المصادقة على 216 نصا قانونيا خلال سنة 2024    الغموض يحوم حول مصير اشتراكات وتعويضات 3 ملايين منخرط سيتم ترحيلهم عنوة لنظام AMO الحكومة صادقت على نسخة معدلة تضحي بمنخرطي كنوبس مقابل إنقاذ التعاضديات من الانقراض    التصفيات المؤهلة لكأس إفريقيا لكرة السلة 2025.. المنتخب المغربي يدخل معسكرا تحضيريا    مواطنون يشتكون من "نقطة سوداء" أمام كلية العلوم بطنجة دون استجابة من السلطات    افتتاح الدورة 25 لمهرجان الأرز العالمي للفيلم القصير بإفران    أسعار الغذاء العالمية ترتفع لأعلى مستوى في 18 شهرا    لقاء يجمع وهبي بجمعية هيئات المحامين    هولندا.. إيقاف 62 شخصا للاشتباه في ارتباطهم بشغب أحداث أمستردام    نهاية أزمة طلبة الطب والصيدلة: اتفاق شامل يلبي مطالب الطلبة ويعيدهم إلى الدراسة    الحكومة: سيتم العمل على تكوين 20 ألف مستفيد في مجال الرقمنة بحلول 2026    امستردام .. مواجهات عنيفة بين إسرائيليين ومؤيدين لفلسطين (فيديو)    دوري الأمم الأوروبية.. دي لا فوينتي يكشف عن قائمة المنتخب الإسباني لكرة القدم    من مراكش.. انطلاق أشغال الدورة الثانية والعشرين للمؤتمر العالمي حول تقنية المساعدة الطبية على الإنجاب    هذه الحصيلة الإجمالية لضحايا فيضانات إسبانيا ضمن أفراد الجالية المغربية    المغرب يشرع في استيراد آلاف الأطنان من زيت الزيتون البرازيلي    "إل جي" تطلق متجرا إلكترونيا في المغرب    ظاهرة "السليت والعْصِير" أمام المدارس والكلام الساقط.. تترجم حال واقع التعليم بالمغرب! (فيديو)    بيع أول لوحة فنية من توقيع روبوت بأكثر من مليون دولار في مزاد    الحجوي: ارتفاع التمويلات الأجنبية للجمعيات بقيمة 800 مليون درهم في 2024    توقعات أحوال الطقس ليوم غد السبت    بورصة البيضاء تستهل التداول بأداء إيجابي    بعد 11 شهرا من الاحتقان.. مؤسسة الوسيط تعلن نهاية أزمة طلبة كلية الطب والصيدلة    هزة أرضية خفيفة نواحي إقليم الحوز    "أيا" تطلق مصنع كبير لمعالجة 2000 طن من الفضة يوميا في زكوندر        نقطة واحدة تشعل الصراع بين اتحاد يعقوب المنصور وشباب بن جرير    مصدر من داخل المنتخب يكشف الأسباب الحقيقية وراء استبعاد زياش    الهوية المغربية تناقَش بالشارقة .. روافدُ وصداماتٌ وحاجة إلى "التسامي بالجذور"    كوشنر صهر ترامب يستبعد الانضمام لإدارته الجديدة    الجولة ال10 من البطولة الاحترافية تنطلق اليوم الجمعة بإجراء مبارتين    طواف الشمال يجوب أقاليم جهة طنجة بمشاركة نخبة من المتسابقين المغاربة والأجانب    الجنسية المغربية للبطلان إسماعيل وإسلام نورديف    بحضور زياش.. غلطة سراي يلحق الهزيمة الأولى بتوتنهام والنصيري يزور شباك ألكمار    رضوان الحسيني: المغرب بلد رائد في مجال مكافحة العنف ضد الأطفال    ارتفاع أسعار الذهب عقب خفض مجلس الاحتياطي الفدرالي لأسعار الفائدة    كيف ضاع الحلم يا شعوب المغرب الكبير!؟    تحليل اقتصادي: نقص الشفافية وتأخر القرارات وتعقيد الإجراءات البيروقراطية تُضعف التجارة في المغرب        تقييد المبادلات التجارية بين البلدين.. الجزائر تنفي وفرنسا لا علم لها    طوفان الأقصى ومأزق العمل السياسي..    إدوارد سعيد: فلاسفة فرنسيون والصراع في الشرق الأوسط    متوسط عدد أفراد الأسرة المغربية ينخفض إلى 3,9 و7 مدن تضم 37.8% من السكان    حظر ذ بح إناث الماشية يثير الجدل بين مهنيي اللحوم الحمراء    طلبة الطب يضعون حدا لإضرابهم بتوقيع اتفاق مع الحكومة إثر تصويت ثاني لصالح العودة للدراسة    خمسة جرحى من قوات اليونيفيل في غارة إسرائيلية على مدينة جنوب لبنان    المنصوري: وزراء الPPS سيروا قطاع الإسكان 9 سنوات ولم يشتغلوا والآن يعطون الدروس عن الصفيح    إسبانيا تمنع رسو سفن محملة بأسلحة لإسرائيل في موانئها    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    جرافات الهدم تطال مقابر أسرة محمد علي باشا في مصر القديمة    "المعجم التاريخي للغة العربية" .. مشروع حضاري يثمرُ 127 مجلّدا بالشارقة    قد يستخدم في سرقة الأموال!.. تحذير مقلق يخص "شات جي بي تي"    الرباط تستضيف أول ورشة إقليمية حول الرعاية التلطيفية للأطفال    وزارة الصحة المغربية تطلق الحملة الوطنية للتلقيح ضد الأنفلونزا الموسمية    خبراء أمراض الدم المناعية يبرزون أعراض نقص الحديد    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    برنامج الأمم المتحدة المشترك المعني بالسيدا يعلن تعيين الفنانة "أوم" سفيرة وطنية للنوايا الحسنة    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رحلة الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى
نشر في أخبارنا يوم 08 - 05 - 2016

