْمُ، وَلَوْلاَ حَوَّاءُ لَمْ تَخُن أُنْثَى زَوْجَهَا» رواه الشيخان وغيرهما. موقف العلماء من الحديث وشروحهم: لما كان هذا الحديث متفقا عليه بين البخاري ومسلم رحمهما الله، فإن العلماء تلقوه بالقبول المطلق، لأن المعتقد السائد هو أن الصحيحين معصومان من الدس والتحريف والأخطاء، وأن الحديث المتفق عليه كالآية القرآنية في الثبوت والصحة. وبناء على هذا الحديث، فإن أسيادنا العلماء يصرحون بأن أمنا حواء تحالفت مع إبليس فزينت لأبينا آدم الأكل من الشجرة، وأقنعته بضرورة ذلك، فاغتر بها وأطاعها، فكان ذلك منها خيانة لزوجها. ويقرر السادة العلماء بوقاحة فجة أن خيانة النساء لأزواجهنّ، خلق موروث من حوّاء عليها السلام، فهي التي سنت الخيانة للإناث. وهذه نصوص بعض كبار العلماء في المسألة: قال القاضي عياض في "إكمال المعلم بفوائد مسلم" (4/682) : يعني أنها أمّهن فأشبهنها بالولادة ونزع العرق، لما جرى لها في قصة الشجرة مع إبليس، وأن إبليس إنما بدأ بحواء فأغواها وزين لها، حتى جعلها تأكل من الشجرة، ثم أتت آدم فقالت له مثل ذلك حتى أكل أيضاً هو. ثم قال: لما نزل على بني إسرائيل المن والسلوى، كان المن يسقط عليهم في مجالسهم من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، كسقوط البلح، فيؤخذ منه بقدر ما يكفي ذلك اليوم، إلا يوم الجمعة فيأخذون منه للجمعة والسبت، فإن تعدوا إلى أكثر فسد. ه وأقره النووي في شرح صحيح مسلم على هذا الشرح الأسطوري رحمهما الله. وقال الحافظان ابن حجر في "فتح الباري" (6/ 368) والبدر العيني في "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" (15/ 211): فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا وَقَعَ مِنْ حَوَّاءَ فِي تَزْيِينِهَا لِآدَمَ الْأَكْلَ مِنَ الشَّجَرَةِ حَتَّى وَقَعَ فِي ذَلِكَ، فَمَعْنَى خِيَانَتِهَا أَنَّهَا قَبِلَتْ مَا زَيَّنَ لَهَا إِبْلِيسُ حَتَّى زَيَّنَتْهُ لِآدَمَ، وَلَمَّا كَانَتْ هِيَ أُمَّ بَنَاتِ آدَمَ أَشْبَهنهَا بِالْوِلَادَةِ وَنزع الْعِرْق، فَلَا تَكَادُ امْرَأَةٌ تَسْلَمُ مِنْ خِيَانَةِ زَوْجِهَا بِالْفِعْلِ أَوْ بِالْقَوْلِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْخِيَانَةِ هُنَا ارْتِكَابَ الْفَوَاحِشِ حَاشَا وَكَلَّا ، وَلَكِنْ لَمَّا مَالَتْ إِلَى شَهْوَةِ النَّفْسِ مِنْ أَكْلِ الشَّجَرَةِ وَحَسَّنَتْ ذَلِكَ لِآدَمَ عُدَّ ذَلِكَ خِيَانَةً لَهُ، وَأَمَّا مَنْ جَاءَ بَعْدَهَا مِنَ النِّسَاءِ فَخِيَانَةُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بِحَسَبِهَا... وفي الديباج على صحيح مسلم للسيوطي(4 / 80): "لم تخن أنثى زوجها الدهر" أي أبدا، لأنها ألجأت آدم إلى الأكل من الشجرة مطاوعة لعدوه إبليس، وذلك خيانة له، فنزع العرق في بناتها. وفي تفسير المنار (8/311) للعلامة رشيد رضا: نَسِيَ آدَمُ عَهْدَ رَبِّهِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مِنَ الْعَزْمِ مَا يَصْرِفُهُ عَنْ مُتَابَعَةِ امْرَأَتِهِ، وَيَعْتَصِمُ بِهِ مِنْ تَأْثِيرِ شَيْطَانِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ طَهَ: (وَلَقَدْ عَهِدَنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا)، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الصَّحِيحِ: " وَلَوْلَا حَوَّاءُ لَمْ تَخُنْ أُنْثَى زَوْجَهَا " بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا هِيَ الَّتِي زَيَّنَتْ لَهُ الْأَكْلَ مِنَ الشَّجَرَةِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ الْمَرْأَةَ فُطِرَتْ عَلَى تَزْيِينِ مَا تَشْتَهِيهِ لِلرَّجُلِ وَلَوْ بِالْخِيَانَةِ لَهُ، وَقِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ بِنَزْعِ الْعِرْقِ أَيِ الْوِرَاثَةِ. ه قلت: لست أستغرب صدور ذلك الكلام القبيح عن العلماء المتقدمين بقدر استغرابي من صدورها عن عالم متنور مثل رشيد رضا الذي اشتهر بالتنفير من الإسرائيليات، عجبا. إن عقيدة خيانة حواء لآدم عليهما السلام، من خلال التحالف مع إبليس، مقررة مسلمة عند جمهور علمائنا بناء على حديث سيدنا أبي هريرة، وهناك رأي ضعيف شاذ متكلف في التأويل ذهب إليه الحافظ ابن الجوزي في "كشف المشكل من حديث الصحيحين" (3/504) فقال: وَأما خِيَانَة حَوَّاء زَوجهَا فَإِنَّهَا كَانَت فِي ترك النَّصِيحَة فِي أَمر الشَّجَرَة لَا فِي غير ذَلِك، وَالْمرَاد أَن بني إِسْرَائِيل لما نهوا أَن يدخروا فخالفوا فسد اللَّحْم، واطردت الْحَال فِيهِ عِنْد كل مدخر، وَلما خانت حَوَّاء زَوجهَا اطردت الْحَال فِي بناتها. ه يقول ابن الجوزي هذا وكأنه كان حاضرا مع أبوينا فرأى أمنا حواء صامتة لا تنصح ولا تذكّر زوجها، ومن يدري أنها فعلت لكن أبانا أصر على موقفه وحملها على الأكل، وهو ما سيأتي ترجيحه. ثم إن ترك النصيحة ليس خاصا بالمرأة، فغالب الرجال لا ينصحون أزواجهم، فمن أين ورثوا ذلك؟ من حواء أم آدم عليهما الصلاة والسلام؟ وعبارة "بناتها" مشعرة بأنهن بنات حواء وحدها، والمقرر أنهن بنات آدم وحواء، بل إن جينات آدم هي الغالبة، لذلك فالقرآن يسمينا ذكورا وإناثا "بني آدم" لا بني حواء، فهل اعتبر ابن الجوزي هذا؟ وبالجملة، فإدخال هذا الإمام الكبير حديث أبي هريرة في جملة "مشكل حديث الصحيحين" دليل على أن العلماء استشعروا غرابته ونكارته قديما، فلا يستنكر صنيعنا إلا عاطفي متعصب. والنتيجة أن الحديث صحيح عند العلماء قديما وحديثا، وأن مضمونه مقرّر مسلّم، فالخيانة عيب خلقي موروث من أم البشرية حوّاء، والظاهر من عبارات العلماء أنه خلق خاص بالنساء، فاعجب. والسبب في التصحيح والتسليم بالمضمون هو وجود الحديث في صحيحي البخاري ومسلم، ولو أنهما أضربا عنه صفحا، أو تفرد به مسلم دون البخاري، لضعفه علماؤنا وردوه مهما تعددت طرقه وصحت أسانيده إلى أبي هريرة، فقد صنعوا ذلك بأحاديث لا تتضمن مثل هذا من حيث الغرابة والنكارة. وأذكر هذا المثال الشاهد لتدرك مدى سكر العلماء بعصمة صحيح البخاري خاصة، وكيلهم بمكيالين: أخرج أحمد في مسنده ومسلم وابن خزيمة وابن حبان في صحاحهم من طريق إِسْمَاعِيل بْن أُمَيَّةَ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ رَافِعٍ، مَوْلَى أُمِّ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِي فَقَالَ: «خَلَقَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ، وَخَلَقَ فِيهَا الْجِبَالَ يَوْمَ الْأَحَدِ، وَخَلَقَ الشَّجَرَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَخَلَقَ الْمَكْرُوهَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ، وَخَلَقَ النُّورَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ، وَبَثَّ فِيهَا الدَّوَابَّ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَخَلَقَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ الْعَصْرِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، فِي آخِرِ الْخَلْقِ، فِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ الْجُمُعَةِ، فِيمَا بَيْنَ الْعَصْرِ إِلَى اللَّيْلِ». ورغم أن هذا الحديث في صحيح مسلم، فإن كثيرا من الحفاظ لم يجدوا حرجا في تخطئته، حيث رجحوا أن أبا هريرة سمعه من كعب الأحبار الإسرائيلي المسلم، وأن أحد الرواة نسبه إلى رسول الله وأسقط كعبا، وحجتهم معارضة الحديث للقرآن حيث أخبر الله أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام، أربعة أيام للأرض ويومان للسماء. وقد تجرؤوا هذه المرة على حديث في صحيح مسلما خلافا لقاعدتهم، لأنهم وجدوا الإمام البخاري يضعفه ويرجح أنه كلام كعب الأحبار، ولو أنه أخرجه في صحيحه لقبلوه ودافعوا عنه باستماتة، وتجاهلوا مناقضته لكتاب الله. قال ابن تيمية في "الجواب الصحيح" (2/ 443): صَحِيحُ مُسْلِمٍ فِيهِ أَلْفَاظٌ قَلِيلَةٌ غَلَطٌ، وَفِي نَفْسِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ مَعَ الْقُرْآنِ مَا يُبَيِّنُ غَلَطَهَا، مِثْلُ مَا رُوِيَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ وَجَعَلَ خَلْقَ الْمَخْلُوقَاتِ فِي الْأَيَّامِ السَّبْعَةِ، فَإِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ قَدْ بَيَّنَ أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ كَيَحْيَى بْنِ مَعِينٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ وَالْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُ غَلَطٌ، وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ صَرَّحَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ الْكَبِيرِ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ كَعْبِ الْأَحْبَارِ، كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ، وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَى غَلَطِ هَذَا، وَيُبَيِّنُ أَنَّ الْخَلْقَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ آخِرَ الْخَلْقِ كَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَيَكُونُ أَوَّلُ الْخَلْقِ يَوْمَ الْأَحَدِ. ه وفي البداية والنهاية لابن كثير (1/ 18): تَكَلَّمَ فِي هَذَا الحديث علي ابن الْمَدِينِيِّ وَالْبُخَارِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْحُفَّاظِ، قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ عَنْ كَعْبٍ وَهُوَ أَصَحُّ. يَعْنِي أنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مِمَّا سَمِعَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَتَلَقَّاهُ مِنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ، فَإِنَّهُمَا كَانَا يَصْطَحِبَانِ وَيَتَجَالَسَانِ لِلْحَدِيثِ، فَهَذَا يُحَدِّثُهُ عَنْ صُحُفِهِ، وَهَذَا يُحَدِّثُهُ بِمَا يُصَدِّقُهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَ هَذَا الْحَدِيثُ مِمَّا تَلْقَّاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ كَعْبٍ عَنْ صُحُفِهِ، فَوَهِمَ بَعْضُ الرُّوَاةِ فَجَعَلَهُ مَرْفُوعًا إِلَى النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَكَّدَ رَفْعَهُ بِقَوْلِهِ: "أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِي" ثُمَّ فِي مَتْنِهِ غَرَابَةٌ شَدِيدَةٌ. فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ خلق السموات، وَفِيهِ ذِكْرُ خَلْقِ الْأَرْضِ وَمَا فِيهَا فِي سَبْعَةِ أَيَّامٍ. وَهَذَا خِلَافُ الْقُرْآنِ لِأَنَّ الْأَرْضَ خلقت في أربعة أيام ثم خلقت السموات فِي يَوْمَيْنِ مِنْ دُخَانٍ. ه قلت: وتجد مثل هذا الكلام عند ابن كثير في تفسيره، وابن القيم في "المنار المنيف" ص84 والبدائع1/85 ونقد المنقول ص32، والزركشي في "النكت على مقدمة ابن الصلاح" (2/ 268)، ومجموع فتاوى ابن باز (25/ 70). إذن، فقد ضعفوا حديثا لمعارضته ظاهر القرآن، ونسبوا الوهم إلى الإمام الثقة إسماعيل بن أمية وهم واهمون منحازون حتما، فإسماعيل لم يتفرد به حتى تلصق التهمة به: قال البيهقي في "الأسماء والصفات" (2/251): تابعه عَلَى ذَلِكَ مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ الرَّبْذِيُّ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ خَالِدٍ، إِلَّا أَنَّ مُوسَى بْنَ عُبَيْدَةَ ضَعِيفٌ، وَرُوِيَ عَنْ بَكْرِ بْنِ الشَّرُّودِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي يَحْيَى عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ خَالِدٍ، وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ه قلت: وفاتكم سيدي هذا الطريق: قال النسائي في السنن الكبرى ح 11328: أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدَةَ الْحَدَّادُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَخْضَرُ بْنُ عَجْلَانَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجِ الْمَكِّيِّ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ بِيَدِي قَالَ: «يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، إِنَّ اللهَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرَضِينَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَوْمَ السَّابِعِ، وَخَلَقَ التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ، وَالْجِبَالَ يَوْمَ الْأَحَدِ، وَالشَّجَرَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَالشر يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ، وَالنُّورَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ، وَالدَّوَابَّ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَآدَمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنَ النَّهَارِ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَخَلَقَ أَدِيمَ الْأَرْضِ أَحْمَرَهَا وَأَسْوَدَهَا، وَطَيِّبَهَا وَخَبِيثَهَا، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ جَعَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ آدَمَ الطِّيِّبَ وَالْخَبِيثَ» ورجال هذا الطريق ثقات كلهم، وليس بينهم إسماعيل بن أمية، فتأكد به وبمجموع الطريقين الضعيفين الذين أشار إليهما البيهقي أن إسماعيل لم يخطئ ولم ينس، بل أدى ما وصله، وأن أبا هريرة هو الواهم الناسي، ولا عيب أو حرج في ذلك، والذي أخذ بيده هو جليسه كعب الأحبار، لكنه نسي بفعل كثرة مروياته جدا جدا. والعبرة بتضعيف المحدثين لحديثه هذا بمعارضته القرآن الكريم، وهو المنهج الذي سنرد به حديثه عن خيانة سيدتنا حواء، علما أن مناقضته للقرآن أوضح وأصرح، ثم هو مخالف للعلم من أوجه، ومضطرب في رواياته، وموافق للإسرائيليات أكثر من المتقدم، فهو أولى بالتضعيف لو كنا منصفين، نعرف الحق بدليله لا بقائله. العلل القادحة في حديث "الخيانة": العلة الأولى: انفراد أبي هريرة بالحديث: يتضمن حديث "الخيانة" معلومات خطيرة وكبيرة تتعلق بتاريخ البشرية، أي أن الدواعي متوافرة ليسمعه ويرويه جماعة من الصحابة، والواقع أن صحابيا واحدا تأخر إسلامه، تفرّد برواية هذا الحديث ونسبته إلى رسول الله، فالمنطق يقضي باستغرابه واستنكاره، ويحكم على أبي هريرة رضي الله عنه بالنسيان والتوهم، فهو سمعه من أهل الكتاب كما حصل له في الحديث الذي خرّجه مسلم وردّه العلماء، ثم نسي فنسبه إلى رسول الله، وسيأتي ما يؤكد نسيانه. واعلم أن تخطئة الصحابي المتفرد برواية خبر عظيم المضمون، منهج المحدثين والفقهاء على حد سواء، واعلم أن الصحابة طعنوا في أحاديث انفرد سيدنا أبو هريرة بروايتها، وحكموا عليه بالوهم والنسيان، فراجع كتاب الحافظ الزركشي فيما استدركته سيدتنا عائشة على الصحابة. ولا