تبرئة الرسول الأمين من أساطير المحدثين ( خرافة لطم ملك الموت) كان كعب الأحبار يهوديا فأسلم ، وكان كبير علماء مسلمة أهل الكتاب في عصره، وهو المسئول الأول عن شيوع الخرافات الإسرائيلية في المعرفة الإسلامية . وكان بعض السلف من صغار الصحابة سنا أو فضلا ، يعجبون بأساطير أهل الكتاب ، ويرددونها ولو كانت مستقبحة منكرة المضامين ، لأنهم لم يستوعبوا حديث : «حَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ» الصحيح . ويعتبر سيدنا أبو هريرة من صغار الصحابة فضلا وشرفا من حيث الصحبة لتأخر إسلامه ، حتى إنه كان لا يجرؤ على الرواية زمن مولانا الفاروق رضي الله عنهم . وكان أبو هريرة تلميذا نجيبا لكعب الأحبار ، يسأله ويتعلم منه أخبار الأوائل ، ويرويها دون نسبتها لأستاذه ، وربما نسي فجعل الخبر الإسرائيلي حديثا نبويا ، وربما فعل ذلك تلامذته ، ظنا منهم أنها أحاديث نبوية مرفوعة . قصة اللطم موقوفة على أبي هريرة: قال الإمام عَبْدُ الرَّزَّاقِ في رواية جمهور تلامذته: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: " أُرْسِلَ مَلَكُ المَوْتِ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ، فَلَمَّا جَاءَهُ صَكَّهُ، فَرَجَعَ إِلَى رَبِّهِ، فَقَالَ: أَرْسَلْتَنِي إِلَى عَبْدٍ لاَ يُرِيدُ المَوْتَ، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ عَيْنَهُ وَقَالَ: ارْجِعْ، فَقُلْ لَهُ: يَضَعُ يَدَهُ عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ فَلَهُ بِكُلِّ مَا غَطَّتْ بِهِ يَدُهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ سَنَةٌ، قَالَ: أَيْ رَبِّ، ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: ثُمَّ المَوْتُ، قَالَ: فَالْآنَ، فَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ يُدْنِيَهُ مِنَ الأَرْضِ المُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ "، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلَوْ كُنْتُ ثَمَّ لَأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ، إِلَى جَانِبِ الطَّرِيقِ، عِنْدَ الكَثِيبِ الأَحْمَرِ» (مسند أحمد ح 7646 ، وصحيح البخاري ح 1339 و ح3407 ، وصحيح مسلم ( ح 2372) ، وسنن النسائي ح 2089 ، ومستخرج أبي عوانة ط الجامعة الإسلامية (18/ 356) ، والسنة لابن أبي عاصم 599 ، والصفات للبيهقي 2/449 ، والتمهيد لابن عبد البر (2/ 290). وشذ إسحاق بن إبراهيم الدبري عن جماعة تلامذة عبد الرزاق ، فرواه مرفوعا من طريق طاووس ، وربما يكون الرفع وهما من عبد الرزاق أو معمر. وروى الإمام أحمد في المسند ح 8616 بإسناد حسن لغيره عن التابعي الثقة سليم بن جبير عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، [قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَحْمَدَ] : قَالَ أَبِي: " لَمْ يَرْفَعْهُ "، قَالَ: " جَاءَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ: أَجِبْ رَبَّكَ، فَلَطَمَ مُوسَى عَيْنَ مَلَكِ الْمَوْتِ، فَفَقَأَهَا، فَرَجَعَ الْمَلَكُ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَقَالَ: إِنَّكَ بَعَثْتَنِي إِلَى عَبْدٍ لَكَ لَا يُرِيدُ الْمَوْتَ، وَقَدْ فَقَأَ عَيْنِي، قَالَ: فَرَدَّ اللهُ إِلَيْهِ عَيْنَهُ، وَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى عَبْدِي، فَقُلْ لَهُ الْحَيَاةَ تُرِيدُ، فَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْحَيَاةَ فَضَعْ يَدَكَ عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ، فَمَا وَارَتْ يَدُكَ مِنْ شَعْرِهِ، فَإِنَّكَ تَعِيشُ بَهَا سَنَةً، قَالَ: ثُمَّ مَهْ ؟ قَالَ: ثُمَّ الْمَوْتُ، قَالَ: فَالْآنَ يَا رَبِّ مِنْ قَرِيبٍ ". رأينا في الخبر : وهذه خرافة إسرائيلية منكرة قرآنا وسنة وعقلا إيمانيا ، سمعها أبو هريرة رضي الله عنه من كعب الأحبار حتما ، لكنه جانب الصواب وحاد عن الجادة لما حدث بها دون نسبتها إلى صاحبها ، فجاء الرواة بعده وجعلوها كلاما نبويا ، وهم واهمون متواردون على الخطأ ، ومعهم كل المحدثين الذين صححوها مرفوعة ، ناهيك عن الذين أوغلوا في أعراض الأمة وعقائدهم لإنكارهم صحة الأسطورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . أسطورة اللطم مرفوعة على سبيل الوهم والنسيان والخلط : الطريق الأول : قال عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ في رواية شاذة يرويها عنه أحمد : حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا بِهِ أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " جَاءَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ لَهُ: أَجِبْ رَبَّكَ " قَالَ: " فَلَطَمَ مُوسَى عَيْنَ مَلَكِ الْمَوْتِ فَفَقَأَهَا "، قَالَ: " فَرَجَعَ الْمَلَكُ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ: إِنَّكَ أَرْسَلْتَنِي إِلَى عَبْدٍ لَكَ لَا يُرِيدُ الْمَوْتَ، وَقَدْ فَقَأَ عَيْنِي " قَالَ: " فَرَدَّ اللهُ عَيْنَهُ وَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى عَبْدِي، فَقُلْ: الْحَيَاةَ تُرِيدُ؟ فَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْحَيَاةَ، فَضَعْ يَدَكَ عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ، فَمَا تَوَارَتْ بِيَدِكَ مِنْ شَعْرَةٍ فَإِنَّكَ تَعِيشُ بِهَا سَنَةً. قَالَ: ثُمَّ مَهْ؟ قَالَ: ثُمَّ تَمُوتُ. قَالَ: فَالْآنَ مِنْ قَرِيبٍ، قَالَ: رَبِّ أَدْنِنِي مِنَ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ " قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَاللهِ لَوْ أَنِّي عِنْدَهُ، لَأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إِلَى جَنْبِ الطَّرِيقِ عِنْدَ الْكَثِيبِ الْأَحْمَرِ ". ( صحيفة همام ص 43 ، مصنف عبد الرزاق 11/274 ، ومسند أحمد ح 8115 ، وصحيح البخاري ح 3407 وصحيح مسلم ح 2372 ، وصحيح ابن حبان 14/117 ) . قلت : نسبة الحديث إلى رسول الله وهم من الإمام عبد الرزاق الصنعاني ، أو من شيخه معمر بن راشد ، فإنهما ثقتان لهما أوهام وأغاليط ، وقد اضطربا في سند هذه الأسطورة الإسرائيلية بين الوقف والرفع. الطريق الثاني: روى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " كَانَ مَلَكُ الْمَوْتِ يَأْتِي النَّاسَ عِيَانًا، قَالَ: فَأَتَى مُوسَى فَلَطَمَهُ فَفَقَأَ عَيْنَهُ، فَأَتَى رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ: يَا رَبِّ عَبْدُكَ مُوسَى، فَقَأَ عَيْنِي، وَلَوْلَا كَرَامَتُهُ عَلَيْكَ لَعَنُفْتُ بِهِ – في لفظ: لَشَقَقْتُ عَلَيْهِ - فَقَالَ لَهُ: اذْهَبْ إِلَى عَبْدِي فَقُلْ لَهُ : فَلْيَضَعْ يَدَهُ عَلَى جِلْدِ - أَوْ مَسْكِ ثَوْرٍ، فَلَهُ بِكُلِّ شَعَرَةٍ وَارَتْ يَدُهُ سَنَةٌ، فَأَتَاهُ فَقَالَ لَهُ: فَقَالَ مَا بَعْدَ هَذَا؟ قَالَ: الْمَوْتُ، قَالَ: فَالْآنَ، قَالَ: فَشَمَّهُ شَمَّةً فَقَبَضَ رُوحَهُ، فَرَدَّ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ عَيْنَهُ ، فَكَانَ يَأْتِي النَّاسَ خُفْيَةً " ( مسند أحمد ح 10904 و ح 10905 ، ومسند البزار 17/68 ، ومستدرك الحاكم 2/232 ، وتاريخ الطبري 1/434 ، وبحر الفوائد / معاني الأخبار للكلاباذي (ص: 354) صححه الحاكم وسكت عنه الذهبي، وصححه ابن تيمية وغيره . وهم مخطئون رحمهم الله ، فحماد بن سلمة إمام له أوهام ، وشيخه عمار بن أبي عمار ثقة يخطئ كما قال ابن حبان ، فلا شك أن هذه الرواية من أوهامهما أو أحدهما ، وفيها زيادة منكرة على روايات طاووس ويونس وهمام ، وهي : (كَانَ مَلَكُ الْمَوْتِ يَأْتِي النَّاسَ عِيَانًا ... ) ، فتأكد عدم الضبط ، ولا مجال لتقوية الرفع بمثل هذه الرواية . الطريق الثالث : روى مُحَمَّدُ بْنُ الْفُضَيْلِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ سَالِمٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: قال أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: أَبُو الْقَاسِمِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَتَى مَلَكُ الْمَوْتِ مُوسَى صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا لِيَقْبِضَ نَفْسَهُ فَلَطَمَهُ لَطْمَةً فَفَقَأَ عَيْنَهُ، فَرَفَعَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى رَبِّهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا صَنَعَ قَالَ: رَبِّ أَتَيْتُ عَبْدًا مِنْ عَبِيدِكَ لَا يُرِيدُ الْمَوْتَ، وَصَنَعَ هَذَا بِعَيْنِي قَالَ: فَرَدَّ اللَّهُ عَيْنَهُ، وَقَالَ: ائْتِ عَبْدِي فَخَبِّرْهُ أَنْ يَضْرِبَ بِيَدِهِ عَلَى جِلْدِ ثَوْرٍ فَمَا وَارَتْ يَدُهُ مِنْ شَعَرٍ فَهُوَ يَعِيشُ بِهَا سَنَةً ثُمَّ يَمُوتُ قَالَ مُوسَى: لَا بَلِ الْآَنَ يَا رَبِّ إِنْ كَانَ لَا بُدَّ، وَلَكِنْ بِالْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ قَالَ: فَدُفِنَ عِنْدَ الْكَثِيبِ الْأَحْمَرِ، وَلَوْ أَنِّي كُنْتُ عِنْدَهُ لَأَرَيْتُكُمْ مَكَانَ قَبْرِهِ " (بحر الفوائد المسمى للكلاباذي (ص: 354) ، وفوائد أبي عبد الله النعالي ) . قلت : حبيب بن سالم مختلف فيه ، وضعفه البخاري جدا ، وله أحاديث منكرة. ثم إنه يروي عن أبي هريرة بواسطة ولم يسمع منه بنفسه ، فالسند منقطع لا يرجح الرفع. احتمال وافتراض : إذا أصر المتعصبة العاطفيون فزعموا أن أبا هريرة كان يرفع القصة حينا ، ويحكيها دون نسبتها إلى رسول الله حينا آخر ، فالجواب هو أن ذلك اضطراب منه رضي الله عنه ناتج عن النسيان والوهم، فيكفي ذلك في تضعيف أسطورته قبل النظر في مضمونها . وقد ثبت أنه كان يجالس كعب الأحبار ويأخذ عنه فيخلط الإسرائيليات بالأحاديث ، وهذه الأسطورة تتعلق بأعظم أنبياء بني إسرائيل ، وكتبهم مشحونة بالأخبار المنكرة المسيئة إلى سيدنا موسى وسائر الأنبياء . فلا شك أن هذه الخرافة من جملة مسموعات أبي هريرة عن كعب الإسرائيلي ، فكان يرويها دون نسبتها إليه لأنه كان مقتنعا بصدقها ، ثم طال عمره فنسي وضعفت ذاكرته فصار ينسبها إلى رسول الله ، وهو عليه السلام بريئ منها لقبح مضامينها . المعلمي يسبقنا للقول بوقف الأسطورة : قال العلامة عبد الرحمن المعلمي في "الأنوار الكاشفة" (ص: 219) : أقول : القصة على ما ذكر هنا من كلام أبي هريرة ، وإنما الذي من كلام النبي صلى الله عليه وسلم قوله : «فلو كنت ثم الخ» وليس فيه ما يستشكل. ه أي أن المعلمي اليمني رحمه الله يفرق بين الجملة الأخيرة فيعدُّها حديثا ، وبين قصة اللطم فيراها كلاما لأبي هريرة ، وهذا الرأي مؤيد بفصل أصح الطرق بين المقطعين ، لكن يشوش عليه أنه يحتاج لسبب ورود الجزء المرفوع ، فالسياق يدل على أنه قيل بعد حكاية قصة ما . ثم وقفت على هذا الطريق فبان الخلل: قال الإمام البزار في مسنده ح 9339: حَدَّثَنا الحُسَين بْنُ مَهْدِيٍّ أَخْبَرنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرنَا مَعْمَرٌ عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: لو كنت عند الكثيب الأحمر لأريتكم قبر موسى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وهذا إسناد صحيح ، فظهر أن النبي حدد قبر سيدنا موسى عند كثيب أحمر بسيناء ، وقد عرّفه به سيدنا جبريل ليلة الإسراء ، فقال عليه الصلاة والسلام يقول لأصحابه بعد ذلك: ( لو كنت عند الكثيب الأحمر لأريتكم قبر موسى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ). ثم كان أبو هريرة يحكي خرافة اللطم التي سمعها من كعب الأحبار فصدّقها ، وبعد الفراغ منها يذكر قول رسول الله لتحديد مكان القبر ، فظن عبد الرزاق أو معمر رحمهما الله أن الحديث جزء من الأسطورة ، فكان ينسبها إلى رسول الله توهما. والحديث عن الكثيب الأحمر جاء مفصولا عن الخرافة في غالب الروايات ، وورد منفردا بلا تلك القصة الخرافية