ستحل علينا في أواخر هذا الشهر المبارك رجب الخير ذكرى عظيمة من ذكريات الإسلام الخالدة، وهي عبارة عن لبنة صلبة في بناء صرح الإسلام القويم، لورودها عن طريق القطع في الكتاب والسنة، ولكون أمرها معلوما من الدين بالضرورة أنها معجزة الإسراء والمعراج، يقول تعالى: "سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير" [سورة الاِسراء، الآية:1]. حدثنا أبو بكر قال حدثنا الحسن بن موسى بن الأشيب قال حدثنا حماد بن سلمة قال: أخبرنا ثابت عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أتيت بالبراق وهو دابة أبيض فوق الحمار ودون البغل، يضع حافره عند منتهى طرفه... إن هذه المعجزة الكبرى لها أكثر من دلالة بدءً بالفترة الوجيزة التي استغرقتها الرحلة بالروح والجسد على الأرجح، ومرورا بالمحطة الأولى بيت المقدس وأهميتها في الإسلام، وانتهاءً بالآيات التي أراها الله نبينا الكريم هنا وهناك، وبلغها إلينا مبشرا ونذيرا، صلى الله عليه وآله وسلم، ومنها: الإسراء إلى بيت المقدس: لقد تم الإسراء لما لهذا البيت من مكانة وقدسية عند الله عز وجل، هذه القدسية التي فطن إليها الرعيل الأول من المسلمين، ودافعوا عن المسجد الأقصى بكل ما يملكون؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أكد لهم هذه القدسية حيث قال: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى" [رواه الشيخ أبو داوود، "فقه السنة"، ص640]. إلى جانب ما تعنيه كلمة الذي باركنا حوله من الآية السابقة، الشيء الذي جعلهم يستقبلونه في صلاتهم ستة عشر أو سبعة عشر شهرا، حتى نزل أمر الله عز وجل لهم بالتوجه إلى الكعبة: " قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام، وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره، وان الذين أوتوا الكتاب ليعلمون انه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون" [سورة البقرة، الآية:143]. وقد ارتحل إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لتسلم مفاتحه في رحلة مضنية استقبل أثناءها أتعاب الوحل، وبرودة المياه حين اجتيازه الوادي الذي يقطع الطريق، وهو من هو ورفيقه يركب الدابة، وقال قولته الشهيرة حينذاك ردا على رفيقه الذي عرض عليه ركوب الدابة في تلك الحالة: "وهل نبتغي العزة في غير الإسلام" ... ولعل واقع الإسراء هو الذي أذكى روح الجهاد والشجاعة في نفس صلاح الدين الأيوبي الذي صد هجمات الصليبية الحاقدة عن هذه البقعة الطاهرة في ذكرى الإسراء والمعراج لسنة 583ه أي السابع والعشرين من رجب الحرام 583ه. ونأمل أن تكون الانتفاضات الشعبية في القدس الشريف وباقي الأراضي المحتلة نابعة من نفس الشعور الديني، الذي عبر عنه صلاح الدين في دعائه: "إلهي قد انقطعت أسبابي الأرضية في نصرة دينك، ولم يبق إلا الإخلاد إليك والاعتصام بحبلك، والاعتماد على فضلك أنت حسبي ونعم الوكيل. الإسلام هو الفطرة نعم، الإسلام هو دين الفطرة، ذلك ما أكده رسول الله صلى الله عليه وسلم مطلع سورة النجم حين اختار اللبن على الخمر لما قدم له جبريل عليه السلام في المسجد الأقصى بعد صلاته ركعتين إناءين أحدهما من لبن وآخر من خمر وقبل العروج إلى السموات العلى حيث قال له جبريل عليه السلام: اخترت الفطرة، يقول تعالى: "فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون" [سورة الروم، الآية:29]، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه". وقد أحسن الدكتور سعيد البوطي التعليق على هذه النقطة حين قال: "وفي اختيار النبي --صلى الله عليه وسلم اللبن على الخمر حينما قدمها له جبريل عليه السلام دلالة رمزية على أن الإسلام هو دين الفطرة أي الدين الذي ينسجم قي عقيدته وأحكامه كلها مع ما تقتضيه نوازع الفطرة الإنسانية، الأصيلة فليس في الإسلام شيء مما يتعارض والطبيعة الأصيلة في الإنسان ولو أن الفطرة كانت جسما ذا طول وأبعاد، لكان الدين الإسلامي الثوب المفصل على قدره؛ وهذا من أهم أسرار سعة انتشاره وسرعة تقبل الناس له؛ إذ الإنسان مهما ترقى في مدارج الحضارة وغمرته السعادة المادية، فإنه يظل نزاعا إلى استجابة نوازع للفطرة لديه، ميالا إلى الانعتاق عن ربقة التكلفات والتعقيدات البعيدة عن طبيعته، والإسلام هو النظام الوحيد الذي يستجيب لأعمق نوازع الفطرة البشرية (فقه السيرة، ط:7 ص120-121) فرض الصلاة في عالم السياسة أن الرؤساء يستدعون سفراءهم لتبليغهم مباشرة أمورا في غاية الأهمية تقتضي الضرورة الحضور الشخصي لهذه المهمة، فالأصل في هذه القاعدة السياسية راجع لا محالة قياسا إلى هذه المعجزة الخالدة في تاريخ الإسلام: "ما فرطنا في الكتاب من شيء" [سورة الاَنعام، الآية:39]. إما بالاستنباط، وإما أن غاية السرية في ذلك الأمر اقتضت ذلك النهج، وهذا الأصل هو فريضة الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم، وأمته في الحضرة الإلهية مباشرة. كان هذا الأمر، أمر فرض الصلاة في السموات العلى لما لها من أهمية قصوى في حياة المسلم لأنها هي عماد الدين، وهي العهد بيننا وبين الكفار. الانقياد التام في عالم تعتبر القيم الإيمانية الدينية وخاصة الغيبيات منها ضربا من الخيال وأساطير تحكى وطرائف تنقل، كذلك كان الشأن بالنسبة للإسراء والمعراج في نفوس المشركين حين حدثهم الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الحدث العظيم، فاستنكروه وتلقوه بالسخرية والاستهزاء، فأراد بعضهم أن يتحداه صلى الله عليه وسلم فأخذ يسأله عن وصف بيت المقدس ما دام أنه قد زاره صلى الله عليه وسلم فيه، فجلى الله البيت للرسول صلى الله عليه وسلم فأخذ يجيب على كل ما يسأل عنه". وبعضهم اعتبرها فرصة سائحة لهم لتشكيك أبي بكر رضي الله عنه في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فقصوا عليه رواية الحدث بكل اندهاش واستغراب، وما كان عليه إلا أن أجابهم جواب المؤمن الواثق بصدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وكل ما يحدث به فقال: إن كان قال ذلك فقد صدق، وأني لأصدق على أبعد من ذلك. إنه موقف ثابت، يعتبر قدوة لمن له ميزة الثبات والشموخ والرفعة أمام إغراءات الآخر، بحيث أنهم غالبا ما يستعملون كلمة حق لغاية الباطل، إن حديث الرسول صلى الله عليه وسلم عن رحلته هذه كلام حق، ولكن المشركين أرادوا به الباطل في محاولاتهم البائسة تصوير الخبر مستحيلا في نظر الصديق ليتخلى عن فكرته للقضاء على الدعوة في مهدها. قال تعالى: "يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون" [سورة الصف، الآية:8].