تمت الزيارة التي قام بها البابا بنديكتوس السادس عشر رئيس الكنيسة الكاثوليكية منذ2005 استناداً إلى خلفية من التباس مزدوج. في الشق الأول من هذا الالتباس، نذكر الاشتباك الذي وقع بين البابا والعالم الإسلامي عندما اتهم الإسلام ضمناً في محاضرة له ألقاها في سبتمبر2006 ب"اللاعقلانية" في التعامل مع فكرة الألوهية، وبالعنف في التعامل العملي مع الديانات الأخرى خاصة المسيحية. وبعد ردود الفعل التي أحدثتها كلماته في الأوساط الإسلامية وقع تبادل للزيارات بين الطرفين وجرت توضيحات من قبل الدوائر المسؤولة في الفاتيكان، واعتبر البعض بناءً على هذا أن الأزمة في علاقة البابا بالعالم الإسلامي قد طويت صفحتها، فيما أصر آخرون على أنها باقية طالما أن الرجل لم يعتذر علناً عما بدر منه من إساءة في حق الرسول الكريم، صلى الله عليه وسلم. أما الشق الثاني من الالتباس، فينبثق من كون البابا رجل دين ودولة في الوقت نفسه، فالفاتيكان ليست مجرد كنيسة ولكنها دولة أيضاً يوجد البابا على رأسها، ولذلك فمن الطبيعي أن تكون له آراؤه في المشكلات التي تواجه الإنسانية، بما في ذلك المشكلات السياسية، وعلى رغم أن رجل الدين -خاصة إذا كان مقامه رفيعاً كحالة البابا- لابد وأن تكون له مواقفه من أمور "الدنيا"، إلا أن وجود البابا على رأس دولة -مهما بلغت رمزيتها- يحتم عليه أن يتبنى هذه المواقف، ولذلك فإن السؤال أصلاً لا ينبغي أن يتجه إلى المحصلة النهائية لزيارة البابا، وإنما يتعين أن ينصب على ملاءمة زيارة منطقة تشهد صراعاً ممتداً لعقود طويلة تجاوزت القرن عمراً. هكذا تعثرت زيارة البابا بين ما هو ديني وما هو سياسي. في شقها الديني حملت من المواقف الإنسانية ما يليق برجل يجلس على قمة التنظيم الكنسي لأتباع المذهب الكاثوليكي في الديانة المسيحية. أما في شقها السياسي، فقد تمخضت عن عدد من المواقف ذات الطابع الدبلوماسي التوفيقي الذي يتجنب لاعتبارات معروفة إدانة السياسة الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية، ويساوي بين الجاني والضحية، ويطرح حلولاً عامة، ويتجاهل ما يشاء من القضايا، وما كان أغنى البابا عن هذا كله. في الشق الديني، كان من الطبيعي أن يحج البابا إلى المغطس، حيث عمّد المسيح عليه السلام في نهر الأردن قبل ألفي سنة، وأن يزور الأماكن المقدسة للديانات السماوية الثلاث، وإن أجبرته السياسة على أن يتغاضى عن الاحتلال الذي تخضع له معظم هذه الأماكن، وأن يكرس كلماته للحديث عن التسامح بين الديانات، وتطلع الكنيسة إلى "تجاوز نزاعات الماضي وفتح الطريق أمام حوار جدي بين الأديان... يهدف إلى بناء عالم من العدالة والمساواة للأجيال المقبلة"، وأن يؤكد التزام الكنيسة الكاثوليكية بالمصالحة الأصيلة والمستديمة بين المسيحيين واليهود، وأن يدعو المسلمين والمسيحيين في الناصرة إلى بناء الجسور فيما بينهم، بعد أن توترت علاقاتهم كثيراً في السنوات الأخيرة، وأن يدعو المسيحيين إلى عدم الهجرة، ملاحظاً أن "عدداً كبيراً من إخوانكم المسيحيين هاجروا أملاً في إيجاد مزيد من الأمن وآفاق أفضل في أماكن أخرى"، وأن يطالبهم بأن يتحلوا بالشجاعة ويكونوا أوفياء للمسيح، وأن يدعو الأساقفة إلى أن يعملوا كل ما وسعهم لمساعدة المسيحيين على البقاء في أرض أجدادهم، وأن يكونوا رسل السلام ورواده، وأن يعززوا حضورهم في النسيج الاجتماعي، والمشاركة في الحوار والعمل مع أتباع الديانات، والثقافات الأخرى، والتمسك بإرثهم المسيحي. كانت هذه نماذج من المواقف الدينية الصحيحة لرجل في هامة بابا الفاتيكان. لكن الأمر يختلف عندما ننتقل إلى الشق السياسي من مواقفه، فهو يصف أصل المأساة الفلسطينية في كلمته التي ألقاها في مخيم عايدة للاجئين بأنها "أحداث وقعت في مايو1948"، ويصف حلقات الصراع المأساوي بعد ذلك بأنها "سنوات النزاع التي تلت تلك الأحداث والتي لم تجد