"في انتظار غودو"* الانتصار .. تأملات في قلق الأقلية الإسلامية في أمريكا يكرر الأمريكيون اليوم عبارة "لقد استعاد الأمريكيون أمريكيتهم"، فيما يتداول المهاجرون، بين الجد والهزل، "هل جمعت حقائب العودة؟". طبعا لا أحد سيعود، ولكن هناك عودة رمزية أخطر وأقوى ستكون عبارة عن التهميش والتنميط والمراقبة وإسكات الصوت، واعتبار الحقوق الثقافية وحق الاختلاف بمثابة عناصر تستوجب المزيد من الضبط والمراقبة، ومن ثم سيصبح التفكير في العودة إلى الأوطان الأم أهون من تحمل الصورة التي تلاحق الأقليات! قبل سنوات أسست في أمريكا جمعية تعنى بقضايا المرأة، لكن من خلفيات فكرية وثقافية، إيمانا مني بأن المرأة العربية الإسلامية تختزل وعيا استثنائيا بمفهوم "الأم"، غير أن الفريق الذي استقدمته للتعاون معي، لم تكن لديه التجربة ولا التصور الناضج لفهم معني مشروع فكري وثقافي داخل المهجر الأمريكي. الذي يهمني من هذه التجربة-التي فشلت-هو الأسباب التي كان يتذرع بها أولئك الأشخاص الذين خلطوا بين العمل الجمعوي والعمل التجاري، ومحاولاتهم جعل هذا الإطار عبارة عن شركة تجارية معفاة من الضرائب! إذ ظلوا يكررون على مسامعي عبارة "إن أفكارك لا تعجب الناس، لأنها تقوم على رفض الأصوليين، وهي أفكار علمانية ذات مرجعية حزبية إيديولوجية"! والواقع أن هؤلاء لا تهمهم العلمانية ولا الدين بقدر ما كانوا يسيرون مع "المصلحة" المادية الخاصة، أو على الأقل محاولات خلق امتيازات "اعتبارية" داخل الجماعة التي ينتمون إليها وهي تشكل السواد الأعظم من الجالية العربية الإسلامية. الملاحظ من هذا أن عدد الجمعيات في تزايد مستمر، وكلها تنادي بالمحافظة على الهوية الدينية التي يتم اختزالها في حفظ القرآن وتنظيم الحفلات بمناسبة الأعياد الدينية وارتداء الملابس التقليدية والاحتفاء بالطبخ. هنا مربط الفرس. كون الفهم السائد للهوية ينحصر في "الثقافة الدينية" الشعبية وتجلياتها على مستوى الفهم والممارسة الاجتماعيين، ومن ثم فإن الحفاظ عليها يستوجب الحرص الدائم عليها بالإبقاء على عناصرها ومكوناها التقليدية، لأن المهاجر العربي المسلم يعتقد أنه من واجبه الرفع من درجة الحذر تجاه أي سلوك أو فعل ثقافي اجتماعي أو سياسي متداول داخل البلدان المستقبلة، علما أن هذه الأقليات لا تأل جهدا في الاستفادة، بكل الوسائل والطرق، من كل ما تعج به السوق التكنولوجية أو الخدمات الاجتماعية التي تقدمها المصالح الحكومية؛ أي كل ثمار الحداثة. بناء على ذلك، يتخذ المهاجرون من الحفاظ على الهوية شكلا عدائيا دفينا يتقوى أكثر فأكثر بالرفض والتنصل من كل القيود التي يمنها أن تربطه بمكونات المجتمع الآخر، وهم في ذلك يعتبرون أنفسهم يحملون "سيف الجهاد" في سبيل الله بإعلاء كلمة الحق والتباهي برموز دينية هي أقرب إلى تقليعات ترميقية مشبعة بالحمولات الإيديولوجية أكثر مما هي رموز هوياتية حضارية وثقافية. ويزداد هذا الوعي انتشارا بين صفوف الأقليات الدينية الإسلامية التي يتزايد إيمانها ترسخا بما تعتقد به، مما ينتج عنه سلوكات وممارسات وعادات لا تزيد صورة الأقلية إلا تنميطا وخدمة للصورة الاستشراقية التي يعمل هذا الآخر على الترويج لها. وعليه، فإن هذا الرفض لمشروع الحداثة والليبرالية والعلمانية وقيمها، بالإضافة إلى التلوث الذي لحق بهذه المفاهيم، يجعل من المستحيل على الأقليات المسلمة أن تندرج ضمن مشاريع الاندماج عبر جسور الحداثة المؤسسة على قيم الفردانية والمسؤولية ومواجهة العالم والتخلص من الحقائق المطلقة والإيمان بحق الاختلاف، واعتبار الدين شأنا فرديا خاصا، وهي المداخل الأساسية للتصالح مع الحاضر/الراهن في الجغرافية الغربية، علما أنه على رغم كل المساوئ التي تتولد عن الليبرالية والعلمانية فإنها تبقى هي الضامن الأساس لهذه الأقليات والضامن الأكبر لحقوقها وممارساتها، بل ولمستقبلها داخل هذه المجتمعات. إن الانغلاق على الذات بالشكل الذي عليه الأقليات العربية الإسلامية في أمريكا لا يؤدي إلا إلى العزلة والعيش داخل "غيتوهات"، وتحويل الأقليات الإسلامية إلى مجرد "مقولبات" في الحملات الانتخابية في