كانت تجربة «الرابطة القلمية» فريدة ويتيمة ومميزة، ولم تجد من يطورها وينميها ويدفع بها إلى أن تتحول إلي مشروع فكري و«هوياتي»، تساهم من خلاله «الثقافة العربية» بإرثها وتراكماتها في إغناء الحياة الثقافية الأمريكية بصورة واضحة وفاعلة، بل ومؤثرة. إن الحديث عن واقع المهاجرين العرب في أميركا، هو حديث عن واقع متعدد، وعن عرب بصيغة التعدد، وعن أميركا بصيغة التعدد أيضا. لكن ثمة تقاطعات تميز الجماعات العربية المهاجرة في أمريكا في عمومها، وإذا لم تكن مطلقة فهي تمثل النمط ”المهيمن“. ولعل المثير حقا هو هيمنة النظرة «النوسطالجية» على هؤلاء، واختزالهم لمفهوم الهوية في أمرين أساسيين، هما: المسجد، وتنشئة أبنائهم على حفظ القران الكريم وتعلم العربية. الأمر الذي نتج عنه تأسيس جمعيات «توعوية» و«وعظية» تجعل من المسجد هو المركز، والمأوى، والملجأ، والهوية، والجغرافية، والرمز. مع تسارع الأحداث، والتحولات العالمية، والمخاض الواضح الذي تعيشه المجتمعات العربية، إن على المستوى السياسي أو الحضاري، بدأت تتبلور بعض التصورات، وترتفع أصوات، من داخل الجاليات العربية المهاجرة، فلوحظ تسابق حامي الوطيس من أجل التفاعل مع المتغيرات العالمية، وخاصة التحولات التي عرفتها «صورة العربي» داخل الخطاب الإعلامي والسياسي والفني الأمريكي. إذ صار هاجس العرب المهاجرين هو كسر هذه الصورة النمطية، ومحاولة تسويق صورة مغايرة تسعي للانخراط في حوار يدعي «التسامح» و «حوار الأديان» و «الانفتاح» و «الاختلاف». غير أن الجميع ينخرط في لعبة لا يعيها، بالمطلق، ويعيد إنتاج نفس الصورة، يكون هو أحد الفاعلين الأساسيين، هذه المرة، في صناعتها. أي إن الآخر، يؤسس لمنطق، ويخلق سياقا و«قضايا» تسيج الجميع، وتلزمهم بأن يتحركوا من داخلها من دون أن تكون هناك أية محاولات للانفلات مما يريده الآخر أن يسوق ويروج. والمتتبع للشأن «الجمعوي» في المهجر الأمريكي، يلاحظ أن هذه الجمعيات لا تنزاح عن مجالين أساسيين، هما: المسجد، كما أشرنا، والذي يقوم بدور روحي وديني هام، يساهم في إشاعة الثقافة الإسلامية باعتبارها أحد دعائم الهوية العربية الإسلامية، والجمعيات التي تدعي أنها «جمعيات مدنية» التي تهتم بالأعمال الاجتماعية، والتي تخلط بين الثقافة الفنية (ذات الحمولة الشعبوية التي تفتقد لأدني مقومات الفن الراقي والمنحصرة في «الغناء» وتغييب للموسيقى!) والمطالب الحقوقية السطحية، التي تقتصر على حالات فردية بعينها، أو خدمات باهتة تحركها طموحات وأحلام كبرى، لا تتحقق في ظل غياب مرجعية فكرية ومهنية وفلسفية لدى من يقودونها. وهذا ما ينعكس سلبا على «المشروع الحضاري» والهوياتي للجالية المهاجرة ككل، وتتحول الجمعيات، إلى أصوات باهتة غير مقنعة، وليس لديها رؤية واضحة يمكنها أن تؤسس لمستقبل الأجيال العربية المهاجرة في القادم. بل هي خاضعة، في أحسن الأحوال، لثقافة: «حوار الأديان» و «نحن عرب ينبغي أن نساند بعضنا»!! وهكذا تبقى كل المحاولات هجينة، هامشية، ذات طابع فلكلوري، يتم «استعمالها» من أجل تهميشها أكثر، بتقنية الخطاب الرسمي الأمريكي الذي يرفع شعار التعدد والاختلاف..!؟ ومن خلال محاولة رصد لواقع الجمعيات العربية في أمريكا، يمكن أن نسجل الملاحظات التالي: - هيمنة الخطاب الديني، ذو الخلفية الانطوائية، الانعزالية، الرافضة للآخر، وهو يجتهد من أجل «أسلمة» الأمريكان، إذ يعتبر دخول أمريكي، لاديني أو مسيحي، انتصارا تاريخيا ونجاحا مشجعا للمنشغلين بهذا الحقل من أجل الاستمرار في هذا المجال. ولعل السمة الطاغية على العاملين في هذا المجال كونهم فئة متواضعة ثقافيا. وتغيب لديهم التصورات المتكاملة حول المشاريع المجتمعية لجالية عربية إسلامية، تفتخر بهويتها، ولكنها تكون فاعلة ومؤثرة وواعية بسياقها الثقافي والحضاري، علما أن المتحولين دينيا، لا تتم الاستفادة منهم، ولا يشكلون قيمة مضافة للهوية العربية الإسلامية. على اعتبار أن فهمهم للإشكالات التي قد تطرح، لا يتم التعامل معها كأسئلة، وإنما يتم إخضاعهم وإدماجهم ضمن التصور الديني المراد تسويقه، وهو في الغالب «إسلام شعبي» بسيط غير مسكون بوعي «السؤال» والتجدد. ذلك أن الفئات المهاجرة تتميز ببساطة وعيها الديني وهيمنة الفكر الخرافي عليها. علما أن جل المتحولين دينيا لا يعنيهم السؤال، بقدر ما يعنيهم الجواب. فرغبتهم تكون في التخلص من القلق الحضاري، والفراغ الروحي، باحثين عن مركب للنجاة دون أن يهتموا بطبيعة المركب، وإلى أين يسر!؟ وهم مهيأون، نفسيا، واجتماعيا، واقتصاديا، لعملية مسح دماغي بأبسط الإجابات، التي غالبا ما تكون «مغلوطة» ولا «عقلانية» ولا «تاريخية»، بل في غالبتيها مسيئة ومدمرة ومعرقلة لأية عملية إصلاحية أو تجديدية ننشدها لخطابنا الثقافي وديننا الإسلامي المتنور.. - تغييب واضح، وخطير، للأسلام الحضاري، من حيث هو تنوع وتعدد واختلاف، وجدل، وكلام، وفلسفة، وآبداع وإضافات حضارية واعية. ومادام أن المتحولين يسعون إلى البحث عن الخرافي والسحري والأسطوري، لميلهم الخاص نحو التخلص من العقلانية البرغماتية، وتسرب «النسبية» إلى أعماق وعيهم، فإن المشرفين على هذا المجال (الديني من العرب المهاجرين) يتشكل لديهم وَهْم أن منهجهم مقنع وأنهم على الطريق الصحيح، وهكذا يتجذر الخطاب الخرافي الذي لا علاقة له بإسلامنا الأنواري. - ماذا قدم المتحولون للفكر الديني؟ وما هي أوجه الدعم التي يمكنهم أن يقدموها، حضاريا وثقافيا ومعرفيا، لكل قضايانا، ثم ما هي مراكز ثقلهم داخل النسق الاجتماعي الأمريكي؟ الظاهر، كميا، أن قادعتهم تتسع، ولكنهم يظلون في الهامش الثقافي والاقتصادي والسياسي.. قد يكسبون مناصب أو أرباحا، وقد تكون لديهم ثروات، لكن ذلك يظل على الهامش، وغير مؤثر بالصورة التي قد تحدث ثورة على التصورات التي يتم صناعتها بذكاء وتقنيات غاية في التعقيد من قبل الخطاب المهيمن. - في الوقت الذي يهتم فيه المهاجر بدخول مسيحيين في الإسلام، نجدهم يتهانون في تربية أبنائهم، بل ويدخلون في صراعات ومشاحنات وصدامات تنعكس سلبا على كل العلاقات، سواء بين الآباء والبنون، أو بين الأبناء ورفاقهم وزملائهم في الجوار والمدارس، أو بين الأبناء ومجتمعاتهم الأصلية. فالإحساس النوسطالجي، والشعور العميق بالاغتراب، يجعل المهاجرين الذين هاجروا في ريعان شبابهم يلجأون إلى المسجد، حيث يتم تداول نفس المشاعر وتفريغ الهموم، وهو ما ينتج عنه: غياب الأب، شبه الدائم عن البيت، بسبب توزيع وقته بين العمل الكثير لضمان لقمة العيش، وأعمال المسجد التي يتطوع لها. وما حضوره في البيت إلا كسلطة عليا، يكتفي بالأوامر والنواهي والنصائح، ويعتبر واجبه منحصرا في ضمان المسكن والملبس والطعام. كما أنهم يختزلون مستقبلهم في حلم العودة إلى الوطن الأصل.. ولا يتوقفون عن ترديد عبارات واضحة تميز بين «النحن» و ال «هم/الآخر»! وإذا كنا نعي مدى أهمية المسجد، كمؤسسة دينية وثقافية ودورها الحضاري والاجتماعي في تنمية وتقوية مشاعر الانتماء، فإن ما تفعله، وما تسوقه من ثقافة، يظل دون