يعتقد السواد الأعظم من المهاجرين العرب المسلمين، بشكل عام، أن هجرتهم تختصر في الانتقال من مكان إلى آخر، ومن ثم فهي هجرة مكانية. والحال أنهم يهاجرن في الزمن، ومن ثم فإن هجرتهم تكون من زمن إلى زمن، ومن سياق ثقافي إلى سياق ثقافي مغاير ومختلف، بل ومناقض للسياق الذي نشأوا فيه وهجروه! هذا الفهم المحدود هو الذي تتولد عنه الكثير من النتائج التي تعتبر حاسمة في صناعة الصورة التي ستكون عليها هذه الجالية، باعتبارها أقلية داخل البلاد التي تهاجر إليها. غير أن الغرب، بشكل عام، لا يمكن أن نعتبره منسجما وواحدا، وإنما الغرب فيه من التعدد ما يجعله معقدا إن لم يكن عصيا على الاستيعاب والفهم. وإذا كانت أوروبا قد شكلت فضاء للهجرة التقليدية، نظرا للعوامل التاريخية المعروفة، واعتمادها على اليد العاملة، خاصة في عقد الستينات والسبعينات وبداية الثمانينات، ثم التحولات العميقة التي حولت الأجيال التالية، من أبناء المهاجرين الأوائل، إلى أجيال مندمجة ومنصهرة كليا في المجتمعات الأوروبية، أو رافضة لقيم هذه المجتمع، وما ترتب عنه من ضرورة البحث عن آليات للارتباط بالهوية، فإن المسجد باعتباره مؤسسة ورمزا للهوية قد لعب دورا بديلا. لكن في المقابل كانت هناك جمعيات ومراكز أبحاث عربية، تركت الدين جانبا، عملت على لعب دور الاستفادة من قيم الحداثة وفلسفاتها ومفاهيم حقوق الإنسان وإعادة قراءة التراث العربي، والاستفادة من الفلسفات والمناهج والمناخ الأوروبي الثقافي لممارسة حرية التفكير والتخلص من الكثير من الطابوهات، التي تشكل عائقا كبيرا أمام الباحث والفرد العربي المسلم في مقاربته للعديد من بنى ثقافته المتسمة عموما بالتقليدانية والارتباط الأسطوري بالتراث. بل إن النواة الأولى لما عرف بالنهضة العربية قد ابتدأت مع غزو نابليون للشرق وإعادة اكتشافه، ثم هجرة الطلبة لمتابعة دارستهم في أوروبا، خاصة فرنسا، وإنجلترا، وكذا دور الاستعمار، بوجهيه السلبي والإيجابي، في بلورة العديد من الطروحات العربية التي كانت بين "مع" أو "ضد". غير أن أمريكا التي شكلت "أمة" وجغرافية للهجرات، والتي شملت جل المجتمعات والإثنيات والديانات، من كل أنحاء العالم، تشكل صورة مختلفة عما حدث ويحدث في أوروبا. ولهذا فإن التجربة المهجرية العربية الأمريكية تشكل تجربة متميزة لها خاصيتها إن على المستوى الديني أو الإثني أو القومي. البدايات العربية أشارت العديد من الأبحاث والدراسات إلى أن الوجود العربي في القارة الأمريكية، ككل، يعود إلى ما قبل كولمبوس، كما تشير إلى ذلك نصوص الإدريسي في نزهة المشتاق، وغيره. لكن الهجرات العربية بدأت بشكل قوي أواخر القرن التاسع عشر، وخاصة الشوام، وبالتحديد المسيحيين منهم. ويشير هشام شرابي إلى أن المسيحيين كان يسهل عليهم الاندماج داخل المجتمع الأمريكي، مثله مثل المجتمع الأوربي، بفضل المشترك الديني. لكن الهجرة العربية الإسلامية ستبدأ مع أواخر منتصف القرن العشرين؛ حيث عرفت الهجرة على شكل يد عاملة، تمركزت بالتحديد في منطقة صناعة السيارات بديتوريت، إلى جانب نيويورك ونيوجيرزي وكاليفورنيا. والحال أن الإسلام لم يبدأ في أمريكا مع موجة المهاجرين العرب، وإنما له امتدادات مع مرحلة "تجارة العبيد"؛ إذ تشير الدراسات إلى انتشار واسع للإسلام بين صفوف العبيد، بفضل وجود مسلمين من السينغال جيء بهم كعبيد. ثم بفعل برنامج "البطاقة الخضراء"، تزايدت