لا أحد يستطيع أن ينكر الدور الهام والحضاري الذي قدمه المسيحيون العرب، خاصة الشوام، للغة العربية وثقافتها في عصر النهضة. وهو الموضوع الذي لازال يحتاج إلي بحث ودراسة عميقين. وقد امتد هذا الدور ليشكل حضورا مميزا في أمريكا، سواء الشمالية أو اللاثينية. ولسنا بحاجة إلي التذكير بدور جبران وأبو ماضي، وغيرهما، ومدى دورهما في المساهمة في التحولات التي طرأت علي الخطاب العربي الإبداعي، من حيث معناه ومبناه! غير أن ما يثير الباحث في هذا السياق، هو الوعي الذي كان لدى الجالية العربية، خاصة المسيحيين، في ما يخص ”الهوية اللغوية“ العربية، بحيث قام العديد، أفرادا وجماعات، بإصدار مجلات وصحف باللغة العربية، في أوائل القرن العشرين، في أمريكا. ولم يكن ذلك نقصا أو ضعفا في ملكاتهم اللغوية الإنجليزية، وإنما كان شكلا من أشكال ”الهوية“، وشكلا من أشكال المقاومة التي تمكنهم من الإبقاء علي جسر التواصل مع ”تاريخيهم“ و ”ماضيهم“ الثقافي الذي اعتبروه إحدى مصادر التنوع والثراء والهوية. ذلك أن الفضاء الثقافي الأمريكي، كنسق للتعدد والهويات المختلفة، يسمح بذلك خلافا لكل المجتمعات الغربية الأخرى! وكما أشار هشام شرابي، في معرض دراسته حول المثقف العربي والغرب، فقد لاحظ أن الهجرة إلي الغرب عرفت إقبالا من قبل المسيحيين العرب، في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وقد كان من السهل عليهم الاندماج في تلك المجتمعات، بسبب الدين. ومن هنا استطاع المسيحيون العرب أن يتعاملوا مع الهوية اللغوية ”ككل“ و ”كحمولة ثقافية“ لا يمثل فيها الدين سوي مكون من بين باقي المكونات الأخرى. وهو ما كان يسقط عن اللغة طابع القداسة، كما أن ذلك مكنهم من الاشتغال عليها وتطويرها والانشغال بها كأداة حاملة للمعرفة بعيدا عن الحقل الديني. ومن ثم لم يكن هناك أي إحساس بالنقص أو بالاغتراب اللغوي، فكانت العربية إلى جانب الإنجيليزية، بل إن الإبداع انتعش وترعرعت في أحضانه أسئلة ”وجودية“ كان قد طلقها منذ عهد بعيد. غير أن تزايد أعداد المهاجرين العرب، واتساع قاعدة الجالية العربية، (حوالي ثلاثة ملايين بمن فيهم من هم من أصول عربية) جعل الجغرافية العربية المهاجرة تعرف ”انشطارا“ واختلافات لم تكن بعيدة عن الصدام والتنابذ! لقد اكتشف العرب أن هناك هويات قُطرية، وهناك اختلافات وصلت إلى حد التشكيك في معرفة ”العربية“ لدى بعض المنتمين إلي بعض الأقطار العربية -خاصة التي توجد في الغرب الأقصى- فكانت هناك -ومن غير وعي- محاولات للبحث عن مشترك، فكان الدين هو الوحيد القادر على محو الفروق، واحتل، فجأة ولعوامل عدة، النقطة المحورية للهوية العربية الإسلامية. هكذا أضحى المسجد فضاء لإذابة كل أشكال الاختلاف، وصار قناة التواصل مع ”الهوية اللغوية العربية“ التي لم تعد سوى ”قطعة“ تاريخية تساعد على رسم بعض الملامح ”الثقافية“ للهوية الإسلامية، وبذلك كانت ”العربية“ ”قطعة مقدسة“ باعتبارها لغة النص المقدس. مما جعل من تعلمها ضرورة للتمكن من قراءة النص القراني بلغته ”المعجزة“. إذ لا تستقيم هوية الفرد العربي المسلم إلا بتعلم العربية التي بها تؤدى الفرائض الدينية، التي هي، في النهاية، وحدها القادرة علي تحديد الهوية والمحافظة على الهوية التي لا يمكن أن تفهم إلا من حيث مدى ارتباطها بتعاليم وقيم أخلاقية دينية معروفة! هكذا ظهرت، علي امتداد التراب الأميريكي، وأينما وجدت جالية عربية، مساجد تضطلع بدور ”الحفاظ على الهوية“ الإسلامية، واتخذت من تعليم العربية لأبناء الجالية هدفا استراتيجيا وحضاريا، باعتبارها الأداة الناجعة التي يمكنها أن تبقي الأجيال التي نشأت في الغرب، على صلة ببلدانها و“حضارة“ أجدادهم التي لم يكتب لهم أن ينشأوا في سياقها. ولعل أهم ما يثير في برامج واستراتيجيات هذه ”المؤسسات“ هو محتوى وبرامج المقررات التي «يشحن“ بها الأطفال. بحيث إن الدين يشكل نقطة مركزية، مع التشديد على تحفيظ آيات قرآنية، في ذاتها ولذاتها، وتدريس جوانب من تاريخ الإسلام، وهو نمط من التاريخ الخرافي الأسطوري الذي اعتمد على بعض المصادر اللاعلمية في تدوين الأحداث. وهذا له عواقب خطيرة على الناشئة كما سنبين ذلك مستقبلا! أضف إلي ذلك، أن الأفضية التي توجد فيها هذه المؤسسات التعليمية هي في الغالب مساجد، وإن هيآت التدريس، والإداريين، الذين يشددون على بعض المظاهر ك”الحجاب“ أو ”الإعفاء عن اللحى“!، يتداولون خطابا دينيا غارقا في ”الظلامية“، وكل جهودهم تصب في جعل المتعلمين يحيون في الزمن اللاتاريخي، وأن يسلموا بكل شيء، وأن يتخلوا عن ”شغب طرح الأسئلة“، وأن يتعلموا اللغة العربية كلغة إلهية مقدسة متعالية ولا تاريخية، وهي وحدها المحدد للهوية الإسلامية، لأن الله أنزل القرآن بالعربية، وهي أحسن اللغات وأفضلها على الإطلاق! إن هذا التسييج الذي تحياه العربية داخل الفضاءات الدينية، وهيمنة الوعي الديني -بل ونمط ظلامي إلى حد ما!- يساهم بصورة خطيرة في الخلط بين معنى الهوية في بعدها الوجودي، والهوية الضيقة التي لن تعمل إلا علي التشظية وفقدان البعد الإيجابي والحضاري العربي. كما أن العمل على توظيف الدين للهيمنة على اللغة، يجعلها تفقد الكثير من أبعادها الحضارية والإنسانية، خاصة داخل سياق متنوع ومتعدد ومختلف. وكل هذا يعجل بصورة قاتلة - لا يدركها هؤلاء الذين يسيرون هذه المؤسسات- بانهيار الدور الإيجابي لهوية عربية، فيها تعدد ديني وثقافي وحضاري، كان ممكنا أن يشكل قيمة مضافة داخل هذا الغرب الذي يعي جيدا حجم الدمار الذي يمكنه أن يلحقه ”الأخ“ ب أخيه، مادام أن زمن العدو الظاهر صار من التاريخ القديم!؟