في لندن حمل متظاهرون، نهاية الأسبوع الماضي، لافتات كتبوا عليها: «رئيس أكبر عصابة لاستغلال الأطفال». رُفعت اللافتات في وجه البابا بنديكتوس السادس عشر، الذي كان في زيارة لبريطانيا. إذا عرفنا حجم الرجل بين المسيحيين، بكل تلويناتهم، قد نندهش، نحن الملاحظين من داخل ثقافة عربية إسلامية مختلفة عن غيرها، من هذا التجريح. لكنها «حرية التعبير» في الغرب، كما يحلو للبعض أن يسميها عندما يريدون تسخيرها لما يريدون. «حرية التعبير» هاته هي التي سمحت للقس الإنجيلي تييري جونز بالتهديد بحرق المصحف والمضي بعيدا في قراره، إلى حين تحقيق المبتغى الحقيقي من وراء «حملته»، والذي كان، بكل بساطة، هو جلب الأنظار إليه وتمرير خطاب العنصرية ضد الإسلام والمسلمين في ذكرى أحداث 11 شتنبر. في هذا الملف، نلقي الضوء على مختلف جوانب الموضوع، من خلال طرح سؤال العلاقة بين ما وقع وبين مقولة «صدام الحوارات»، التي اشتهرت تحت قلم صامويل هنتينغتون، على خلفية الاستعداد الفكري والجيو استراتيجي والثقافي السائد خلال العقود القليلة الأخيرة في الغرب.
قبل أيام معدودة، فاجأ القسٌ تيري جونز الأمريكيين بعزمه على إحراق مجموعة من المصاحف في يوم ذكرى أحداث 11 شتنبر، مستغلا الفرصة، في الوقت نفسه، للتنديد بقرار السلطات الأمريكية السماح ببناء مسجد ومركز ثقافي إسلامي في موقع «غراوند زيرو»، القريب من برجَي التجارة العالمية المنهارَيْن. ومنذ الإعلان عن قراره، أضحى القس موضوع حديث لا منقطع في أمريكا وصارت كنيسته، رغم محدودية مريديها، موضوعَ متابعة إعلامية كبيرة تجاوزت حدود أمريكا إلى العالم العربي والإسلامي والأوربي. وزاد القس من محاولاته الاستفزازية في أحاديثه عن الإسلام والمسلمين، معتبرا دينهم دين عنف وقتل. وفي خلال ذلك، نظمت تظاهرات سلمية في أمريكا في «غراوند زيرو»، احتجاجا على قرار بناء المركز الثقافي الإسلامي والمسجد، قابلتها أخرى مؤيِّدة، نظّمتْها أوساط إسلامية. قرار القس استدعى تدخل الرئيس الأمريكي ووزيرته في الخارجية. فقد اعتبر أوباما أن خطة حرق القرآن لا تخدم إلا مصالح «القاعدة»، من حيث إنها تفتح الباب أمام مزيد من التطرف الإسلامي والإيمان بالجهاد التكفيري. ولم يفتْ أوباما التذكيرُ بأن العدو اليوم ليس هو الإسلام، بل تنظيم القاعدة. أما هيلاري كلينتون فقد ندّدت بالخطة في اجتماع رسمي حضره عدد من ممثلي المجتمع المدني، وعبرت عن ارتياحها من الموقف المعارض الذي أبداه الكثير من رجال الدين والعلمانيين في أمريكا. أسئلة كثيرة تُطرح على هامش القضية، منها: هل يمكن اعتبار الحادث عارضا؟ هل هو علامة على التشنج الديني المسيحي في أمريكا في علاقته بالإسلام والمسلمين؟ هل وراء القضية خطة تستجيب لفكر معيَّن يرى في الإسلام العدوَ الجديد للغرب، بعد سقوط الاتحاد السوفياتي؟ هل لا يعدو الأمر أن يكون مجرد رغبة عابرة لقس مسيحي أراد «إشهار» نفسه، في ظل حرية التعبير التي يتمتع بها في بلد كأمريكا؟!... كل الأطروحات صحيحة لتبرير الواقعة كل الأسئلة التي طُرحت لها نصيب من المشروعية، باعتبار الأجوبة عنها تجد لها مبرراتها. فإذا قلنا، مثلا، إن الحادث عارض، فهذا وارد، اعتبارا لأن المجتمع الأمريكي مجتمع منفتح على كل الأطروحات، مهما كانت بسيطة وشخصية. وفي ما يتعلق بسؤال الإسلام والصراع مع الغرب، فالأطروحة لها الكثير من المبررات، في ظل ما كُتب في الموضوع حتى الآن، خاصة من قِبَل المفكرين المؤثرين في الفكر الغربي، وفي الإعلام. فصدام الحضارات، الذي نظر إليه برنار لويس في بداياته قبل أن يُشهره صامويل هانتينغتون على نحو واسع، وجد في الأجواء السائدة في العالم العربي -الإسلامي والخلافات الجارية في الشرق الأوسط والبروز القوي للإسلام السياسي في أكثر من منطقة في العالم، مرتعا خصبا أسهم في انتشاره على نحو واسع. في الوقت نفسه، عمل منظِّرو تيار المحافظين الجدد في الإدارة الأمريكية، على عهد الرئيس بوش –الابن، على تجسيد الأطروحات التي تمتح من مفهوم «صدام الحضارات» على أرض الواقع، عندما اعتبر عدد منهم أن غزو العراق ونشر الديمقراطية في الشرق الأوسط عن طريق ما سمي «الفوضى الخلاّقة» و«عدوى الديمقراطية الإسرائيلية» هو نوع من «الجهاد» المسيحي في العمق. وقد رأى العالم كله كيف أن صقور البيت الأبيض آنذاك كانت لا تبالي بأحد ولا بأي قيمة إنسانية في ما كانت تفعل، إلى حد أن الرئيس بوش قسّم العالم إلى قسمين، بعد أحداث 11 شتنبر، على أساس «من معي» و«من ضدي»، بدعوى محاربة الإرهاب.. فكانت بداية الحرب في أفغانستان وانطلاق حلقات مسلسل منح «تزكيات الاعتداء على حقوق الإنسان» خارج أمريكا باسم «الحق في الحصول على المعلومات من الإرهابيين». في السياق نفسه، جاءت حلقات التعذيب في سجن «أبو غريب» لتعزز أطروحة «الصدام الديني» عندما أرغمت جندية أمريكية سجناء عراقيين على سب الدين الإسلامي وعلى أكل لحم الخنزير. وعندما أُرغم سجناء على التعري وإهانة بعضهم البعض. فقد بدا واضحا أن البعد الديني كان حاضرا عند الأمريكيين (المتورطين في تعذيب السجناء العراقيين)، من خلال الإمعان في إهانة القيم الإسلامية عند السجناء. نتذكر هنا كيف أن الأمريكيين هرعوا، بأعداد كبيرة، إلى المكتبات بُعيد أحداث 11 شتنبر، لشراء نُسَخ مترجمة للقرآن. فقد كان الكشف عن هويات منفذي العمليات الإرهابية ضد أهداف أمريكية ووقوف تنظيم «القاعدة»، بزعامة بن لادن، وراء العمليات حافزا كبيرا دفع الناس إلى الاطلاع على القرآن، من أجل التعرف على طبيعة الدين الإسلامي وعما إذا كان يحمل ما يبرر أو ما يأمر بالقيام بتلك العمليات. يمكن القول، إذن، إن بداية الرغبة في التعرف على الإسلام عند أغلبية الأمريكيين بدأت مع أحداث 11 شتنبر 2001. إلا أن «فترة التعارف» هاته ليست أبدا بالكافية، وهو ما يجعل سبل الحوار الثقافي معطَّلة وبعيدة عن المستوى الذي يطمح له مؤيدو السلم الحضاري بين المثقفين والمفكرين في العالم. ويزداد وضع الحوار صعوبة بالنظر إلى طبيعة المجتمع الأمريكي