عند البزار وغيره . فتأكد ما قلناه . ويا ليت العلماء جعلوا الخرافة موقوفة على أبي هريرة ، فإن تصديق الصحابي للأساطير مقبول شرعا وعقلا ، ولا يقدح في النبوة والدين . موقف العلماء من الحديث / الأسطورة اليهودية : هذه الخرافة حديث نبوي صحيح مليح فصيح عند كافة علمائنا السنة من المحدثين والفقهاء والمؤرخين ، لكنهم انقسموا بخصوص تفسيره على رأيين : الرأي الأول : أمَرُّوه على ظاهره ، ومنعوا تأويله ، فكل ألفاظه حقيقة لا مجاز ، أي أن سيدنا موسى فقأ عين الملك حقيقة ، وأن الله ردها كما كانت. الرأي الثاني : أولوا الحديث ، فالعين عندهم هي الحجة ، ومعنى "فقأ" : أي أبطلها ، وردُّ الله لها معناه تقوية حجة الملك . فيكون أصحاب الرأي الثاني من جملة منكري بعض الحديث . وكلاهما متفقان على تبديع وتضليل منكر نسبة هذا الحديث / الخرافة إلى رسول الله ، بل أوغل بعضهم في التجني على الله ورسوله ، فعدوا منكر هذه السخافة ملحدا ، فأسسوا بذلك لثقافة التطرف والتكفير ، والله يغفر لهم هذه الجريمة الشنعاء في حق الدين والأمة . ونحن نؤمن بالغيب وبقدرة الله على كل شيء ، لكن مضمون هذا الخبر السخيف ليس من الغيب الذي أمرنا بتصديقه ، وإنكاره ليس إنكارا لقدرة الله ولا تكذيبا بسنة رسول الله ، بل هو إنكار للعبث والسخف والتخريف الذي ألصقه الرواة بالله ورسوله وأنبيائه ودينه . ومن عدّنا ملحدين أو ضالين أو مبتدعين ، فهو الضال الهالك لا محالة ، لأننا ننفي الخبث عن رسول الله ، ونحصن عقول شبابنا من الأساطير ، ونمنع المبشرين بالإلحاد أو التنصير من استغلال حماقات الرواة وأساطيرهم في إضلال شباب الأمة. ولا أعلم أحدا أنكر هذه الخرافة قبل العلامة محمد الغزالي في كتابه النفيس : "السنة بين أهل الفقه وأهل الحديث" ، لكنه كان مترددا في تضعيفها مقرا بصحة سندها ، والرجل رحمه الله لم تكن له دراية كبيرة بعلوم الحديث ، لذلك كان يتردد. وفي شروح علمائنا للحديث نسبة إنكار الخرافة للملاحدة وأهل البدع ، وهم يقصدون المعتزلة وكل العقلانيين المسلمين من الفلاسفة . وقبح الله هذا الظلم والإرهاب الفكري ، فهؤلاء الذين أنكروا القصة إنما كذبوا صحة نسبتها إلى رسول الله لأنها معارضة للقرآن منافرة للعقل مسيئة للأنبياء ، فهم مؤمنون لا ملاحدة ، مهتدون لا ضالون مبتدعة . وعلماؤنا غفر الله لهم ، قديما وحديثا ، يوغلون في الطعن على عقائد المخالفين من باب الإرهاب عند العجز عن مواجهة الحجة بالبرهان. فكيف أجازت لهم نفوسهم الحكم بإلحاد أقوام ، كانوا حريصين على تبرئة مقام النبوة من الأساطير المنكرة ، لو لم يكونوا عاجزين عن الإقناع والبرهنة؟ نكارات الأسطورة اليهودية : مناقضة كتاب الله : قال الله جل وعلا في آخر سورة "المنافقون" : ( وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) تدل الآية على أن أجل الموت لا يتأخر ، وكلمة "نفسا" جاءت نكرة في سياق النفي ، فتشمل الأنبياء وغيرهم ، فلا مجال لاستثنائهم من القاعدة . وأسطورة "اللطم" تعارض هذه الحقيقة القرآنية من جهتين : الأولى : الفاصل الزمني الذي رجع فيه ملك الموت إلى الله ثم إلى موسى حسب الأسطورة ، يعتبر تأخيرا في الأجل مهما كان قصيرا ، وما أجاب به علماؤنا على هذه النقطة ضعيف ، لأنهم افترضوا أن ملك الموت جاء بدون إذن من الله ، متجاهلين أن الملائكة لا تتصرف إلا وفق أمر الله ، فأساؤوا إلى ملك كريم حفظا لهيبة الرواة . الثانية : إذا وضع سيدنا موسى يده على جلد ثور فإن عدد الشعرات سيتجاوز الألف حتما ، أي أن الله سبحانه كان مستعدا لتأخير أجل سيدنا موسى ألف سنة وزيادة ، وهو نقض لوعده وحكمه القرآني المنسحب على أوائل البشر وأواخرهم. ولا يقال هنا : إن الله سبحانه كان عالما بأن موسى عليه السلام لن يختار التأخير لذلك خيره. فالجواب : إن الله سبحانه لا يعبث ولا يلعب ولا يخادع، والتخيير مع الفرض والإكراه على خيار محدد عبث ولعب وخداع يتنزه عنه الباري سبحانه. ثم إن