بدأت مراسم رحلة الإسراء بعد عملية شقِّ الصدر مباشرة، وكان هذا في جوف الليل، حيث روى البيهقي عن شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ بإسناد صحيح قَالَ: "قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ أُسْرِيَ بِكَ؟" قَالَ: "صَلَّيْتُ لأَصْحَابِي صَلاَةَ الْعَتَمَةِ بِمَكَّةَ مُعْتَمًّا، وَأَتَانِي جِبْرِيلُ عليه السلام.."، والمفترض أن صلاة العتمة هي صلاة العشاء؛ ولكن حيث إن صلاة العشاء كما نعرفها لم تكن قد فُرِضت بعدُ؛ حيث إنها ستُفرض في رحلة المعراج كما هو مشهور، فإنَّ المقصود هنا من صلاة العتمة هو الركعتان اللتان يصليهما المسلمون في المساء؛ حيث كانت صلاة الفرض قبل الإسراء والمعراج عبارة عن ركعتين بالصباح وركعتين بالمساء، ولقد سُمِّي الإسراء بذلك لأن السرى هو السير ليلاً، وقد صرَّح بذلك ربُّ العالمين في القرآن الكريم فقال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً..} [الإسراء: 1]، وأضاف كلمة "ليلاً" للدلالة على أن السرى حدث في جزء من الليل، وليس في كامل الليلة، وهذا أبلغ في الإعجاز.

البراق .. وسيلة الانتقال:
بدأت عملية الإسراء، وهي الانتقال من المسجد الحرام بمكة إلى المسجد الأقصى ببيت المقدس بتوفير وسيلة الانتقال، وهي دابَّة ليست من دوابِّ الأرض اسمها البُرَاق! روى مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أُتِيتُ بِالْبُرَاقِ، وَهُوَ دَابَّةٌ أَبْيَضُ طَوِيلٌ فَوْقَ الْحِمَارِ، وَدُونَ الْبَغْلِ، يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ". قَالَ: "فَرَكِبْتُهُ حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ".

وفي رواية للترمذي عنْ أَنَسٍ رضي الله عنه "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِالبُرَاقِ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ مُلْجَمًا مُسْرَجًا، فَاسْتَصْعَبَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: أَبِمُحَمَّدٍ تَفْعَلُ هَذَا؟ فَمَا رَكِبَكَ أَحَدٌ أَكْرَمُ عَلَى اللهِ مِنْهُ. قَالَ: فَارْفَضَّ عَرَقًا"، وعند البيهقي عن شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رضي الله عنه بإِسْنَادٍ صَحِيح قَالَ: "وَأَتَانِي جِبْرِيلُ عليه السلام بِدَابَّةٍ بَيْضَاءَ فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ، فَقَالَ: ارْكَبْ فَاسْتَصْعَبَتْ عَلَيَّ، فَدَارَهَا بِأُذُنِهَا، ثُمَّ حَمَلَنِي عَلَيْهَا".