الذي يتميز بالانكفاء على ذاته واكتفائه بالمحلي والداخلي على حساب العالمي والخارجي وتأثره بالصور النمطية المروجة على نطاق واسع من قِبَل وسائل الإعلام، الخاضعة لمنطق اللوبيات والشبكات المهيمنة، المتحكمة في توجيه الرأي العام. وعليه، يبقى العالم الإسلامي مجهولا بالنسبة إلى المواطن الأمريكي الذي لا يشغل باله بمعرفة الآخر، طالما الآخر هو المتشوق إليه والطامح إلى حضارته ومعرفة مجتمعه، وطالما أمريكا تحقق ذاته وتحميه. أما في أوربا، فالوضع مختلف شيئا ما. فالمجتمعات الأوربية، رغم تعددها، تتجاوز معرفتُها بالعالم العربي الإسلامي حدود ما يعرفه المجتمع الأمريكي عنه. إذ يبقى هذا العالم مجالا له علاقة بالثقافة الأوربية، خاصة أن المسلمين استوطنوا أوربا ونشروا الإسلام في بعض مناطقها، بل إن الأندلس باقية في المخيال الأوربي كذكرى ملتصقة به. كما أن طبيعة المجتمعات الأوربية تختلف عن نظيرتها الأمريكية من حيث استعدادها للتعرف على ثقافة الآخر، فضلا على القرب الجغرافي والروابط الاستعمارية القديمة و«الجديدة»، التي فتحت المجال لهجرات شعوب بعض البلدان العربية الإسلامية إلى أوربا والاحتكاك بثقافاتها. إلا أنه، رغم هذا التقارب الثقافي والوجداني، لا يمكن القول إن مقولة «صدام الحضارات» تجد مجالها الخصب في هذه العلاقة المتميزة بين المجالين المذكورين، بقدر ما أن الأوضاع الاجتماعية والسياسات الأوربية الجديدة وبروز أبناء الأجيال المهاجرة كقوة تطالب بحقوقها في الوجود والعمل والكرامة والحفاظ على الهوية هي التي استغلها البعض ليركب موجة «صدام الحضارات»، ضدا على قيم الديمقراطية وأفكار الحداثة التي انبنت عليها أوربا الحديثة. «صدام الحضارات» في أوربا، إذن، ليس صداما بين الغرب والإسلام، بل هو سوء فهم متبادَل بين الأوربيين وبين الوافدين على أوربا، بمن فيهم أولئك الذين وُلدوا فوق تراب البلدان الأوربية ويحملون جنسياتها. أما إذا تبنينا أطروحة أن القس الأمريكي قام بما قام به من داخل فضاء الحرية الذي تضمنه له الحقوق الإنسانية في بلده، فذلك يحيلنا مباشرة إلى ما يمكن أن نصفه بالانزلاقات والانحرافات التي يحملها الفكر الديمقراطي نفسه. فإذا كانت الديمقراطية تضمن للفرد العيش بما لا يُضر بكرامته، وفق أنظمة وقوانين تؤطر الحياة اليومية، فإنها في الوقت نفسه لا تستطيع التخلص من بعض «الشوائب» الملتصقة بها.. صحيح أن الديمقراطية توفر مجال التصرف الحر، لكنها لا تحمي الآخر من تبعات هذا الحق، خاصة إذا كان الآخر ما يزال يعيش مرحلة التأثر العاطفي والوجداني والانفعال، باسم الغيرة على القيَّم المشتركة. النظام الديمقراطي ضروري لكنْ.. قبل عقود، قال رئيس وزراء بريطانيا وينستون تشرشل إن «الديمقراطية نظام سيء، لكنها أقل سوءا من الأنظمة كلها»، وهو ما يزكي كون الديمقراطية لا تحمل إلا الصالح والصحيح لشعوبها، بل الطالحَ أيضا. فكم من مستبد استبد بشعبه باسم الديمقراطية!.. يثني كلود أليغر، السياسي والباحث