أعداد العرب المسلمين القادمين إلى أمريكا، وهي فئة مهمة من حيث العدد، غير أن الغالبية العظمي من هذه الفئة تمتاز بهشاشة وعيها الفكري، وتشبثها بالثقافة التقليدية الدينية لمجتمعاتها، بل وغلبة الهاجس الاقتصادي لتحسين الوضع المادي. ولهذا لم يكن لديهم أي وعي بتحسين أو بالأخرى الاستثمار في الرأسمال التعليمي والرفع من مستواهم، فاكتفوا بالأعمال البسيطة، وإجهاد أنفسهم من أجل كسب المزيد من الفوائد المادية واستثمارها في بلدانهم الأصلية. غير أن التحولات الاجتماعية، وخاصة الاقتصادية، وظهور أزمات اقتصادية داخل أمريكا، وتراجع فرص الشغل، وتحول الوعي السياسي للمجتمع الأمريكي، خاصة بعد أحداث الحادي عشر من شتنبر 2001، كل هذا خلخل وعي المهاجر، وجعله يعيد النظر في كل ما من حوله، بدءا من مستقبل أبنائه، وكيانه كفرد داخل الجماعة، وكجماعة أقلية داخل مجتمع بدأ ينظر إليه ك"آخر" ليس غريبا عنه، وإنما ك"مهدد" لاستقرار الوطن! هذا الإحساس ب "التهديد" صار يحياه "المهاجر" العربي المسلم كأقلية، كما يحياه الأمريكي/الأبيض كأغلبية صاحبة الأرض! ولهذا صار العربي المسلم يجد نفسه أمام واقع يفرض عليه أن يتعامل معه بالمزيد من الحذر، كما صار عليه أن يواجهه بالكثير من الشجاعة والقلق في آن. فهو ملزم بأن يثبت براءته، وملزم من جهة أخرى بأن يحافظ على هويته وهوية أبنائه باعتبارها الهوية الأوحد التي ينبغي تحصينها وتسليط الضوء على ما يعتقد أنها عناصر إيجابية داخل ثقافته العربية الإسلامية، التي يراها أقوى وأعمق وأنفع من تلك التي يتم تداولها داخل المجتمع الأمريكي. لهذا فهو يرى أنه من الواجب اللعب على الحيلين عبر عملية "التوفيق"؛ أي الاستفادة من أمريكا اقتصاديا، وما تبقى يمكنه الاستغناء عنه؛ أي إنه يرى أنه من الممكن أن يحيا جسديا في أمريكا، لكن ثقافيا وروحيا يمكنه أن يحيا داخل كيانه الثقافي الأصلي. لهذا فإن الحل الأمثل لهذا الفضاء الثقافي الروحي كان هو الانفتاح أكثر فأكثر على الأقلية العربية الإسلامية، والذي تبلور على شكل تنظيمات يمكن أن نقسمها إلى قسمين كبيرين، أو نمطين من الجمعيات: - تنظيمات ذات إطار ديني إسلامي - وتنظيمات ذات إطار قومي قطري إذا كان النمط الثاني موجود، فإنه يبقى محدود الحضور والفعالية، وذلك لانحصاره في أفراد ينتمون إلى القُطر نفسه؛ أي إن الانتماء الديني لا يشكل لوحده رابطا يجمع بينهم، وإنما الانتماء القطري والإثنوغرافي (من عادات وتقاليد مشتركة) واللغوي (أقصد اللهجات)، هذا الانتماء يشكل العمود المركزي للجمع بين أفراد لهم الكثير من الروابط المشتركة. غير أن هذا يظل محدودا بسبب انشغال الأفراد وما يتطلبه الإيقاع الزمني للحياة في الغرب، وغياب مشروع قد يمكن من استثمار هذا الترابط. أضف إلى ذلك، عدم قدرتهم على التغلب على العوائق المادية التي تحول دون تطوير مثل هذه المشاريع، إلى جانب أن هذا الانحصار يجعلها أقليات داخل أقليات داخل أقليات؛ إذ تصبح عبارة عن جزيرة صغيرة داخل محيط يعج بالقوميات والإثنيات واللغات! أما النمط الثاني فيبدو أنه هو الذي استطاع أن يستمر ويحقق انتشارا وحضورا لافتين داخل الأقلية الإسلامية بشكل عام، والأقلية العربية الإسلامية على وجه التحديد. مؤسسة المسجد باعتبارها تجسيدا للهوية العربية نظرا للحضور المحتشم للجمعيات العربية التي يمكنها أن تستثمر في الرأسمال المعرفي والثقافي الإيجابيين، ونظرا لانحسار تواجدها للعوامل التي سبق أن سردناها، كان من الطبيعي أن يرتكز اهتمام شريحة واسعة من المهاجرين، خاصة ذوي مستوى تعليمي محدود، أو الذين ليس لديهم أي هَمِ فكري، بالدين باعتباره ضامن الهوية ورمزها. وهذا ما أدى إلى نجاح فكرة تأسيس المساجد، بل وانتشارها في العديد من المدن؛ حيث توجد تجمعات معتبرة من المسلمين عامة، والعرب على وجه التحديد؛ ولذلك يبقى المسجد مطلبا ضروريا لتلبية الحاجيات الثقافية والروحية للمسلمين. دور المسجد وامتداداته نظرا للغياب شبه التام، خاصة في أمريكا، للعديد من المرافق الثقافية والفنية، خاصة في الولايات حديثة العهد بهجرة الجاليات العربية الإسلامية، ونظرا لغياب مؤسسات ثقافية من قبيل الأندية ودور الثقافة العربية، اللهم ما له صلة ببعض الجامعات التي تشتغل ضمن إطار نخبوي وأكاديمي لا يتلاءم والحاجيات الثقافية لهذه الفئة من المهاجرين، كان لابد من إيجاد دور مواز يمكن للمسجد أن يلعبه بين الأقليات الإسلامية من المهاجرين. ومن ثم، توسعت دائرة وظيفته لتغطي العديد من الحاجيات الروحية والثقافية/الهوياتية للجماعة المنتمية إليه، وهي خدمات برجماتية ساعدت إلى حد كبير في خلق دينامية بين الأفراد، كما ساعدت، من ناحية أخرى، في خلق موارد جديدة تضمن لمؤسسة "المسجد" المحافظة على دخل يضمن الاستمرار والتوسع وتقديم المزيد من الخدمات. ويمكن إيجاز المنتوجات والخدمات المقدمة من قبل المساجد في ما يلي: أ- الخدمات التي يقدمها المسجد ثمة خدمات روحية من قبيل إعداد فضاء لممارسة الشعائر الدينية، وما تتطلبه من خطاب الوعظ والإرشاد، والدعم الروحي للتغلب على آثار الغربة، وتقوية الفرد من أجل التغلب على قساوة الواقع وعنفه، كما يقدم دعامة أساسية للمحافظة على "الزمن" الديني، عبر إتاحة الفرصة للأفراد من استمرار زمن "الجمعة" ودلالاته الرمزية والدينية، وزمن "رمضان" وما يوازيه من صلوات وحفلات عشاء، ثم الاحتفال بالأعياد الدينية، خاصة عيدي الفطر والأضحى. إلى جانب ذلك، هناك خدمات لها صلة بطقوس الجنازة وما تتطلبه من شعائر دينية خاصة، وكذا الإشراف على الزواج؛ أي القيام بعملية "التزويج"، وأحيانا التدخل من أجل تسهيل عملية تزويج الراغبين في الزواج، وأيضا القيام ببعض مساعي الصلح بين الأفراد، خاصة الأزواج. هذا إلى جانب العمل الإحساني الذي يتمثل في جمع صدقات أو بالأحرى "زكاة" الفطر وإعادة توزيعها على المحتاجين من المهاجرين. أما عن المنتوجات التي تقدمها المساجد، فتتجسد أساسا في المنتوج التعليمي الذي يعتبر ركيزة هامة في المحافظة على القيم الإسلامية واللغة العربية وما له علاقة بالثقافة الإسلامية، من تاريخ للإسلام وسيرة الرسول، وبعض القيم الأخلاقية التي تعتمد على مفهومي الحلال والحرام. لذا فإن جل المساجد جعلت من تدريس العربية لأبناء المهاجرين المسلمين أمرا ضروريا، ومن أولويات عملها. وهو منتوج يلقى رواجا كبيرا من قبل الآباء الذين يلزمون أبناءهم بتعلم العربية وحفظ القرآن، خاصة أيام نهاية الأسبوع. ونظرا لأهميته ودوره وكذا الطرق المتبعة في التدريس ومحتوى المادة، يجعلنا نتوقف عنده ونتأمله؛ وذلك لما تترتب عليه من نتائج. ب- المسجد و"ميثولوجيا قداسة العربية" تعتبر اللغة العربية، في فهم المسلمين، لغة القرآن، وبالتالي فإنها لغة اختارها الله ليبعث من خلالها، ومن خلال الرسول العربي، الدين الإسلامي