أوروبا وأمريكا، الأمر الذي يؤدي إلى المزيد من التصلب والقلق والخوف من المستقبل والارتباط أكثر بالبلد الأم وبقيم "الدين الشعبي" التقليداني. بالمقابل، فإن هذا الاستعمال المفرط لصورة هذه الأقلية والعمل على تشويهها لا ينتج سوى المزيد من إصرار السواد الأعظم من المسلمين المهاجرين على التسليم بأنهم مستهدفون بسبب "دينهم" الذي يهدد كل العالم، وأن عداء الغرب صادر عن خوفه من الإسلام الذي ترعبه حقيقة انتصاره القادم. وإذا كانت الأقلية الإسلامية تؤمن بشكل قاطع بانتصار "حقيقة الإسلام"، فإن وجودها ومستقبلها يظلان رهينة انتظار هذا "النصر" وهذه العودة "الغودوية" [نسبة إلى غودو]، وهو انتظار يشفع لها بتحمل هذه المعاناة، ويقويها من أجل المزيد من التعبير ثقافيا (بالمفهوم الشعبي) واجتماعيا ودينيا داخل الفضاء العام، لكن ليس بلعب دور المدافع، بل المهاجم والمتحدي المؤمن بدوره في تبليغ الحقائق، إنما من دون خلفية فكرية وفلسفية ولا حتى وعي تاريخي يسمح له بتعقل راهنه وإدراكه بصورة قريبة من الواقع. ويمكننا أن نسوق مثالا عن ذلك، ما سبق أن اعتبره بعض المهاجرين انتصارا وإثباتا للوجود داخل السياق الأمريكي، تجربة أقدمت عليها بعض المدارس العمومية في السنوات الثلاث الماضية، حين اعتبر يوم عيد الفطر وعيد الأضحى يوم عطلة، وهي تجربة أثبتت فشلها لأن هذه المؤسسات وجدت نفسها أمام مطالب أقليات دينية أخرى! إذا كانت الأقليات العربية الإسلامية -في السابق- نجحت في الانخراط والاندماج داخل النسيج المجتمعي، على الأقل في الفضاء العام، فإن ارتفاع عدد المهاجرين القادمين من المناطق العربية وعمليات جلب المهاجرين عبر ما يسمى بالبطاقة الخضراء، إضافة إلى هذا الصراع بين القادم الرافض أصلا لكل قيم الغرب والمستقبل المشحون بالصور التي تصنعها الآلة الإعلامية، وهو صراع صار باديا ويكبر يوميا بعد يوم، (فإن ذلك) ينذر بخلق تجمعات معزولة تسلط عليها الأضواء الأمنية والإعلامية، وتستعمل ورقة رابحة في الانتخابات، وهي تنذر بمستقبل مقلق وأيام عصيبة سوف يكون فيها المزيد من شد الحبل، وبأن شعرة معاوية لن تجد من يحافظ عليها؛ لأن التغيرات التي تحدث قد غيرت منطق الأشياء والفهم، وبأن الحريات والفهم الليبرالي للعالم وحقوق الإنسان سيعرفان المزيد من التراجع على حساب الأقليات الثقافية والدينية الإسلامية على الخصوص. فهل كنا ضحية الغرب الذي نحت صورة على مقاسه "باستعماله لأدواتنا ولهويتنا القاتلة"، أم ضحية رفضنا ومحاولاتنا "أسلمة" العالم عن طريق "الغزوات" الانعزالية والفهم الضيق للهوية واعتقادنا الراسخ بحقيقتنا المطلقة؟ ففي الوقت الذي كانت فيه الأقليات العربية الإسلامية تنتصر لمرشحة الحزب الديمقراطي، وأدلى العديد من المنتمين للأقليات الإسلامية بصوتهم لها، فإنهم نسوا، عن جهل أو قصور في النظر، أنهم كانوا يقدمون لترامب هدية النصر على طبق من ذهب، خصوصا حين كانوا يطلون بتصريحاتهم التي تفضح مستوى فهمهم للواقع السياسي والاجتماعي الأمريكي بالغ التعقيد، بل إن الأخطر من ذلك كله أن هذا الأخير لم ينجح فقط، بل وله دعم جماهيري في الحارات والأزقة والطرق سيساعد على تنفيذ الكثير من وعوده إذا ما كان مصرا على ذلك! اليوم تشهد المدن الكبرى في العديد من الولايات الأميركية احتجاجات، بل وهناك تخوفات يعبر عنها حتى الأمريكيون أنفسهم، وهي احتجاجات مضادة للخطاب السياسي الذي سيهيمن في السنوات القادمة على المشهد الأمريكي، فحتى وإن أخفق اليمين في مساعيه، فإن الأقلية العربية الإسلامية ستظل على الهامش، ومجرد أداة، لا بفعل الصناعة السياسية الأمريكية، وإنما بفعل فهم هذه الأقلية لذاتها ورؤيتها للعالم التي لم تتغير بنيتها رغم التحولات الإبستيمية التي عرفها الوعي البشري. ألسنا نعاني من حدة تأزم وعينا بذاتنا داخل بلدان المنشأ ويتقوى هذا التأزم حين نهاجر؟ *في انتظار غودو: بالإنجليزية: "Waiting for Godot"، بالفرنسية: "En attendant Godot": مسرحية للكاتب الآيرلندي صمويل بيكيت، تدور في فصلين حول رجلين يدعيان "فلاديمير" و"استراغون" ينتظران شخصا يدعى "غودو"، (هسبريس).