تشير الإحصائيات الرسمية الصادرة سنة 2015 عن ( MPA) إلى أن عدد المغاربة المقيمين في الولاياتالمتحدةالأمريكية حوالي الثمانين ألف مغربي، تتمركز غالبيتهم في ولايات فلوريداونيويورك وكاليفورنيا وماستشوسيت. وعلى الرغم من هذا العدد الذي يبدو ضئيلا بالنظر إلى الجغرافية السكانية الأمريكية التي تتميز بالتنوع والاختلاف وتعدد الإثنيات، ونظرا لعدد العرب الأمريكيين الذين يشكل المغاربة أقلية صغيرة بينهم، فإن هؤلاء يتميزون بالدينامية الاقتصادية والدينية؛ وهو ما يجعلهم من بين الأقليات الواعدة داخل الأقلية العربية الإسلامية، من جهة، وداخل النسيج الأمريكي بشكل عام. للحضور المغربي في أمريكا تاريخ يمتد إلى قرون، بدءا بالمرحلة ما قبل اكتشاف أمريكا، حيث تشير العديد من الدراسات التاريخية إلى ما يعرف ”بالفتية المغررين“ الذين تحدث عنهم الشريف الإدريسي، والذين أبحروا من آسفي ووصلوا العالم الجديد، أضف إلى ذلك بحارة الأندلس، وكذا الدور الذي لعبه مصطفى الأزموري المعروف بسطبانيكو (القرن السادس عشر) في اكتشاف منطقة فلوريدا وتواصله مع الهنود الحمر الذي أتقن لغة بعض قبائلهم وانتهى به الأمر إلى أن ”قدس“ من قبل بعض القبائل التي بترت رجليه خوفا من هروبه، وانتهاء ب“فال دي سالي“ (القرن السابع عشر) هذا الرجل ذي الأصول الهولندية والذي تربى ونشأ في مدينة سلا وانتهى به الأمر في نيويورك. ويعتبر أحد أوائل المسلمين الذين استقروا في أمريكا ما بعد المرحلة الكولومبية، وللإشارة فقد كان يمتلك نسخة من القرآن بيعت في السنوات القليلة الماضية في سوق نيويورك للمزاد العلني. هذا إلى جانب الحضور المميز للعديد من الباحثين والأكاديميين الذين يشتغلون من معاهد الأبحاث والجامعات الأمريكية الكبرى، وتفوقهم في مجالاتهم العلمية. غير أن هذه الحالات لم تشكل سوى جزر تاريخية معزولة متقطعة ومتفردة حدثت بالصدفة، ولا يمكنها، كما لم تكن أبدا، تمثل صورة عن الجماعة أو الأقلية المغربية من حيث هي هوية ثقافية منسجمة داخل النسيج الثقافي والاجتماعي الأمريكي؛ ذلك أن المنتمين إلي المؤسسات العلمية أو الجامعية يحضرون كأفراد ضمن نسق ومشروع يسهمون فيه كأطر أو ”عقول“ لا كهوية ثقافية. فأن يكون هناك وجود لمغربي مسؤول سياسي، أو عالم في محطة ”ناسا“ أو ”جامعة“ لا يجعل من ذلك حضورا مغربيا -كما يروج له بشكل بائس بين المغاربة أو في وسائل الإعلام الرسمية- بقدر ما يجعل من أفراد هذه العينة مجرد ”خبير أو عقل“ في معهد، أو ”سياسي“ ينضبط للنسق الأمريكي. أما الهوية المغربية فمسألة ثانوية أقرب إلى ”قطعة تاريخية“ في حياة الشخص. ومن ثم، فإن حضورهم هو حضور أمريكي ينضبط للنسق الموجود سلفا، وإن كان هناك من حديث عن النجاح فإنه يحسب لفائدة السياق والمؤسسة الأمريكية لا ”للمغرب“!. من هنا، وجب التمييز بين فئتين داخل هذه الأقلية (المغربية المقيمة في أمريكا): فئة ”النخبة“ التي يمكن اعتبارها فئة تقنية، تتشكل من علماء ومهندسين وجامعيين يدرسون في الجامعات. ونقصد ب“التقنية“ كونهم يخضعون للمنظومة الثقافية الأمريكية وللسياق الذي يعملون فيه، وهم بذلك لا أثر لهم على الساحة الثقافية، اللهم إذا