مجال للتعقيب علينا بأن سيدنا أبا هريرة لم يكن ينسى ببركة دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم، فتلك مبالغة منه رضي الله عنه، وربما رأى ذلك مناما فظنه في اليقظة، ونحن لا نسلّم له ذلك مع حبّه وتعظيمه والإقرار بصدقه، لأنه تفرد بنسبة تلك الفضيلة له إذ لم يروها غيره والشريعة ترفض شهادة الإنسان لنفسه، ولأنه لم يخبر بذلك أيام الخلفاء الراشدين بل في آخر حياته زمن معاوية لما استنكر عليه بعض الصحابة وكبار التابعين نسبة كثير من الروايات إلى رسول الله لم يسمعها أو يروها غيره، ولأن كبار الصحابة والفقهاء من بعدهم حكموا على أبي هريرة بالخطأ والنسيان، أي أنهم لم يعتبروا تلك الفضيلة المنسوبة إليه. هذا، وقد تعدّدت الطرق عن أبي هريرة، ولم يصرّح بسماع الحديث من رسول الله في أي منها، فأفاد ذلك احتمالين: الأول: سمع أبو هريرة أحدا ينسب حديث الخيانة إلى رسول الله، فأسقطه ورواه بالعنعنة، وهكذا صنع بعشرات الأحاديث، وهو أمر مقرر مشهور ينفيه الجاهل أو المعاند. الثاني: اختلط الأمر على أبي هريرة في آخر حياته، فلم يعد متأكدا من أنه سمع الحديث من رسول الله، فاحتاط لنفسه ورواه دون تصريح بالسماع. هذا ما يظهر لنا، فإن كان لكم غيره وفيه مقنع لذوي العقول، فاذكروه لنا رحمكم الله. العلة الثانية: مناقضة القرآن: يظهر حديث الخيانة أن أبانا آدم عليه السلام كان ضحية مؤامرة إبليس وزوجه حواء عليها السلام، وسيأتي شرح تفاصيل المؤامرة كما جاء عند أهل الكتاب المحرفين. وبالعودة إلى القرآن الكريم المتواتر لفظا ومعنى، نجد أن الله تعالى ينسب النسيان وضعف العزيمة والمعصية والغواية لأبينا آدم عليه السلام، ويخبرنا أن إبليس جاء آدم عليه السلام فخاطبه وغرّر به وحيدا بعيدا عن حوّاء: قال الله تعالى في سورة "طه": (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا، وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى، فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى، إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى، وإنّك لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى، فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ: يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَى، فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ، وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى). فقول إبليس: (يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَى)، صريح في أن إبليس تولى بنفسه الوسوسة لأبينا آدم ولم يكلف أمنا حواء بذلك. وصيغة "هل أدلك" تدل على المستقبل، فهناك فاصل زمني بين مخاطبة إبليس وبين "فأكلا منها"، والذي حصل بينهما كما يدل السياق، هو أن أبانا آدم صدّق إبليس، وقوله تعالى: (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ: يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَى) مشعر بأن حواء كانت غائبة. بعد ذلك، ذهب أبونا آدم إلى زوجه فأخبرها بقول إبليس وزيّن الفكرة لها حتى أقنعها، ثم جاء بها قرب الشجرة المنهي عنها، فتردّدا أول الأمر، فتدخل إبليس مجدّدا وغرّر بهما من خلال القسم، نجد ذلك في سورة الأعراف، قال الله تعالى: ( وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا، وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ، فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْآتِهِمَا، وَقَالَ: مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ، وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ، فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ، فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ، وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ؟ قَالاَ: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ). فعبارة: (يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَى)، خص بها إبليس أبانا آدم بداية بعيدا عن الشجرة وعن حواء، ثم لما جرّ سيدنا آدم معه مولاتنا حواء وقربا من الشجرة، قال لهما إبليس مقسما بالله: (مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ). والخلاصة أن إبليس وسوس لأبينا آدم محب الملك والخلد أكثر من زوجه، ثم غرّر بها فطاوعته، لذلك حمّله ربه الجانب الأكبر من المسئولية فقال سبحانه: (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا)، وقال: (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى). ولن تجد في كتاب الله أي جملة تتحدث عن سيدتنا حواء بمثل هذا الأسلوب الشديد، ورغم أنها أخطأت مع أبينا آدم، فإن الله قال: (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى)، وفي هذا أكبر برهان على أنه اغترّ بوسوسة إبليس ثم غرّر بزوجه حوّاء، فتحمل اللّوم الإلهي أكثر منها، وكلام ربّ العالمين صريح في ذلك. فتحصل