وفي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عند البيهقي في الدلائل، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عند ابن اسحاق قال: "فَإِذَا أَنَا بِدَابَّةٍ أَدْنَى، شَبِيهَةً بِدَوَابِّكُمْ هَذِهِ، بِغَالِكُمْ هَذِهِ، مُضْطَرِبُ الأُذُنَيْنِ، يُقَالُ لَهُ: الْبُرَاقُ، وَكَانَتِ الأَنْبِيَاءُ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ تَرْكَبُهُ قَبْلِي"، وفي مسند الحارث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أُتِيتُ بِالْبُرَاقِ وَهُوَ دَابَّةٌ أَبْيَضُ مُضْطَرِبُ الأُذُنَيْنِ فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ فَرَكِبْتُهُ".

ومن هذه الروايات نرى أن جبريل عليه السلام جاء النبي صلى الله عليه وسلم بدابَّة بيضاء، وهي أكبر من الحمار وأصغر من البغل، والواقع أن الفرق ليس كبيرًا في الحجم بين الحمار والبغل، ومع ذلك ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم هذا التقدير ليُؤَكِّد أنه يصف دابَّة معينة رآها وركبها، فليس هنا مجال لافتراض أن الأمر كان مجرَّد رؤيا، وقد وصفه كما في رواية الحارث- بأنه مضطرب الأذنين؛ أي أن الأذنين ممشوقتان طويلتان بلا لحم كثير، كما وصف موقفًا غريبًا حدث له عند الركوب، وهو أن الدابَّة نفرت واستصعب ركوبها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتدخَّل جبريل عليه السلام ليسوس الدابَّة، فأمسك بأذنها -أو فدارها كما تقول الرواية- ثم خاطبها خطاب العقلاء، فقال لها: "أَبِمُحَمَّدٍ تَفْعَلُ هَذَا؟ فَمَا رَكِبَكَ أَحَدٌ أَكْرَمُ عَلَى اللهِ مِنْهُ". فسال عرق الدابة خجلاً ورهبة، فهي دابة تفهم الكلمات ومعانيها، ولعلَّ سبب نفورها في البداية أنها لم تُرْكَب منذ عدَّة قرون؛ حيث إنها خاصة بالأنبياء، وقد فَصَل بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعيسى عليه السلام ستة قرون كاملة، وفي هذا الكلام من جبريل عليه السلام تطمين منه لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه مُقبلٌ على رحلة تكريمية، وقد أرسل له الكريم سبحانه سيد الملائكة جبريل مع هذه الدابَّة العجيبة. ثم وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم سرعة الدابَّة الفائقة فوَضَّح أنها تضع قدمها عند منتهى بصرها، والله أعلم بحِدَّة بصرها! ورسول الله صلى الله عليه وسلم هنا يصف السرعة الحقيقية للدابَّة، كما أنه يُمهِّد السامع نفسيًّا لاستيعاب رحلة الإسراء العجيبة إلى بيت المقدس؛ خاصة أنها لم تكن رحلة مباشرة، إنما تَوَقَّف رسول الله صلى الله عليه وسلم في عدَّة أماكن كما سنُبيِّن إن شاء الله.

أما تسمية الدابَّة بالْبُرَاقُ فقد يكون مُشْتَقًّا مِنَ الْبَرِيقِ لأنه صلى الله عليه وسلم ذكر أن لَوْنه أَبْيَض، أَوْ مِنَ الْبَرْقِ لأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم وَصَفَهُ بِسُرْعَةِ السَّيْرِ، أَوْ مِنْ قَوْلِهِمْ شَاةٌ بَرْقَاءُ إِذَا كَانَ خِلاَلَ صُوفِهَا الأَبْيَضِ طَاقَاتٌ سُودٌ، وَلاَ يُنَافِيهِ وَصْفُهُ فِي الْحَدِيثِ بِأَنَّ الْبُرَاقَ أَبْيَضُ لأَنَّ الْبَرْقَاءَ مِنَ الْغَنَمِ مَعْدُودَةٌ فِي الْبَيَاضِ.