الذي يعتبر الرسالة الأتم والأنضج والأكثر كمالا وشمولية. ومن ثم فإن الفهم الأصح والأقرب إلى الحقيقة، التي يتوسلها كل مسلم، لا بد أن يمر عبر التمكن من اللغة العربية. وبالنسبة لعامة الناس فإن تعلم العربية سيمكنهم من تلاوة القرآن، ومن ثم فإن تلاوة النص المقدس من الأفضل أن تتم باللغة التي نزل بها؛ ذلك أن إعجازه وبيانه لا يتم إدراكه إلا عبر هذه اللغة. ومن هنا كانت العربية ليس لغة تواصلية، فقط، وإنما هي لغة تتنفس وتحيا في فضاء قدسي. لهذا فهي تعج بالرموز الثقافية والدلالات القدسية. وهذا ما يجعل من اللغة العربية جزءا لا يتجزأ من الإسلام، بل إنها جماعة رموز الهوية بكاملها. وما المحافظة عليها واستمرارها وتعليمها للأجيال اللاحقة ليس سوى واجب ديني، ومن هنا ترى "مؤسسة المسجد" أنه من واجبها الاعتناء باللغة العربية، وضمان تعليمها لأبناء الجالية، بل إن المحافظة على هذه اللغة وتعليمها وتلقينها يبقى من أهم ما ينبغي أن تضطلع به المؤسسة المذكورة. هكذا تأخذ اللغة العربية بعدا "متعاليا" ويتم تسييجها بالعديد من الرموز القدسية والدينية، وهو ما يتولد عنه، في مخيال المهاجرين، "عظمة" العربية وقوتها التي لا يمكن لأي لغة أن تنافسها. في ضرورة الفصل بين الديني واللغوي والثقافي إن ما سبق أن أشرنا إليه، من انحسار دور الجمعيات القومية أو الثقافية، واشتغال المجال الأكاديمي داخل الجامعات، بالعربية وآدابها ومعرفتها ودينها اشتغالا نخبويا بعيدا عن العامة، قد أدى إلى هيمنة "مؤسسة المسجد" ولعبها دورا أكبر مما ينبغي لها، لتتجاوز المجال الروحي والطقوسي/الشعائري إلى الحقل التعليمي. وهنا تبدأ المشكلة؛ إذ إن القداسة التي يتم بها التعامل مع العربية، داخل الفضاء المؤسساتي "المسجدي" يجعل العربية كلغة عبارة عن عنصر مكَمِّل ومكون للدين الإسلامي، ومفتاحا مساعدا على فتح وفهم مجاهله. والحال أن الدين الإسلامي هو الذي يشكل عنصرا، لكنه هام وكبير، من العناصر المكونة للحقل الثقافي العربي؛ أي إن اللغة العربية تشمل "حضارة" إسلامية بكل تنوعاتها واختلافاتها، من أدب وعلم كلام وفلسفة وشعر وخطاب إيروتيكي، وخطاب الملحدين والشعوبيين، والأخبار والأنساب والأمم؛ أي إن الدين لوحده لا يمكنه أن يستوعب كل تلك المتناقضات الثقافية والفكرية والمعرفية بل والدينية أيضا! ولعل أبسط مثال على ذلك هو كيف يمكننا أن نتعامل مع أبناء الجالية العربية من المسيحيين، أو اليهود، أو اللادينيين، الذي يرغبون في تعلم لغتهم؟ لأن المسجد لا يقدم العربية كلغة ثقافية وحضارية، وإنما يقدمها كلغة دينية، فيتم تدريس نمط من السيرة النبوية، ونمط من الوعي الديني، بالإضافة إلى تحفيظ بعض الآيات القرآنية وبعض التعاليم الإسلامية، مع التأكيد على الرموز الدينية مثل "ضرورة الحجاب". فهل يمكن اختزال الكم الثقافي العربي في هذا الخطاب المقدم؟! هل نحن بحاجة إلى تعليم أبناء الجاليات الإسلام الحضاري أم الإسلام الديني؟ إن التقنيات التي يتم توظيفها من أجل تعليم وتكوين أطفال الجالية الإسلامية، في المدارس الإسلامية، أو في المدارس التي تسيرها المساجد تتنفس في زمن لا يساير الزمن الراهن، خاصة من حيث المحتوى المعرفي؛ بحيث يتم خلق مفارقات وتناقضات في وعي الطفل الذي يحيا، ويدرس، داخل مؤسسات تعليمية -خلال الأسبوع -لها نظام معرفي يتأسس على مبدأ "العقل النقدي" و"الفردانية" وحرية التفكير، وعدم قدسية اللغة، وعدم التسليم بالحقيقة المطلقة، وهو نظام معرفي يعتمد على زحزحة كل أنواع "المطلق"، كما يتعامل مع الوقائع التاريخية بوعي تاريخاني، ويتعامل مع "النصوص"، كيفما كانت طبيعتها، كخطابات لغوية قابلة لإعادة الفهم والتأويل والتفكيك، وأن المعاني كلها هي نتيجة فهم المتلقي المحكوم بالزمن والتاريخ والوعي والمتغيرات. فكيف يمكن أن نخلق توازنا في وعي طفل يحيا في واقع معقد مليء بالأسئلة والمطابقات؟ كيف يمكن للمسجد أن يحافظ على أحادية الفهم لدى الطفل، وأحادية المعنى، وهو يصادف في حياته العامة، داخل المدرسة العمومية، وفي الحي والمكتبات العمومية، أو عبر النت إذا ما أراد أن يتأكد من قضية، عددا لا حصر له من الأجوبة والاختلافات التي يجدها من العناصر المشكلة للخطاب الديني الذي يراد أن يدرس كخطاب منسجم متناغم لا اختلاف فيه؟ تخريج عام في 30 من شهر غشت الماضي (2016) أصدرت أربع وزارات مغربية (الداخلية والهجرة والعدل والخارجية) دورية مشتركة تحت عدد 352، تحث القنصليات المغربية في الخارج على "تحسيس المواطنين المغاربة المقيمين بالخارج بتفادي إبرام عقود الزواج في المساجد والمراكز الإسلامية نظرا للمشاكل القانونية التي تترتب عنها" (انظر البند التاسع من فقرة "قضايا الزواج والطلاق من الدورية)، نظرا لتطاول هذه "المؤسسات" على اختصاصات مؤسسات الدولة. أليس من الواجب الآن أن نطالب باستقلالية "العربية" كلغة وثقافة عن المسجد؟ أليس من الواجب أن نقلب المعادلة ونعيدها إلى مكانها الصحيح بأن نتعامل مع "الإسلام الحضاري" لا "الإسلام الديني"، وأن نميز بين الوقائع التاريخية والوقائع الدينية حتى نعيد للغة وظيفتها التواصلية ووظيفتها الثقافية والمعرفية؟ أليس من الواجب اليوم أن نعيد النظر في الفهم الخاطئ للهوية؟ قبل سنوات، نظمت جمعية/مؤسسة المسجد لقاء عبارة عن إفطار رمضاني. كان فرصة جيدة للتواصل بين أفراد الأقليات الإسلامية التي تحيا على إيقاع الغربة والنوسطالجيا. وكان اللقاء مناسبة لجمع التبرعات من أجل بناء مسجد. فكان أحد المنظمين يتحدث عن طُرق التبرع، ثم قال بالحرف: "إننا لم نلجأ إلى الاقتراض البنكي كي نبتعد عن الربا لأنها حرام"، ثم بعد ذلك قال: "للذين سيتبرعون اليوم هناك استمارة جاهزة لكتابة معطيات بطاقة الإئتمان البنكي"؛ أي Credit Card. كانت القاعة ملأى بالأطفال، وعلى المنصة كانت تقف بنات "محجبات" رددن بعض الأناشيد الدينية... كيف يا ترى نفهم الابتعاد عن الربا في القروض البنكية، ونقبل بطاقة الائتمان التي يتأسس اقتصادها كله على "الربا"، بل هي الصورة النموذجية للربا بمفهوم هؤلاء؟ كيف يمكن خلق توازن طبيعي لدى الطفل العربي المسلم المهاجر بين لغة يرى من خلالها العالم الراهن، ويدرس بها يوميا، وتبقى الأقرب إلى التعبير عن مشاعر الحب والغضب، ومن خلالها يرى العالم، كما يراها تغزو العالم في كل المجالات من الاقتصادي والاعلامي إلى السياسي والعلمي، ثم نحدثه بأحكام معيارية عن العربية باعتبارها اللغة التي "خلق" بها العالم، وهي "أحسن اللغات"؟! صحيح أن العربية، وككل اللغات، جميلة وعميقة تتميز بثرائها الثقافي –لا الديني فقط -ولكن أليست مسكونة بصوت ونظرة "الأعرابي" الذي صنع العالم العربي -بالمفهوم الذي أورده الجابري في تكوين العقل العربي-!؟ أي جيل سينتج هذا النمط من الوعي؟ أي عقل سنصنع من هذا الوعي القاتل؟