أن حديث الخيانة مناقض لما جاء في كتاب الله عن أبوينا آدم وحواء عليهما السلام، فنسبة شطره الثاني إلى رسول الله خطأ من أبي هريرة حتما، لأن قول الرسول لا يمكن أن يخالف كلام الله. العلة الثالثة: مخالفة العقل والعلم: يفيد الشطر الأول من الحديث أن اللحم لم يكن يخنز، والطعام أي القمح ونحوه لم يكن يفسد قبل موسى عليه السلام، وأن ادخار الأطعمة لم يكن تقنية معروفة قبل ادخار بني إسرائيل المن والسلوى. وهذه المضامين ينقضها العقل وينسفها العلم، فادخار الأطعمة عرفته البشرية في كل الأجيال والعصور، فقد اكتشف علماء الآثار شواهد علمية على ذلك في بقايا كل الحضارات القديمة. ويكفي أن الله تعالى أخبرنا عن وجود هذه التقنية زمن سيدنا يوسف الذي كان قبل سيدنا موسى بأكثر من ألف عام، قال الله تعالى: ( قَالَ: تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأبًا، فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ، ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ). فقوله: (فذروه في سنبله) يعني اتركوه في سنبله حتى يبقى طريا صالحا مدة سبعة أعوام من الجفاف، وقوله: (مما تحصنون) أي تدّخرون. وخطاب سيدنا يوسف كان موجها من داخل السجن لمبعوث حاكم مصر، وكل ذلك مشعر بأن تقنية الادخار كان معروفة لدى المصريين القدامى، وهو ما تؤكده الكشوفات العلمية. فسيدنا يوسف لم يكن أول مخترع لفكرة الادخار، وإنما عرف من خلال رؤيا الملك أن سبع سنين من الجفاف ستعقب سبعة أعوام من الخصب، فأرشد الملك إلى الخطة الاقتصادية التي تمكنه من تجاوز الأزمة. ثم إن الحيوانات والحشرات كالنمل والنحل تدخر قوتها منذ ظهرت على كوكب الأرض، فهل يعقل أن تبقى البشرية جاهلة غبية آلاف الأعوام حتى يخترع لها بنو إسرائيل تقنية الادخار؟ ومن جهة ثانية، فإن اللحم وغيره من الأطعمة والأشربة كل ذلك كان يفسد ويخنز وينتن بفعل الحرارة ونحوها منذ أكمل الله تعالى تكوين الأرض، فالقوانين الطبيعية التي كانت زمن سيدنا موسى، هي نفسها قبل ذلك بملايين السنين، وهي ذاتها اليوم، واللحوم وغيرها كانت قابلة للفساد والنتن منذ أوجدها الله سبحانه. فالزعم بأن الأطعمة لم تكن تفسد وتتغير قبل سيدنا موسى، كذب يبطله العقل ويستهجنه العلم، وسيدنا أبو هريرة عاش في عصر تسوده خرافات بني إسرائيل وأساطير الشرق والغرب، ولم يكن دارسا للطب والفلسفة، فلا عجب يصدق مثل هذه الترهات ثم ينسى فينسبها إلى أعقل وأصدق البريات. ومحال أن ينطق رسول الله بما يتناقض والعقل والعلم، لذلك فالحديث المنسوب إليه أحد أوهام سيدنا أبي هريرة وأخطائه. وإني لأعجب كيف استساغ العلماء الشطر الأول، رغم أن مناقضته للعقل والعلم كانت أمرا معروفا منذ ترجم المسلمون كتب الطب والفلسفة، فحكماء الحضارات العريقة وأطباؤها تحدثوا عن فساد اللحم والطعام، وفلاسفتها ومؤرخوها ذكروا طرق الادخار.- لكن إذا تذكرت هيبة الصحيحين وسطوتها على العقول، زال العجب أو زاد، فهل نبقى معطلي العقل كما كان أسلافنا؟ العلة الرابعة: مخالفة الواقع المحسوس: من علامات الحديث الموضوع عند المحدثين، أن يخالف الحس والتجربة، والحديث الذي بين أيدينا مخالف لهما، فهو يفيد أن الخيانة خلق خاص بالمرأة، والواقع الملموس المحسوس أن الرجل أكثر خيانة منها، وهذا كلام تقشعر منه أبدان المعلقين الذكور، متجاهلين أن المرأة هي الأم قبل أن تكون الزوجة، ومتناسين ما يعرفونه ويسمعونه يوميا عن أنواع الخيانة الذكورية، ولو تحدثنا عن الخيانة الزوجية، فلا أحد من العقلاء ينكر أن الرجال المتزوجين أخون من النساء بأضعاف مضاعفة نظرا للعوامل الاقتصادية والاجتماعية التي لم تتبدل منذ خلق الله البشرية رغم بعض الانفلاتات اليوم، ولأن الطاقة الجنسية لدى الرجل أقوى وأشد استثارة، ولأن قلب المرأة لا يتسع لرجلين أبدا، فهي إذا أحبت زوجها لن تخونه ولو وضع السيف على رقبتها، أما الرجل فقد جعل الله قلبه قادرا على استيعاب حب أكثر من امرأة، لذلك فهو مستعد لخيانتها كلما سنحت له فرصة إلا أن يكون من المتقين. إذا قبلتم هذا المنطق، فهل تدركونه أنتم ثم يجهله نبينا عليه السلام؟ وإذا كان الرسول أولى بمعرفته، فهل تصدقون ما نسبه إليه سيدنا أبو هريرة؟ وإذا لم تصدقوا تلك النسبة، فهل تستسيغون الحكم على الصحابي الجليل بالخطأ والتوهم والنسيان؟ العلة الخامسة: مخالفة أبي هريرة لابن عباس: روى يحيى بن سلام في تفسيره (1/ 270) بإسناد صحيح عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَوْلا بَنُو إِسْرَائِيلَ مَا خَنِزَ لَحْمٌ، وَلا أَنْتَنَ طَعَامٌ، إِنَّهُمْ لَمَّا أُمِرُوا أَنْ يَأْخُذُوا لِيَوْمِهِمِ ادَّخَرُوا مِنْ يَوْمِهِمْ لِغَدِهِمْ. وتلاحظون أن الشطر الأول من حديث أبي هريرة موقوف على مولانا ابن عباس، وهو أعلم بالسنة والتفسير والتاريخ، وأخذ غالب أخبار قصص الأنبياء من علماء أهل الكتاب، وكان يتبنى ما يراه صدقا فيفسر به القرآن وكأنه قوله ورأيه، لكنه لا ينسبه إلى رسول الله لجودة حفظه وقوة ذاكرته، وتصديقه مثل هذا الخبر وتبنيه له راجع إلى المستوى المعرفي السائد. وعند تعارض الرفع والوقف، يرجح المحدثون الوقف إذا كان الواقف أحفظ من الرافع، وابن عباس أحفظ وأضبط وأعلم من أبي هريرة بمراحل، ولا مجال للمقارنة بينها، فتكون روايته أرجح، وهي الوقف. ويجوز أن يكون أبو هريرة سمع ما نسبه إلى رسول الله من ابن عباس، ثم طرأ عليه النسيان والتوهم بفعل الكبر وكثرة المحفوظات. وعموما، فإن موقوف ابن عباس قرينة مشوشة على مرفوع أبي هريرة على منهج المحدثين من غير اعتبار العلل المتقدمة، فكيف إذا اعتبرناها؟ العلة السادسة: وجه آخر من مخالفة القرآن والعلم: إذا كانت أمنا حواء متخلقة من بعض خلايا أبينا آدم، وهو ما يفهم من قوله تعالى: (اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء) وقوله سبحانه: (خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا)، وتؤيده الآثار الدالة على خلق حوّاء من ضلع آدم، ويعضده نداء الله لنا في كتابه بقوله: (يا بني آدم)، وحديث: (كلكم من آدم وآدم من تراب)، فهذا يعني أن سيدنا آدم هو الذي أورث مولاتنا حواء كل الخصائص والصفات ظاهرها وباطنها. وعليه، فالقابلية الفطرية للوقوع في الخيانة، يجب أن تكون نابعة من أبينا آدم بإشارة القرآن، ومنه سرت إلى أمنا حواء، ثم استرسلت في ذريتهما. وبالتالي يكون الحديث المتفق عليه، وشرحه التقليدي المتقدم، مناقضا لكتاب الله من هذه الناحية أيضا، وتلك علامة أخرى على كونه منسوبا إلى نبينا الكريم من باب الوهم والنسيان. وإلصاق كل العيوب بأم البشرية، وكأنها ليست أصلنا وأمنا، تحيّز ظالم وعنصرية مقيتة، والإساءة إليها لا تقل خطورة عن الإساءة لأبينا آدم، فإنها حبيبته وزوجه يؤذيه ما يؤذيها. العلة السابعة: اضطراب الصحابي شاهد على نسيانه: اضطرب سيدنا أبو هريرة في حديث الخيانة اضطرابا دالا على أنه لم يحفظه جيدا ولم يضبطه، وهو قرينة إضافية على أنه نسي فنسب إلى رسول الله كلاما إسرائيليا سمعه من أهل الكتاب، والطعن في الحديث باضطراب سنده أو متنه قاعدة حديثية متبعة، ونحن نسلكها مع الصحابة وغيرهم مع التنبيه إلى أن وصف الصحابي بالاضطراب ليس تجريحا ولا سوء أدب إلا في مخيلة المتعصبين والعاطفيين المغفلين، فلا تكن منهم. وهذه أوجه الاختلاف والاضطراب في متن حديث أبي هريرة رضي الله عنه: الرواية الأولى: روى الإمامان عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ وعبد الله بن لهيعة عن التابعي الثقة أبي يُونُسَ سليم بن جبير مَوْلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " لَوْلَا حَوَّاءُ لَمْ تَخُنْ أُنْثَى زَوْجَهَا الدَّهْرَ" (مسند أحمد ح8591 وح8597 وصحيح مسلم ح1470). اقتصر هنا على الشطر الثاني المتعلق بخيانة حواء المكذوبة، فهل الشطر الأول من كيسه رضي الله عنه؟ أم نسيه فحذفه؟ الرواية الثانية: روى هَمَّام بن منبه وابن سيرين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لَوْلاَ بَنُو إِسْرَائِيلَ لَمْ يَخْنَزِ اللَّحْمُ، وَلَوْلاَ حَوَّاءُ لَمْ تَخُن أُنْثَى زَوْجَهَا الدهر» (مسند أحمد ح8170، وصحيح البخاري ح3330 و3399، والمستدرك على الصحيحين للحاكم (4/ 194) الرواية الثالثة: وروى هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لَوْلاَ بَنُو إِسْرَائِيلَ لَمْ يَخْبُثِ الطَّعَامُ وَلَمْ يَخْنَزِ اللَّحْمُ، وَلَوْلاَ حَوَّاءُ لَمْ تَخُنْ أُنْثَى زَوْجَهَا الدَّهْرَ» (صحيح مسلم ح1470 ومستخرج أبي عوانة3/143 ) تخالف هذه الرواية سابقتها بزيادة: "لم يخبث الطعام"، ولم ينفرد همام بالزيادة، فروى خِلَاسِ بْن عَمْرٍو الْهَجَرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ قَالَ: «لَوْلَا بَنُو إِسْرَائِيلَ لَمْ يَخْنَزِ اللَّحْمُ وَلَمْ يَخْبُثِ الطَّعَامُ، وَلَوْلَا حَوَّاءُ لَمْ تَخُنْ أُنْثَى زَوْجَهَا» . مسند أحمد ح8019، ومسند ابن راهويه1/168، ومسند الحارث/البغية1/553 مشيخة ابن حذلم ص 18 وص22 وحلية الأولياء8/389 القرائن الدالة على أن حديث أبي هريرة من الإسرائيليات: القرينة الأولى: شهرة أبي هريرة برواية الإسرائيليات: أبو هريرة مشهور بالأخذ والرواية عن مسلمة أهل الكتاب، خاصة كعب الأحبار فإنه من شيوخه كما في تهذيب الكمال للحافظ المزي، وحديثه تلخيص لما جاء في تخاريف اليهود وأساطيرهم، وقد اعترف المحدثون بأن بعض الأحاديث المنسوبة إلى رسول الله من طريق أبي هريرة سمعها من كعب الأحبار ثم نسبها تلامذته إلى المعصوم، فهذا منها لزاما، بل هو أولى بذلك. القرينة الثانية: تعظيم الحديث لليهود: الظاهر أن الشطر الأول، وهو: (لولا بنو إسرائيل ما خنز لحم) قدح في اليهود، وليس كذلك، بل هو مدح لليهود بأسلوب يشبه الذم، فالادخار ليس عملا قبيحا حتى يعاب عليهم، لكنهم وضعوا هذا الخبر الذي يعني