الأماكن التي صلى فيها رسول الله في رحلة الإسراء:
انطلق البراق برسول الله صلى الله عليه وسلم في اتجاه بيت المقدس؛ ولكنه تَوَقَّف عدَّة مرات ليصلي الرسول صلى الله عليه وسلم في عدَّة أماكن في طريقه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فَانْطَلَقَتْ تَهْوِي بِنَا: يَقَعُ حَافِرُهَا حَيْثُ أَدْرَكَ طَرْفُهَا، حَتَّى بَلَغْنَا أَرْضًا ذَاتَ نَخْلٍ فَأَنْزَلَنِي، فَقَالَ: صَلِّ. فَصَلَّيْتُ، ثُمَّ رَكِبْنَا فَقَالَ: أَتَدْرِي أَيْنَ صَلَّيْتَ؟ قُلْتُ: اللهُ أَعْلَمُ. قَالَ: صَلَّيْتَ بِيَثْرِبَ، صَلَّيْتَ بِطَيْبَةَ. فَانْطَلَقَتْ تَهْوِي بِنَا يَقَعُ حَافِرُهَا حَيْثُ أَدْرَكَ طَرْفُهَا، ثُمَّ بَلَغْنَا أَرْضًا فَقَالَ: انْزِلْ. فَنَزَلْتُ، ثُمَّ قَالَ: صَلِّ. فَصَلَّيْتُ، ثُمَّ رَكِبْنَا، فَقَالَ: أَتَدْرِي أَيْنَ صَلَّيْتَ؟ قُلْتُ: اللهُ أَعْلَمُ. قَالَ: صَلَّيْتَ بِمَدْيَنَ، صَلَّيْتَ عِنْدَ شَجَرَةِ مُوسَى عليه السلام. ثُمَّ انْطَلَقَتْ تَهْوِي بِنَا يَقَعُ حَافِرُهَا حَيْثُ أَدْرَكَ طَرْفُهَا، ثُمَّ بَلَغْنَا أَرْضًا بَدَتْ لَنَا قُصُورٌ، فَقَالَ: انْزِلْ. فَنَزَلْتُ، فَقَالَ: صَلِّ. فَصَلَّيْتُ، ثُمَّ رَكِبْنَا، قَالَ: أَتَدْرِي أَيْنَ صَلَّيْتَ؟ قُلْتُ: اللهُ أَعْلَمُ. قَالَ: صَلَّيْتَ بِبَيْتِ لَحْمٍ، حَيْثُ وُلِدَ عِيسَى عليه السلام المسيح ابن مَرْيَمَ، ثُمَّ انْطَلَقَ بِي حَتَّى دَخَلْنَا الْمَدِينَةَ مِنْ بَابِهَا الْيَمَانِيِّ فَأَتَى قِبْلَةَ الْمَسْجِدِ فَرَبَطَ بِهِ دَابَّتَهُ".

لقد صلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم في عدَّة أماكن شهدت -أو ستشهد- أحداثًا مهمَّة في تاريخ الإنسانية؛ فقد صلَّى في يثرب حيث سيُهاجر بعد قليل، وحيث ستقام الدولة الأولى للإسلام، وصلَّى عند شجرة موسى عليه السلام في مدين، وهي الشجرة التي جاء ذكرها في كتاب الله في قوله تعالى: {فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24]، وعند هذه الشجرة تلَّقى موسى عليه السلام البشرى بالأمان في رحلة هجرته من مصر إلى مدين، وهو موقف سعيدٌ يشرح صدر مَنْ يسمعه، فكيف بالصلاة عندها! ولنضع في اعتبارنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيهاجر من مكة بعد حوالي ثلاث سنوات من هذه الرحلة، فكأنَّ هذه الزيارة تذكير له بحفظ الله تعالى لأنبيائه وأوليائه، ثم صلَّى ببيت لحم؛ حيث شهدت هذه البقعة معجزة ميلاد عيسى عليه السلام دون أب؛ وذلك إشارة إلى قدرة الله العزيز الحكيم، كما أنه المكان الذي شهد كلام عيسى عليه السلام في المهد؛ ليُنقذ الله بذلك أُمَّه مريم عليها السلام من اتهامات بني إسرائيل الباطلة.