الأكاديمي الفرنسي، على الديمقراطية كنظام حكم وحياة. إلا أنه يتساءل في مقال نشرته مجلة «لوبوان» في عدد 17 شتنبر 2010: «أليست هناك قيم أخلاقية أخرى تعارض قيم الديمقراطية؟.. أعني هنا حرية التفكير، حرية الكتابة، حرية السفر (...) حرية العدالة، سواء تعلق الأمر بالعلاقة مع القوانين أو بالعدالة الاجتماعية، أعني كذلك تساوي الفرص أمام الحياة، التضامن بين المجموعات وبين الأجيال (...) هل هذه الحقوق الإنسانية متضمنة في مفهوم الديمقراطية على الطريقة الغربية؟ بديهي أن الجواب هو لا». هل يمكن القول، إذن، إن القس جونز لم يكن يريد إلا ممارسة حق حرية التعبير في بلده تجاه وضع يعتبر المسلمين والإسلام سببا فيه؟ ربما. لكن الحقيقة هي أن ثمة شعورا سلبيا يسود المجال الغربي، اليوم، في علاقته بالإسلام وإلا ما كان القس يربط بين خطته وبين ذكرى 11 شتنبر وقرار السلطات الأمريكية السماحَ بتشييد مركز إسلامي ومسجد في موقع «غراوند زيرو»!.. ولعل ما يغذي هذا الانطباع هو جهل أمثال القس جونز بحقيقة الإسلام وبالثقافة الإسلامية. في الوقت نفسه، علينا أن نعترف، نحن أيضا كمسلمين، بأن تسامحنا الديني ليس قيمة مشترَكة بين الجميع، بل هي حكر على المعتدلين منا، بينما يستمر أصحاب الأفكار المتشددة في «جهادهم» ضد كل ما يرتبط بالغرب، وهو ما يُكرِّس صورة جاهزة عن الإسلام ويعززها، في ظل قصور مجهود اكتشاف ومعرفة الأديان الأخرى من جانب كبير من الغربيين. أضف إلى هذا وذاك أن ثمة جزئيات بسيطة غالبا ما يكون لها الأثر الكبير في رسم الصور النمطية وفسح المجال للتيارات المتطرفة لكي تلعب دورها الهدام في حوار الحضارات. ما حصل في سويسرا بخصوص الاستفتاء حول منع المآذن لم يكن استفتاء ضد الإسلام والمسلمين، كما يُقرّ بذلك عدد من الباحثين (سويسرا على الخصوص)، بل كان تعبيرا فرديا من الناخبين السويسريين عن مواقفهم من بعض الممارسات الإسلامية، انطلاقا مما يشاهدونه ويلاحظونه في سلوكات المسلمين حولهم. فالديمقراطية المباشرة في سويسرا تسمح بهذا النوع من الاستفتاء. إلا أن العنصريين والمتطرفين استغلوا الفرصة ليجعلوا من نتيجة الاستفتاء موقفا وطنيا عاما أساء كثيرا إلى حوار الثقافات وإلى جسور التبادل الحضاري. ثم إن نسبة رفض منع بناء المآذن، حسب الباحث السويسري في معهد «روليجيوسكوب»، باتريك هايني، كانت كبيرة في المدن السويسرية الكبرى (جنيف ولوزان...) التي تقيم فيها أعداد كبيرة من المسلمين، مقارنة مع غيرها، وهو ما يعني أن المواطنين الذين يحتكّون بالإسلام والمسلمين يعرفون أو هم مطلعون، أفضلَ من غيرهم، على حقيقة الإسلام وسلوكات المسلمين، ويعرفون، بالتالي، أن الإسلام ليس هو «الشيطان»، كما تصوره الحركات المتطرفة، بينما المواطنون الذين يجهلون الإسلام وسلوكات المسلمين في المدن الصغيرة البعيدة عن الحركية الثقافية والاحتكاك المدني صوتوا بأعداد كبيرة لصالح منع المآذن، لأنهم اكتفوا بما ترسَّب لديهم من صور وأحكام جاهزة عن الإسلام.