المعلق على الممكن ممكن عند المناطقة وعلماء الكلام. وقد علق الله تعالى ، حسب الأكذوبة ، تأجيل موت كليمه على اختياره ، وميل موسى إلى هذا الاختيار كان ممكنا ، أي أن تغيير أجله كان ممكنا ، وهو نقض لقوانين الله وعدله لا لقدرته وجبروته سبحانه . والغريب أن علماءنا يروون في صحاحهم أسطورة عن تنازل سيدنا آدم لفائدة سيدنا داود عن أربعين سنة من عمره الذي كان محددا في ألف عام، فلما بلغ أبونا آدم تسعمئة وستين ، جاءه ملك الموت ، فرفض تسليم نفسه لأنه نسي الأربعين حتى ذكّره الله جل جلاله فاستسلم . ونحن نسأل : لماذا لم يخير ربنا أبانا آدم بين الموت والتأخير ؟ ألم يكن أولى بذلك من موسى لأنه تبرّع حسب أسطورة اليهود لثاني عظماء أنبيائهم ؟ مناقضة السنة الصحيحة: قَالَتْ أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّهُ لَمْ يُقْبَضْ نَبِيٌّ حَتَّى يَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الجَنَّةِ، ثُمَّ يُخَيَّرَ» رواه الشيخان. فهمُنا للحديث على ضوء القرآن هو أن الله تعالى خص أنبياءه بأجلين أدنى وأقصى ، وأنه يخيرهما عند اقتراب الأول بين القبض فيه أو التأخير إلى الأجل الثاني ، فيختارون الأول . وبالنظر إلى أن ملك الموت لا يمكن أن يأتي لقبض روح النبي إلا بعد أن يخيره الله بين الأجل الأول والأجل الثاني ، لأنه يفعل ما يأمره به الله ولا يجتهد من عنده ، فإن الحديث أسطورة منقوضة بحديث مولاتنا عائشة . كيف ذلك . دلّت الأسطورة على أن ملك الموت جاء لقبض روح سيدنا موسى قبل تخيير الله له بين الأجلين الأدنى والأقصى، أي أنه اجتهد وتقدم على الله ، وذلك عصيان عصم الله منه ملائكته عامة ، وملك الموت خاصة لخطورة مهمته . فإما أن خرافة اللطم صحيحة فيكون ملك الموت عاصيا ، أو أن تخيير الأنبياء غير صحيح فيبطل حديث أم المؤمنين ، أو أن قصة اللطم أسطورة يهودية مكذوبة على نبي الله موسى عليه السلام ، تم تلفيقها لنبينا صلوات الله عليه ، وهذا هو المتيقن عندنا . مناقضة خلق الأنبياء: أنبياء الله أهل أدب وخلق حسن إلا عند ملاعين بني إسرائيل ، فلا يضربون ضيوفهم بل يكرمونهم ولو كانوا منكرين كما فعل سيدنا إبراهيم مع الملائكة الذين دخلوا عليه في صور رجال قبل أن يعرّفوه بأنفسهم. ومن صفات الأنبياء أنهم يشتهون لقاء الله ، ولا يخشون الموت أو يفرون منه ، ولا يحرصون على الحياة على عادة اليهود لأن الدنيا سجن المؤمن . وفي الصحيح : "مَنْ أحَبَّ لِقَاءَ اللهِ، أحَبَّ اللهُ لِقَاءَهُ، ومَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللهِ، كَرِهَ اللهُ لِقَاءَهُ". وهذه الأسطورة الإسرائيلية تقدم لنا سيدنا موسى على أنه شخص همجي متوحش ، يدعوه مخلوق لإجابة ربه فيلطمه قبل أن يتأكد هل ملك أم شيطان أم رجل وقبل أن يسأل عن القصد من الإجابة. هذا إذا صدقنا تأويلات علمائنا السخيفة ، والواقع أن ألفاظ الرواية المكذوبة صريحة في أنه عرفه قبل أن يلطمه ، وإلا فلماذا شكاه ملك الموت وأخبر الله أنه لا يريد الموت فخيره الله بين الموت في الحال أو التأخير. ويستشهد علماؤنا على سخف تأويلهم بما ذكره القرآن عن قتل سيدنا موسى للرجل من آل فرعون ، وبقبضه أخاه سيدنا هارون من لحيته ، فيمعنون في قلة الحياء والأدب زاعمين أنه كان إنسانا حادا مزاجيا فلا يستغرب رد فعله تجاه ملك الموت . انظر ماذا يفعل تقديس الرواة وأخبارهم بالعلماء الكبار . إن الرجل الذي وكزه سيدنا موسى فقضى عليه كان مجرما ، نفهم من سياق القصة أنه أراد أن يبطش بموسى فوكزه في صدره لصده ودفعه ، فصادف الوكز أجل المجرم فمات دون قصد من نبي الله ، لكنه حسب القانون يعتبر قاتلا كما لو رمى أحدنا حبة حمص على رجل فمات . فأين الحدة والاندفاع هنا ؟ أما قصته مع هارون عليه السلام ، فإن بني إسرائيل عبدوا العجل في غيبة موسى ، ولم يستطع أخوه إقناعهم بالتوحيد ، ولم يهجرهم ويلحق بموسى حسب وصيته المأخوذة من ظاهر قوله له : ( قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلاَّ تَتَّبِعَنِي أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي؟ ). وبتأمل القصة أكثر ، نفهم أن سيدنا موسى أخذ برأس أخيه ليكلمه على انفراد على سبيل التحقيق ، ولم يكن ذلك تعنيفا منه أو إيلاما كما يفهم المعتمدون على الخرافات اليهودية ، ففي قصته يقول الله تعالى : ( وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ: بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِي، أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ؟ وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ، قَالَ: ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ، قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ). وفي آية أخرى : ( قَالَ: يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي، إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي). أي أنه قال له : يا أخي ، لا تضع يدك على رأسي ولا تقبض على لحيتي فيظن الشامتون أنك تهينني وتضربني فيطربون لذلك . ولو فرضنا أن سيدنا موسى قصد التعنيف على أخيه ، فالسلوك في مثل هذه الظروف سائغ جدا ، وليس فيه ما يدل على حدة سيدنا موسى أو هيجان نفسه لأتفه الأسباب كما يصوره مقدسة الخرافات. إن رائحة الاختلاق اليهودي واضحة ظاهرة ، فهم القوم الحريصون على الحياة أي حياة كما أخبرنا الله – (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ). وقد كذبوا على كليم الله ليستدلوا بقصته على استقامة حرصهم وطهارة طبعهم. مناقضة العقل الإسلامي: "العقل" هو نتاج الأفكار والمعتقدات التي يؤمن بها الإنسان، ولذلك فلكل أهل دين عقلهم الخاص بهم. ونحن المسلمين لنا "عقل إسلامي" قادر على تحليل الأخبار والروايات لتمييز الثابت من المكذوب. وإذا عرضنا خرافة لطم الملك على عقلنا الإسلامي ظهر زيفها ، وهو ما لم يفعله علماؤنا لأن قداسة الأسانيد الصحيحة حجبت عقولهم. فكيف نبطل الأسطورة بالعقل الإسلامي ؟ الوجه الأول : ثبت لدينا نحن المسلمين ، ومعنا كل أهل الكتاب ، أن الملائكة مخلوقات نورانية ، وأنها قادرة على التشكل والتمثل في صور البشر ، والصور المتحركة التي أضواء تقرب المسألة جدا جدا . وتقرّر أن الملائكة لا تتحول إلى أجسام مادية من لحم ودم وعظم عندما تتشكل في صورة البشر، فهي خيال ومثال فقط. وبناء على هذه المقررات لا يكون للطم أي أثر مادي محسوس على فرض التسليم بقصة سيدنا موسى. إن الخرافة تزعم أن الملك تأّلم جدا حتى كاد يعنّف على كليم الله ، وتدعي أن عين الملك خرجت من مكانها ولم ترجع إلا بعدما أعاده الله تعالى عما يقول المجسّمون علوا كبيرا. وقد تخبّط علماؤنا في الرد على هذا الإشكال وتناقضوا وجاؤوا بالخرافات والعجائب. الوجه الثاني : تزعم الأسطورة أن ملك الموت كان يأتي الناس عيانا في صورة رجل قبل أن يلطمه سيدنا موسى . ويلزم من هذا أن الناس ، مشركين ومؤمنين ، كانوا يعرفون ملك الموت. ويلزم منه أيضا أن الناس كانوا يعلمون بموت أقاربهم ، وأن الموتى كانوا يعلمون آجالهم قبل قبض أرواحهم. ويلزم منه أنه كان يتجلى لآلاف أو مئات المقاتلين ، فيعلم الذين سيقتَلون مصارعهم ، وبذلك يفشلون ويستسلمون. وكل هذه اللوازم مرفوضة بمعايير العقل الإسلامي . فالقصة غير معقولة دينا ، ثم غير معقولة علما . الوجه الثالث : نفهم من جملة : ( قَالَ: أَيْ رَبِّ، ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: ثُمَّ المَوْتُ، قَالَ: فَالْآنَ ) ، أن موسى عليه السلام لم يكن متأكدا من حتمية الموت ، وهذا معنى منكر جدا يستحيل أن يصدر من بشر أحمق فكيف من عاقل بله واحد من أولي العزم ؟ مناقشة أقوال خرافية لعلمائنا لإثبات الأسطورة: قالوا بالحرف ، فنستر الأسماء تأدبا: وَقَدْ أَنْكَرَ بَعْضُ الْمَلَاحِدَةِ هَذَا الْحَدِيثَ وَأَنْكَرَ تَصَوُّرَهُ ، قَالُوا: كَيْفَ يَجُوزُ عَلَى مُوسَى فَقْءُ عَيْنِ مَلَكِ الْمَوْتِ؟ قَالَ: وَأَجَابَ الْعُلَمَاءُ عَنْ هَذَا بِأَجْوِبَةٍ، أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قد أذن اللَّهُ تَعَالَى لَهُ فِي هَذِهِ اللَّطْمَةِ وَيَكُونَ ذَلِكَ امْتِحَانًا لِلْمَلْطُومِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَفْعَلُ في خلقه ما شاء وَيَمْتَحِنُهُمْ بِمَا أَرَادَ. وَالثَّانِي: أَنَّ هَذَا عَلَى الْمَجَازِ وَالْمُرَادُ أَنَّ مُوسَى نَاظَرَهُ وَحَاجَّهُ فَغَلَبَهُ بِالْحُجَّةِ ، وَيُقَالُ: فَقَأَ فُلَانٌ عَيْنَ فُلَانٍ إِذَا غالبه بالحجة، ويقال عوّرت الشيء إِذَا أَدْخَلْتُ فِيهِ نَقْصًا. قَالَ: وَفِي هَذَا ضَعْفٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( فَرَدَّ اللَّهُ عَيْنَهُ ) فَإِنْ قِيلَ: أَرَادَ رَدَّ حُجَّتَهُ كَانَ بَعِيدًا . وَالثَّالِثُ أَنَّ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ مَلَكٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ، وَظَنَّ أَنَّهُ رَجُلٌ قَصَدَهُ يُرِيدُ نَفْسَهُ فَدَافَعَهُ عَنْهَا فَأَدَّتِ الْمُدَافَعَةُ إِلَى فَقْءِ عَيْنِهِ لَا أَنَّهُ قَصَدَهَا بِالْفَقْءِ ، وَتُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ صَكَّهُ ، وَهَذَا جَوَابُ الْإِمَامِ أَبِي بَكْرِ بْنِ خُزَيْمَةَ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ ، وَاخْتَارَهُ الْمَازِرِيُّ وَالْقَاضِي عِيَاضٌ، قَالُوا: وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ تَعَمَّدَ فَقْءَ عَيْنِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدِ اعْتَرَفَ مُوسَى حِينَ جَاءَهُ ثَانِيًا بِأَنَّهُ مَلَكُ الْمَوْتِ ، فَالْجَوَابُ أَنَّهُ أَتَاهُ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ بِعَلَامَةٍ عَلِمَ بِهَا أَنَّهُ مَلَكُ الْمَوْتِ فَاسْتَسْلَمَ ، بِخِلَافِ الْمَرَّةِ الْأُولَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ . والجواب على هذه السخافات من وجوه : أولا : وصف منكري الأساطير بالإلحاد جريمة شنيعة ، وسنة سيئة جرأت الرعاع على المجتهدين في كل زمان ، فتتحملون المسئولية عن فاحشة التكفير المتفشية في الأمة . ثانيا : كيف عرفتم أن الله سبحانه أذن لموسى في اللطم امتحانا للملك ؟ في أي لفظة وجدتم هذا الاحتمال السخيف ؟ ومتى كان الملائكة يمتحنون ؟ ولماذا لم يخبر الله الملك بأنه امتحنه ، ولم يخبرنا هل نجح أم رسب في النهاية ؟ ثالثا : الملك حسب أسطورتكم كان يأتي الناس عيانا ، فيكون معروفا عند سيدنا موسى من باب أولى ، ثم إنه قال له : "أجب ربك" ، وهي كلمة تعني الموت غالبا ، ثم إن سيدنا موسى لم يعتذر ولم يحتج بجهل الداخل عليه ، والملك لم يشر إلى ذلك في شكواه لله سبحانه ، والله المتعالي لم يذكر للملك عذر الجهل ، وليس في الخرافة أي إشارة إلى ذلك ، فإذا كان هذا حديثا صحيحا ، فلم تكذبون على الله والملك والنبي ، فتزعمون أن موسى لم يعرف أن المخاطب هو ملك الموت ؟ رابعا : كيف عرفتم أن الملك كان مصحوبا بعلامة خاصة في المرة الثانية ؟ أين هي اللفظة الدالة على ذلك ؟ أم هو العناد والتكلف ؟ وَقَالَ إمام آخر : ظَهَرَ لِي وَجْهٌ حَسَنٌ يَحْسِمُ مَادَّةَ الْإِشْكَالِ ، وَهُوَ أَنَّ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَرَفَ مَلَكَ الْمَوْتِ فَلَطَمَهُ فَانْفَقَأَتْ عَيْنُهُ امْتِحَانًا ، وَأَنَّهُ جَاءَ لِيَقْبِضَ رُوحَهُ لَكِنَّهُ جَاءَ مَجِيءَ الْجَازِمِ بِأَنَّهُ قَدْ أُمِرَ بِقَبْضِ رُوحِهِ مِنْ غَيْرِ تَخْيِيرٍ ، وَعِنْدَ مُوسَى مَا قَدْ نَصَّ عَلَيْهِ نَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَقْبِضُ رُوحَ نَبِيٍّ حَتَّى يُخَيِّرَهُ فَلَمَّا جَاءَهُ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي أُعْلِمَ بِهِ ، بَادَرَ بِشَهَامَتِهِ وَقُوَّةِ نَفْسِهِ إلَى أَدَبِ مَلَكِ الْمَوْتِ ، فَلَطَمَهُ فَانْفَقَأَتْ عَيْنُهُ امْتِحَانًا لِمَلَكِ الْمَوْتِ، إذْ لَمْ يُصَرِّحْ لَهُ بِالتَّخْيِيرِ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا أَنَّهُ لَمَّا رَجَعَ إلَيْهِ مَلَكُ الْمَوْتِ فَخَيَّرَهُ بَيْنَ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ اخْتَارَ الْمَوْتَ وَاسْتَسْلَمَ هَذَا الْوَجْهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ أَصَحُّ مَا قِيلَ فِيهِ وَأَسْلَمُ اه والجواب بعد الاستغفار لصاحب هذا التخريف والترحم عليه : أولا : إذا كان ملك الموت قد أخطأ ، فمن أعطى سيدنا موسى حق تأديبه بالصفع ؟ ألم يكفه أن يذكره بأن الأنبياء يخيرون ؟ أم أن موسى بشر همجي ؟ أم أن الملك من النوع الذي لا يتأدب إلا باللطم ؟ ثانيا : إذا كان الملك الكريم أخطأ ، فلماذا لم يعاتبه الله سبحانه ؟ ثالثا : أين عقولكم من هذه الآية عن الملائكة : ( لا يعصون الله ما أمرهم ، ويفعلون ما يؤمرون ) ؟ إنها صريحة في أن ملك الموت لم يأت لقبض روح موسى إلا بأمر من الله ، فما دهاكم عنها ؟ وقد ناقشنا حديث التخيير وأوضحنا معناه على ضوء كتاب الله . وقَالَ إمام كبير : إِنَّمَا لَطَمَ مُوسَى مَلَكَ الْمَوْتِ لِأَنَّهُ رَأَى آدَمِيًّا دَخَلَ دَارَهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ ، وَلَمْ يَعْلَمْ أَنه ملك الْمَوْت ، وَقد أَبَاحَ الشَّارِع فقء عَيْنِ النَّاظِرِ فِي دَارِ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ إِذْنٍ ، وَقَدْ جَاءَتِ الْمَلَائِكَةُ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِلَى لُوطٍ فِي صُورَةِ آدَمِيِّينَ فَلَمْ يَعْرِفَاهُمِ ابْتِدَاءً ، وَلَوْ عَرَفَهُمْ إِبْرَاهِيمُ لَمَا قَدَّمَ لَهُمُ الْمَأْكُولَ ، وَلَوْ عَرَفَهُمْ لُوطٌ لَمَا خَافَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَوْمِهِ . ه يقولون هذا الكلام وليس في القصة ما يشير من قبيل أو من بعيد إلى أن موسى كان في بيت ، إذ يحتمل أنه كان في فضاء الصحراء، ومع الاحتمال لا يبقى إلا الخيال . ثم إنهم لا يملكون دليلا على عدم استئذان ملك الموت على فرض التسليم بأن كليم الله كان بين الجدران . هذا ، وملك الموت يأخذ الإذن من الله سبحانه وليس من الناس . ولو كان رد فعل سيدنا موسى ناتجا عما ذكروا ، لعاتب الله ملك الموت وحذره من عدم الاستئذان مرة أخرى ، ولاعتذر سيدنا موسى بعدم تمييز الملك. وقد تسور الملائكة محراب داود ، ودخلوا على إبراهيم ثم لوط عليهم السلام ، ولم يكن لديهم إذن إلا من الله العلي القدير ، فما أنكر عليهم هؤلاء الرسل ، فلم تخصون سيدنا موسى بهذا التصرف الهمجي ؟ والحق أن ألفاظ الأسطورة دالة على أن موسى عرف ملك الموت ، فأظهر عدم رغبته في تلبية نداء الله ، لذلك تم تخييره ، فلما أدرك أن الموت لاحقه لا محالة ، استسلم لأجله . إنكم تنسبون سوء الأدب لملك الموت ، وتخشون إلصاق النسيان والوهم والخطأ بأبي هريرة أو الرواة عنه ، فكيف تحكمون ؟ وقال أحدهم ظانا أنه حل الإشكال : ( وجه الحديث عندي أن موسى عليه السلام كان من الدنيا في دار عبادة وخدمة ، فجاء ملك الموت لينقله إلى دار راحة ونعمة، فكره أن يراه الله تعالى مسرعًا إلى الخلاص من خدمة ربه ... فلطم ملك الموت... فلو كان موسى عليه السلام إنما فرق من الموت لقبل ما أنعم به عليه من كثرة السنين...) قلت : سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم . لم ينزعج أي نبي أو رسول من الموت إلا سيدنا موسى ، ولم يرغب في طول الحياة حياء من التظاهر بالإسراع للخلاص من الدنيا إلا سيدنا موسى . ثم إن مقولة الملك – حسب خرافتكم : ( أَرْسَلْتَنِي إِلَى عَبْدٍ لاَ يُرِيدُ المَوْتَ ) ، وعرضُ الزيادة في الأجل صريحان فصيحان في أن المسألة لا علاقة لها بهذا التفسير المتعسف المتكلف . فيا ليتهم وقفوا عند ظواهر الأسطورة ومدلولات ألفاظها . [email protected]