وفي مشهد مؤثِّر مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم -كما جاء في رواية مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه- على قبر موسى عليه السلام، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَتَيْتُ -وَفِي رِوَايَةِ هَدَّابٍ: مَرَرْتُ- عَلَى مُوسَى لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عِنْدَ الْكَثِيبِ الأَحْمَرِ، وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ".

وحدَّدت رواية للبخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه مكان هذا القبر بشكل أكبر؛ وذلك عندما نقل رسول الله صلى الله عليه وسلم طلب موسى عند موته، فقال: "فَسَأَلَ -أي موسى- اللهَ أَنْ يُدْنِيَهُ مِنَ الأَرْضِ المُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ". قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فَلَوْ كُنْتُ ثَمَّ لأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ، إِلَى جَانِبِ الطَّرِيقِ، عِنْدَ الكَثِيبِ الأَحْمَرِ".

فالقبر على هذا الوصف في أرض سيناء المصرية، في شمالها الشرقي؛ وذلك على حدود الأرض المقدسة فلسطين، وكان موسى عليه السلام يشتاق إلى تنفيذ أمر ربِّه بدخول الأرض المقدسة، إلا أن قومه خذلوه، فكتب اللهُ عليهم التيه في سيناء أربعين سنة كاملة؛ قال تعالى: {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 26]، فلما جاء موعد موت موسى عليه السلام طلب من الله أن يُدنيه من الأرض التي يحبُّ، فأجاب الله دعاءه، وهو تذكير لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأُمَّته بعاقبة التخاذل عن أمر الله؛ ومن هنا فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم دائم التذكير لأُمَّته بأمر الأرض المقدَّسة، وتحقيق ما تخلَّف بنو إسرائيل عن فعله؛ وقد بشَّر أن فتح بيت المقدس سيكون قريبًا، فقد روى عوف بن مالك، قال: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ تبوك وَهُوَ فِي قُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ، فَقَالَ: "اعْدُدْ سِتًّا بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ: مَوْتِي، ثُمَّ فَتْحُ بَيْتِ المَقْدِسِ..."، فأشار إلى أن فتح بيت المقدس سيكون قريبًا من موته صلى الله عليه وسلم؛ فليحْذَر المسلمون أن يُكَرِّروا خطيئة بني إسرائيل.

الوصول إلى بيت المقدس والصلاة بالمسجد الأقصى:
ثم انتهى الرسول صلى الله عليه وسلم وجبريل عليه السلام إلى بيت المقدس، فأحدث جبريل ثقبًا في الصخرة بإصبعه وربط بها البراق، قال بُرَيْدَةُ رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَمَّا كَانَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي انْتَهَيْتُ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَخَرَقَ جِبْرِيلُ الصَّخْرَةَ بِإِصْبَعِهِ وَشَدَّ بِهَا الْبُرَاقَ".

ثم دخل الرسول صلى الله عليه وسلم المسجد الأقصى وصلى فيه، وجاء في رواية البيهقي: "ثُمَّ انْطَلَقَ بِي حَتَّى دَخَلْنَا الْمَدِينَةَ مِنْ بَابِهَا الْيَمَانِيِّ فَأَتَى قِبْلَةَ الْمَسْجِدِ فَرَبَطَ بِهِ دَابَّتَهُ وَدَخَلْنَا الْمَسْجِدَ مِنْ بَابٍ فِيهِ تَمِيلُ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، فَصَلَّيْتُ مِنَ الْمَسْجِدِ حَيْثُ شَاءَ اللهُ". وفي رواية مسلم: "فَرَبَطْتُهُ بِالْحَلْقَةِ الَّتِي يَرْبِطُ بِهِ الأَنْبِيَاءُ". قَالَ: "ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فَصَلَّيْتُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ".

في هذه الرواية الأخيرة ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه صلَّى ركعتين؛ ولكنه لم يذكر تفاصيل توحي أنه صلَّى بالأنبياء في هذا التوقيت؛ بل على العكس يُوحي السياق أنه صلَّى منفردًا، وهذا يجعلني أميل مع الرأي القائل أنه صلَّى بالأنبياء عند عودته من العروج إلى السماء، وليس قبله، ويُؤَكِّد هذا أنه قد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف شكل الأنبياء عندما قابلهم في السموات، فغلب على الظنِّ أنه صلَّى بهم بعد عودته من رحلة السماء.