أنهم الذين اخترعوا تقنية الادخار وعلموه للبشرية، وهم مغرمون بنسبة الاكتشافات والمخترعات لأنفسهم عبر التاريخ، ليؤكدوا أسطورة شعب الله المختار، ومن أكاذيبهم المشهورة، الزعم بأنهم بناة الأهرامات بمصر. القرينة الثالثة: خيانة مولاتنا حواء أسطورة إسرائيلية: تتهم التوراة المحرفة حواء أم البشرية بالتغرير بأبينا آدم وتزيين الأكل من الشجرة المنهية له، خلافا لما شهد به القرآن المحفوظ لفظا ومعنى. وهذه الفكرة الشيطانية منبع احتقار المرأة، وهي عقيدة راسخة عند اليهود والنصارى ثم جماهير علماء وعوام المسلمين إلى اليوم، وهذا أصلها في التوراة المزورة: جاء في الأصحاح الثالث من سفر التكوين: وَكَانَتِ الْحَيَّةُ أَحْيَلَ جَمِيعِ حَيَوَانَاتِ الْبَرِّيَّةِ الَّتِي عَمِلَهَا الرَّبُّ الإِلهُ، فَقَالَتْ لِلْمَرْأَةِ: «أَحَقًّا قَالَ اللهُ لاَ تَأْكُلاَ مِنْ كُلِّ شَجَرِ الْجَنَّةِ؟» فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ لِلْحَيَّةِ: «مِنْ ثَمَرِ شَجَرِ الْجَنَّةِ نَأْكُلُ، وَأَمَّا ثَمَرُ الشَّجَرَةِ الَّتِي فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ فَقَالَ اللهُ: لاَ تَأْكُلاَ مِنْهُ وَلاَ تَمَسَّاهُ لِئَلاَّ تَمُوتَا». فَقَالَتِ الْحَيَّةُ لِلْمَرْأَةِ: «لَنْ تَمُوتَا! بَلِ اللهُ عَالِمٌ أَنَّهُ يَوْمَ تَأْكُلاَنِ مِنْهُ تَنْفَتِحُ أَعْيُنُكُمَا وَتَكُونَانِ كَاللهِ عَارِفَيْنِ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ». فَرَأَتِ الْمَرْأَةُ أَنَّ الشَّجَرَةَ جَيِّدَةٌ لِلأَكْلِ، وَأَنَّهَا بَهِجَةٌ لِلْعُيُونِ، وَأَنَّ الشَّجَرَةَ شَهِيَّةٌ لِلنَّظَرِ. فَأَخَذَتْ مِنْ ثَمَرِهَا وَأَكَلَتْ، وَأَعْطَتْ رَجُلَهَا أَيْضًا مَعَهَا فَأَكَلَ، فَانْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا وَعَلِمَا أَنَّهُمَا عُرْيَانَانِ. فَخَاطَا أَوْرَاقَ تِينٍ وَصَنَعَا لأَنْفُسِهِمَا مَآزِرَ. وَسَمِعَا صَوْتَ الرَّبِّ الإِلهِ مَاشِيًا فِي الْجَنَّةِ عِنْدَ هُبُوبِ رِيحِ النَّهَارِ، فَاخْتَبَأَ آدَمُ وَامْرَأَتُهُ مِنْ وَجْهِ الرَّبِّ الإِلهِ فِي وَسَطِ شَجَرِ الْجَنَّةِ. فَنَادَى الرَّبُّ الإِلهُ آدَمَ وَقَالَ لَهُ: «أَيْنَ أَنْتَ؟». فَقَالَ: «سَمِعْتُ صَوْتَكَ فِي الْجَنَّةِ فَخَشِيتُ، لأَنِّي عُرْيَانٌ فَاخْتَبَأْتُ». فَقَالَ: «مَنْ أَعْلَمَكَ أَنَّكَ عُرْيَانٌ؟ هَلْ أَكَلْتَ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي أَوْصَيْتُكَ أَنْ لاَ تَأْكُلَ مِنْهَا؟» فَقَالَ آدَمُ: «الْمَرْأَةُ الَّتِي جَعَلْتَهَا مَعِي هِيَ أَعْطَتْنِي مِنَ الشَّجَرَةِ فَأَكَلْتُ». فَقَالَ الرَّبُّ الإِلهُ لِلْمَرْأَةِ: «مَا هذَا الَّذِي فَعَلْتِ؟» فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ: «الْحَيَّةُ غَرَّتْنِي فَأَكَلْتُ». فَقَالَ الرَّبُّ الإِلهُ لِلْحَيَّةِ: «لأَنَّكِ فَعَلْتِ هذَا، مَلْعُونَةٌ أَنْتِ مِنْ جَمِيعِ الْبَهَائِمِ وَمِنْ جَمِيعِ وُحُوشِ الْبَرِّيَّةِ. عَلَى بَطْنِكِ تَسْعَيْنَ وَتُرَابًا تَأْكُلِينَ كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِكِ. وَأَضَعُ عَدَاوَةً بَيْنَكِ وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ، وَبَيْنَ نَسْلِكِ وَنَسْلِهَا. هُوَ يَسْحَقُ رَأْسَكِ، وَأَنْتِ تَسْحَقِينَ عَقِبَهُ». وَقَالَ لِلْمَرْأَةِ: «تَكْثِيرًا أُكَثِّرُ أَتْعَابَ حَبَلِكِ، بِالْوَجَعِ تَلِدِينَ أَوْلاَدًا. وَإِلَى رَجُلِكِ يَكُونُ اشْتِيَاقُكِ وَهُوَ يَسُودُ عَلَيْكِ». وَقَالَ لآدَمَ: «لأَنَّكَ سَمِعْتَ لِقَوْلِ امْرَأَتِكَ وَأَكَلْتَ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي أَوْصَيْتُكَ قَائِلاً: لاَ تَأْكُلْ مِنْهَا، مَلْعُونَةٌ الأَرْضُ بِسَبَبِكَ. بِالتَّعَبِ تَأْكُلُ مِنْهَا كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِكَ. وَشَوْكًا وَحَسَكًا تُنْبِتُ لَكَ، وَتَأْكُلُ عُشْبَ الْحَقْلِ. بِعَرَقِ وَجْهِكَ تَأْكُلُ خُبْزًا حَتَّى تَعُودَ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أُخِذْتَ مِنْهَا. لأَنَّكَ تُرَابٌ، وَإِلَى تُرَابٍ تَعُودُ». انتهى وانظر كيف استطاع إبليس أن يقنع الشياطين محرفي التوراة، حيث جعلوا الحية مكانه، فنسبوا إليها الإغواء والتغرير بحواء، ومن هنا جاء التشبيه القبيح للمرأة بالحية. وحاول مسلمة أهل الكتاب تجاوز هذا التزوير، فزعموا أن إبليس غرّر بالحيّة فأخفته عن الملائكة الحراس في فمها وأدخلته إلى الجنة، فخدع أمنا حواء وحرضها على إقناع سيدنا آدم ففعلت. قال الإمام عبد الرزاق الصنعاني في تفسيره2/377: أخبرنا عمر بن عبد الرحمن بن درية، قال: سمعت وهب بن منبه يقول: لما أسكن الله آدم الجنة وزوجته نهاه عن الشجرة، وكانت الشجرة غصونها يتشعب بعضها في بعض، وكان لها ثمر تأكلها الملائكة لخلودهم، وهي الشجرة التي نهى الله آدم وزوجته، فلما أراد إبليس أن يستزلهما دخل في جوف الحية، وكانت الحية لها أربع قوائم كأنها بختية من أحسن دابة خلقها الله، فلما دخلت الحية الجنة خرج من جوفها إبليس، فأخذ من الشجرة التي نهى الله عنها آدم وزوجته، فجاء بها إلى حواء، فقال : انظري هذه الشجرة ما أطيب ريحها، وأطيب طعمها، وأحسن لونها، فأكلت منها، ثم ذهبت بها إلى آدم، فقالت: انظر إلى هذه الشجرة ما أطيب ريحها، وأطيب طعمها، وأحسن لونها، فأكل منها آدم فبدت لهما سوآتهما، فدخل آدم في جوف الشجرة، فناداه ربه يا آدم أين أنت؟ قال: هاأنذا يا رب، قال: ألا تخرج؟ قال: أستحي منك يا رب، قال: ملعونة الأرض التي خلقت منها لعنة تتحول ثمارها شوكا، قال: ولم يكن في الجنة ولا في الأرض شجرتان أفضل من الطلح والسدر، ثم قال: يا حواء أنت التي غررت عبدي فإنك لا تحملين حملا إلا حملته كرها، فإذا أردت أن تضعي ما في بطنك أشرفت على الموت مرارا، وقال للحية: أنت التي دخل الملعون في جوفك حتى غرّ عبدي ملعونة أنت لعنة تتحول قوائمك في بطنك، ولا يكون لك رزق إلا التراب، أنت عدوة بني آدم وهم أعداؤك، حيث لقيت أحدا منهم أخذت بعقبه، وحيثما لقيك شدخ رأسك» قال عمر: فقيل لوهب: وهل كانت الملائكة تأكل؟ قال: يفعل الله ما يشاء. انتهى التخريف ووهب بن منبه تابعي إسرائيلي، لم يتحرر من أساطير ديانته الأولى رغم إسلامه، وأسطورته هذه مذكورة في تفسير الطبري وتاريخه، والمنهيات للحكيم الترمذي من طريق عبد الرزاق. ومن مضامين أسطورته المنكرة غير اتهام أمنا حواء بالخيانة، والتي نعجب لتصديق سلفنا الصالح لها: وصف الملائكة بالأكل والغفلة، حيث تمكن إبليس والحية من خداعهم. وصف الله بالعجز عن رؤية آدم لما كان مختبئا في جوف الشجرة. سخط الله على الأرض ولعنها لأن آدم منها. وهذه الأسطورة بتمامها ومعارضتها الصريحة لكتاب الله تبناها سيدنا ابن عباس وكثير من التابعين، فكانوا يفسرون بها آيات قصة آدم وحواء عليهما السلام، لذلك راجت على غالب المفسرين والمؤرخين، ورواية حبر الأمة تجدها عند ابن أبي حاتم في تفسيره، والطبري في التفسير والتاريخ، وأبي الشيخ في العظمة. وعَنِ مولانا ابْنِ عَبَّاسٍ أيضا أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمَّا أَكَلَ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي نُهِيَ عَنْهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ: يَا آدَمُ، مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ فَاعْتَلَّ آدَمُ، فَقَالَ: يَا رَبِّ زَيَّنَتْهُ لِي حَوَّاءُ، قَالَ: فَإِنِّي أَعْقَبْتُهَا أَنْ لا تَحْمِلَ إِلا كَرْهًا، وَلا تَضَعَ إِلا كَرْهًا، وَدَمَّيْتُهَا فِي الشَّهْرِ مَرَّتَيْنِ، فَرَنَّتْ حَوَّاءُ عِنْدَ ذَلِكَ، فَقِيلَ: عَلَيْكِ الرَّنَّةُ، وَعَلَى بَنَاتِكَ" ( الرقة ص216 والعقوبات ص80 لابن أبي الدنيا، والمستدرك على الصحيحين للحاكم (2/413)، والعظمة لأبي الشيخ5/1583، وشعب البيهقي7/520، والتفسير الوسيط للواحدي (1/123)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور (1/132) لابن منيع وابن المنذر. وصححه الحاكم والذهبي وابن حجر في المطالب العالية (1/273). قلت: ما قاله سيدنا ابن عباس هنا، هو ما جاء في سفر التكوين ملخصا، باستثناء زيادة: (وَدَمَّيْتُهَا فِي الشَّهْرِ مَرَّتَيْنِ، فَرَنَّتْ حَوَّاءُ عِنْدَ ذَلِكَ، فَقِيلَ: عَلَيْكِ الرَّنَّةُ، وَعَلَى بَنَاتِكَ)، ولا شك أنها من إضافات شرّاح التوراة المحرفة وروايات بني إسرائيل الشفهية، وهي تحقير إضافي للمرأة، وكأن أبانا آدم لم يبك على خطيئته، وأن الرنة أي النحيب والبكاء ورثتها الإناث دون الذكور. وجملة: (لولا حواء لم تخن أنثى زوجها) تلخيص مركز لما في التوراة، ولما كان شائعا بعد عصر الخلافة الراشدة بفعل الإسرائيليات. خلاصات: أولا: حديث أبي هريرة عن حوّاء وبني إسرائيل معارض للقرآن والعلم. ثانيا: حديث أبي هريرة موافق للتوراة المحرفة وأساطير أهل الكتاب. ثالثا: سيدنا أبو هريرة نسي فنسب ما كان يروجه مسلمة أهل الكتاب إلى رسول الله ولم يتعمد الكذب. رابعا: ديننا ممثلا في كتاب الله وسنة رسوله الصحيحة، بريئ من اتهام أم البشرية بالخيانة، ومن جعلها خلقا خاصا بالنساء، وكتب اليهود والنصارى المقدسة عندهم، منحازة إلى الرجل انحيازا كليا، حاطّة من المرأة بدءا بأمنا حوّاء عليها السلام. خامسا: علماؤنا منذ زمن الصحابة متأثرون بأساطير وتخاريف بني إسرائيل، فيجب الحذر أولا، والسعي الحثيث لتحرير عقول طلبة العلم الديني قبل العامة، وهو ما نفتل فيه عبر مقالاتنا، أما جماهير العلماء فلا نطمع في استعدادهم لإعادة النظر في تصوراتهم النابعة من الإسرائيليات، فقد تمكنت منهم والتصقت بعقولهم فلا ينسخها غير الموت الذي نسأل الله أن يجعله لنا ولهم على حسن الخاتمة. -خريج دار الحديث الحسنية [email protected]