استثنينا أسماء قليلة تعد على رؤوس أصابع اليد وحضورهم الإبداعي أو الثقافي غير مؤثر بقدر ما يقومون بإعادة إنتاج ”الصورة“ النمطية التي يُراد لها أن تكون. ونحن هنا نقارن بين هؤلاء وبين الجيل السابق من المثقفين العرب المؤثرين من أمثال هشام شرابي وإدوار سعيد على وجه التحديد! أما الفئة الثانية فهي تتشكل من ذلك النسيج المتنوع من المهاجرين، أو الذين ولدوا وتربوا ونشأوا في أمريكا، وهم يشكلون القاعدة العامة لهذه الأقلية، وهي شريحة تشكل السواد الأعظم من ”مغاربة أمريكا“، كما أنها الفئة التي تهمنا في هذا السياق. إن الجغرافية السكانية المغربية، وفقا للدراسة المنشورة، تحدد -كما أسلفنا- تمركز المغاربة في مناطق بعينها، ومع تزايد أعدادهم عن طريق الهجرة أو الولادات، صارت أحياء بعينها تستقطب الوافدين الجدد أو انتقال بعضهم من ولاية إلى أخرى؛ وهو ما أدى إلى ظهور احتياجات ثقافية ورغبة في ممارسة العادات والتقاليد التي تجعلهم على صلة بهويتهم ”المغربية“. فكان، كعادة الجاليات المسلمة، أن شكل ”المسجد“ أول هذه الاحتياجات. لذلك كان المسجد يتخذ شكله القانوني ك”جمعية“ يديرها أفراد، كثيرا ما ينتمون إلى هذه الأقلية. ونحن نعلم أن ”الدين“ يتلون بثقافة المجتمع المتدين به، وهنا ينبغي أن نشير إلى ”إحدى المغالطات“ الخطرة التي يروج لها البعض حول ”إسلام واحد“ ولا يمكننا الحديث عن ”إسلام مغربي“ أو أمريكي أو أوروبي! قام المسجد لسنوات بدور ”الجامع“ -كما شرحنا ذلك في مقالات سابقة- بهيمنته على كل مناحي الحياة. والواقع أن هذه الهيمنة لم تكن مفروضة من هذه المؤسسة، بقدر ما أريد لها ذلك من قبل الأقلية، لعدة أسباب سوسيو-ثقافية يمكن تلخيصها أساسا في البعد ”الهوياتي“ للجماعة المغربية (كما بالنسبة لباقي الأقليات الإسلامية). لكن مع توافد شريحة من الشباب المتعلم، وكثير من خريجي الجامعات المغربية، واستقرارهم في الولاياتالمتحدةالأمريكية من أجل العمل، ومنهم من استقر لمتابعة دراساته العليا، كان من الطبيعي أن تكون الاحتياجات الثقافية والروحية لهؤلاء أكبر أو مختلفة -على أقل تقدير- عن تلك ”السلع الثقافية“ التي تقدمها المساجد أو الجمعيات الموازية لهذه المؤسسات، إذ إن كثير من الشباب المتعلم متحرر من الأجوبة الجاهزة، ولهم تصور أوسع عن الهوية، كما أنهم ليسوا بممارسين للطقوس والشعائر الدينية. ومنهم متحولون دينيا ولا دينيين، وهي شريحة تزداد اتساعا وانتشارا وتعبيرا عن مواقفها من الأجوبة الدينية والفكرية التي تروجها جمعيات المساجد، ما يفرض عليها البحث عن فضاءات أرحب خارج فضاء ”الجامع". إن تزايد هذه الشريحة من المتعلمين، ومنهم عدد كبير من الذين يمكن أن نطلق عليهم صفة مثقفين، ولهم اطلاع على الفلسفات والمناهج والنظريات والفنون الغربية، قد جعل ”مؤسسة“ المسجد“ في ”أزمة فكرية“ تفرض عليها واقعا سيهدد ”مركزيتها“ في الأمدين المتوسط والبعيد، خصوصا بعد أن صارت تواجه أسئلة محرجة من قبيل ”التمييز بين “المركز الثقافي الإسلامي“ و“المركز الثقافي العربي“ والمطالبة بتحرير اللغة من المسجد باعتبارها أداة تواصلية بشرية، خلقها الإنسان لتقوم بدور وظيفي بشري، ولا