رسول الله يختار اللبن:
ثم بعد ذلك جاء جبريل عليه السلام للرسول صلى الله عليه وسلم بقدحين من خمر ولبن، أو لبن وعسل، فاختار اللبن، وكان الخير في ذلك الاختيار. قال أبو هريرة رضي الله عته: "أُتِيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ بِإِيلِيَاءَ بِقَدَحَيْنِ مِنْ خَمْرٍ وَلَبَنٍ، فَنَظَرَ إِلَيْهِمَا فَأَخَذَ اللَّبَنَ، قَالَ جِبْرِيلُ: الحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَاكَ لِلْفِطْرَةِ، لَوْ أَخَذْتَ الخَمْرَ غَوَتْ أُمَّتُكَ"، ولنلاحظ هنا أن الخمر لم تكن قد حُرِّمت بعدُ؛ لكنها كانت دومًا شيئًا مذمومًا في الجاهلية والإسلام؛ لأنها تُذهب بالعقل، وتخدش المروءة؛ ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يشربها أبدًا حتى قبل بعثته الشريفة، ومن هنا كان اختياره للبن أمرًا فطريًّا.

وفي رواية البيهقي تأتي بعض التفاصيل الجديدة؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "وَأَخَذَنِي مِنَ الْعَطَشِ أَشَدُّ مَا أَخَذَنِي، فَأُتِيتُ بِإِنَاءَيْنِ فِي أَحَدِهِمَا لَبَنٌ، وَفِي الآخَرِ عَسَلٌ، أُرْسِلَ إِلَيَّ بِهِمَا جَمِيعًا، فَعَدَلْتُ بَيْنَهُمَا ثُمَّ هَدَانِي اللهُ عز وجل فَأَخَذْتُ اللَّبَنَ فَشَرِبْتُ، حَتَّى قَرَعْتُ بِهِ جَبِينِي، وَبَيْنَ يَدَيَّ شَيْخٌ مُتَّكِئٌ عَلَى مَثْرَاةٍ لَهُ، فَقَالَ: أَخَذَ صَاحِبُكَ الْفِطْرَةَ إِنَّهُ لَيُهْدَى"، والعسل غذاء عظيم؛ لكنه ليس كاللبن، فالله تعالى اختار للإنسان الذي يأتي إلى هذا العالم الجديد أن يبدأ رحلته على الأرض بشرب اللبن! فأجرى هذا اللبن في ثدي الأم، وحثَّ المسلمين على جعل هذا الغذاء لمدَّة عامين كاملين؛ قال تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233]، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه: "كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ.."، وصار اللبن أحد الأمور التي شرعها الله للحفاظ على هذه الفطرة، هذا بالإضافة إلى أننا قلَّما نجد بيتًا في العالم لا يستعمل اللبن بشكل دائم ومستمرٍّ؛ سواء في صورته الأصلية السائلة أو كأحد منتجاته التي لا تُحصى الآن، هذا بخلاف العسل الذي يُستعمل على نطاق محدود إذا قورن باللبن، وليس فيه الغذاء المتكامل الذي في اللبن، ومن هنا كان اختيار اللبن هو اختيار الفطرة السليمة كما جاءت التعليقات من جبريل عليه السلام، أو ممن قدَّم اللبن لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يخفى علينا أن هذا كله كان بتوفيق الله وهدايته له، وقد صرَّح بذلك الشيخ الذي ذُكِر في رواية البيهقي، فقال: "إِنَّهُ لَيُهْدَى".

ثم تبدأ رحلة السماء، وقد جاء في رواية مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه ما يُؤَكِّد أن العروج إلى السماء كان في ليلة الإسراء نفسها؛ حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم واصفًا موقف شرب اللبن وما تبعه: "ثُمَّ خَرَجْتُ فَجَاءَنِي جِبْرِيلُ عليه السلام بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ، وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ، فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ، فَقَالَ جِبْرِيلُ عليه السلام: اخْتَرْتَ الْفِطْرَةَ، ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ.."، فهذا سياق يُرَتِّب الأحداث ترتيبًا واضحًا؛ حيث يجعل العروج إلى السماء بعد الخروج من المسجد الأقصى وشرب اللبن.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.