الحد الأدنى مما ينبغي فعله، وذلك في ظل غياب استراتيجيات مسكونة بخلفية دينية تنويرية، ذات قلق حضاري معرفي يعي سياقه، والتحديات التي تحيطه، وكذا التقنيات الموظفة من قبل صناع الأنظمة ومنطقها. - أما ما يطلق عليها ب«الجمعيات المدنية» فهي، وإن جعلت من مكاتب مقرات لها، ولا دورلها داخل المساجد، فإنها تدور في فلك المساجد ولا تختلف من حيث الجوهر عن ما تقوم به مثيلاتها التي ترعى المساجد. ويمكن أن نسجل الملاحظات التالية بخصوصها: - غياب تصور لدى جل الجمعيات، وهي لا تعرف حدود عملها، ولا تستفيد مما راكمته من أعمال وخبرات، فتختلط لدى أصحابها الأمور، فتجدهم يوزعون اهتماماتهم بين الديني الروحي، من خلال إقامة احتفالات دينية وإعطاء دروس في مبادئ الإسلام وتحفيظ القرآن للصغار، والعمل الاجتماعي كالوساطة لأفراد والوقوف إلى جانبهم في مشاكل وطوارئ تعترضهم. - هيمنة عقلية «العصبية»، فكل جالية قطرية تهتم بأفراد قطرها، ومن الصعوبة أن تجد انفتاحا وتواصلا مرنا بين أطياف الجاليات، ومن ثم يستحيل أن تكون هناك مشاريع ثقافية تهم العرب ككل. - تسويق المنتوج الثقافي الشعبي (الشعبوي) فنيا وأدبيا وسياسا وفكريا، الذي يتراوح بين الإسفاف والبساطة والضحالة والرداءة. ومن ثم يلاحظ المتتبع أن الجالية تصبح عبارة عن ملحق رسمي لثقافة يروجها النظام الرسمي للبلد، والشعار الثابت «الجهمهور عايز كده»!! - تهافت العديد من رؤساء الجمعيات على «الدعم» واسمالة الجهات المانحة لمنح (هي عبارة عن فتات يساهم في التطويع والإخضاع والتهمش) ، بل إنها تصبح ورقة لنيل موطئ قدم مع السلطات الحكومية للوطن الأم، والسلطات المحلية في البلد المضيف. وإجمالا، فإن «الجمعيات المدنية» لم تكن وليدة حاجة ثقافية أو حضارية، وإنما هي نتيجة ثقافة سياسوية إقصائية، إذ إن العديد من الجمعيات الدينية، التي كانت سباقة للعمل في هذا المجال، قد راكمت خبرات في مجال الدعم والتسيير، وأنتجت أشخاصا يهيمنون بما أسسوه من علاقات عامة، وانخراط في المنطق «حوار الثقافات، والحضارات، والأديان» [لكن أي حوار وأية ثقافة وأي دين وأية حضارة] قد جعل الكثيرين في الهامش، وهو ما استحالت معه كل المحاولات لأن يجد مكانا له داخلها، مما دفع بالبعض إلى الانتفاض -في صمت وهدوء لاواع أحيانا- والبحث عن بدائل تسعفهم على تحقيق نزوعاتهم وطموحاتهم. في ظل هذا الواقع، يبقى الخطاب الفكري والثقافي والفسلفي والفني العربي، في صوره الأكثر إشراقا -تراثا أو حاضرا- غائبا، ومغيبا. ولعل أخطر ما في الأمر، أن هناك تواطؤا واضحا، من قبل العرب أنفسهم، والجمعيات رغم كثرتها، في إقبار مخزوننا وحركيتنا الإبداعية العربية الإسلامية المتميزة. والجميع، العرب والمسلمون، قبل الأمريكان -الآن- يسعى جاهدا من أجل إخفاء نور شمس مشرقة بأصابع اليد، في عالم يشهد فيه الحراك الثقافي العربي دينامية وقوة إبداعية، تدرس وتترجم في كبرى الجامعات الأمريكية من هارفرد إلى براركلي، ويتم تمييع مستقبلنا «المهجري» بالأغاني الشعبية الرديئة وصور فلكلورية بائسة لا تتجاوز «وجبة الكسكس» و «الدجاج المشوي»! هكذا، تكتشف أن الجامعات الأمريكية ومكاتب الدراسات والأبحاث، تتداول فكرا ومعرفة وثقافة وفنا عربيا ثريا، لكن إخواننا منشغلون بتأسيس جمعيات «صغيرة»» كل طموحاتهم في أن يكون اسمه على بطاقة الزيارة (كارت فيزيت) وتحته صفة «رئيس».. وهكذا تعدم الهوية الفكرية العميقة بأيادينا، وهو ماينطبق عليه المثل المغربي البليغ: «لي حرث الجمل دكو»!!!