يمكن للدين أن يستأثر بها، لأن استئثار المسجد باللغة يحرم غير المسلمين من تعلمها. كما يحرم، في بعض الأحيان، غير الممارسين للطقوس الدينية، من قبيل غير المحجبات، ما دام أن الحجاب يشكل رمزا دينيا يستوجب على من يلج ”جغرافية“ المكان أن تغطي شعرها! أضف إلى ذلك وجود فشل واضح في المقاربة المتجاوزة التي يتبناها أصحاب جمعيات المساجد، وإخفاقها في إنتاج وعي ثقافي وحضاري يتناسب مع الراهن المعرفي؛ ذلك أن التناقضات التي تنتج عن ”التوفيق“ بين ”الهوية“ كما يفهمها الخطاب التقليداني الأصولي والهوية وفق تداولها في الخطاب الأكاديمي والحقوقي والسياسي الأمريكي ينتج عنه تناقض ”محرج“ يؤدي إلى مغالطات ومفارقات سلبية تتسبب في ظهور صناعها في وضع صعب؛ وهو ما يؤدي حتما إلى التصدع وعدم انسجام خطابها المتبنى من جهة، ومع الواقع الأمريكي الذي يتميز بتحول عميق على مستوى فهم الواقع! ففي الوقت الذي نجد شبابا من الخريجين الجامعيين المنتمين إلى كل الاختصاصات العلمية والفنية والفلسفية، وما ينتج عن ذلك من مقاربات للقضايا والفهم، نجد ”جمعيات المساجد“ منغلقة على نمط معين، وفق رؤية محددة، هي الفهم الديني للعلوم والثقافة، إذ تختزل الفنون في ”الأدب الإسلامي“ الذي يخلو من كل حس جمالي وفني! والموسيقى في الأمداح النبوية، واللقاءات الثقافية في قضايا الدين ”وما يجوز وما لا يجوز“ والمساهمة العلمية تختزل بشكل أقرب إلى منطق الأطفال بالحديث عن دور ”العلماء العرب أو المسلمين“ في تقدم العلوم، وإذا انفتحوا على الواقع الأمريكي نظموا لقاءات أو ندوات حول ”حوار الأديان والتسامح“ أو ”الفصاحة في اللغة العربية وتفوقها على لغات العالم“، بينما تقصي كل دور للفنون، من مسرح وأدب وموسيقى تشكيل، أي إن البعد الإستطيقي بكل تنويعاته يختزل في ”الزخارف“ الإسلامية والأقواس التي يتم وضعها بصورة أقرب إلى الافتراض منها من الواقع، من قبيل النقوش والزخارف المطبوعة على الورق التي تزين بها فضاءات العبادة! فهذا الانغلاق الخانق لحرية الفعل الإبداعي يجعل دور هذا الصنف من ”الجمعيات“ (نقصد جمعيات المساجد) رهين وعي شريحة لا يمكنها أن تقدم أي إضافة نوعية داخل النسيج السوسيو-ثقافي الأمريكي. كما سيؤدي حتما، في المستقبل، إلى مواجهة صعوبات مالية، قبل أن تكون فكرية، ما دام أنها تعتمد في تدبير شؤونها المالية على الإعانات والصدقات التي يؤديها مرتادو دور العبادات، الذين ستنقص أعدادهم في المستقبل، أضف إلى ذلك التشرذم والصراعات الخفية والمعلنة بين هذه الجمعيات الدينية، نظرا لاختلاف الأقليات، التي تتحكم فيها النعرات الإقليمية والمذهبية. إذن، والحالة هذه، وما دام أن الاحتياجات الثقافية وتحول فهم ”الهوية“ يتغير مع تطور وامتداد الأقلية المغربية في أمريكا، فإننا بدأنا نشهد ظهور نمط من الجمعيات خارج ”حضن“ المسجد/الجامع“ وهي محاولات غير واعية وخجولة، لكنها ضرورية وتعبر عن دينامية سوسيو-ثقافية لهذه الأقلية. ترى ما هي طبيعة الجمعيات التي تأسست خارج فضاء المساجد كبديل لها؟ وما هي طبيعة الخطاب الذي تنتجه؟ وهل استطاعت أن تتجاوز الوعي ”التقليداني“ الذي هيمن على النمط الأول؟ (يتبع)