لها حلاً بعد". وهكذا بينما كان حريصاً على إدانة المحرقة بأقوى الألفاظ، وأن يثبت في كلماته وتصريحاته هوية من ارتكبوها، ويصفهم بما يستحقونه من ألفاظ، ويحرص على إثبات عدد ضحايا المحرقة حتى لا يتعرض لطائلة الغضب الإسرائيلية، نجده بالمقابل يصور نشأة الصراع العربي- الإسرائيلي وتطوره وما نجم عنه من كوارث إنسانية وكأنها نبت شيطاني لا يعرف له سبب، وهو تكييف سياسي لكثير من أبعاد الصراع سيصادفنا غير مرة في كلمات البابا وتصريحاته إبان زيارته للمنطقة. في حل الصراع يحمد للبابا على أية حال أنه قد أيد حل الدولتين الذي لا تعرف له ملامح واضحة حتى الآن، واستخدم في هذا الصدد ألفاظاً مؤثرة عن حق الشعب الفلسطيني في وطن يتمتع فيه بالسيادة على أرض أجداده والعيش فيه بسلام داخل حدود معترف بها دولياً، وعلى رغم ذلك فإنه حرص على أن يسجل في هذا السياق أنه صديق للإسرائيليين مثلما هو صديق للشعب الفلسطيني، وهذا جيد، لكنه يردف قائلاً إنه "لا يوجد صديق لا يشعر بالحزن نتيجة للتوتر المستمر بين الشعبين، ويناشدهما: كفى إراقة للدماء. كفى معارك. كفى إرهاباً. كفى حرباً"، وهكذا تبدو الحال وكأن هناك شعبين مشاغبين يتبادلان العنف في علاقتهما بعيداً عن ذكر كلمة واحدة تتعلق بواقع الاحتلال الذي تتعرض له الأراضي الفلسطينية منذ1948 أو -إن كنا من المعتدلين- منذ 1967 . ولذلك كان منطقياً أن يدعو الفلسطينيين إلى "عدم الانسياق إلى العنف"، مع أن الأجدر بهذه النصيحة هم الإسرائيليون، ومع أن ما أسماه البابا العنف يسميه القانون الدولي الحق المشروع في مقاومة الاحتلال. وثمة نموذج آخر يكشف عن طبيعة المواقف الدبلوماسية شديدة الحذر التي تبناها البابا في زيارته يتعلق بقضية الجدار، فهو يتحدث عنه بقوله "لقد شاهدته يلقي بظلاله على بيت لحم... والجدار الذي ينتأ في أراضيكم، ويفصل بين الجيران، ويقسم العائلات، ورغم أن الجدران يسهل بناؤها كلنا نعلم أنها لا تبقى إلى الأبد. يمكن إزالتها"، مشدداً على الحاجة أولاً إلى إزالة "الجدران التي نقيمها حول قلوبنا". لا يبدو من كلمات البابا أن ثمة طرفاً مسؤولاً عن بناء الجدار يمكن توجيه اللوم إليه، وبالطريقة نفسها سوف يزول، فالجدران "لا تبقى إلى الأبد"، لكن الأولوية لإزالة الجدران المعنوية التي يتساوى فيها القاتل والمقتول، وهكذا يضع البابا نفسه كرجل سياسة في موقف أدنى من موقف الجمعية العامة للأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية، فلمَ التصدي للموضوع أصلاً؟ وعن موقفه إزاء العدوان الإسرائيلي الإجرامي على غزة، يطلب إبلاغ عائلات غزة "معانقته الحارة" وتضامنه معها وتعزيته لها على الخسائر والمصاعب. "كونوا على ثقة من تضامني معكم، وتضامني مع مسيرة البناء ورفع الحصار في أسرع وقت"، وهو موقف يحمد للبابا إنسانياً لكنه لا يحقق خطوة واحدة إلى الأمام سياسياً في حل مشكلة المشردين الذين فقدوا المأوى منذ العدوان وحتى الآن، أو مشكلة إعادة إعمار ما دمرته آلة الحرب الإسرائيلية، أو ضمان الغذاء والدواء لأهل غزة، وقد يقال إن هذا هو بالتحديد موقف الدول العربية مما يجري في غزة، وإن الصراع بين "فتح" و"حماس" سبب أساسي بدوره فيما يحدث على أرض القطاع، لكننا نتحدث هنا عن قيادة روحية عالمية بوزن بابا الفاتيكان وليس عن دول تخشى ردود فعل إسرائيل وحلفائها أو فصائل غابت عنها الرؤى، ولذلك كان القول إن الزيارة لم تكن مناسبة في توقيتها على الأقل طالما أن البابا لا ينوي توظيف وزنه المعنوي الهائل باتجاه تخطي المأساة الإنسانية الفلسطينية. هكذا إذن أتى رئيس الكنيسة الكاثوليكية إلى المنطقة حاملاً معه رسالة دينية نقف أمامها احتراماً، لكنه عندما ارتدى ثوب رجل الدولة قصرت مواقفه عن قواعد القانون الدولي المتعارف عليها وعن القرارات الصادرة عن منظمات دولية شبه عاجزة، وعن فتاوى صادرة عن أعلى جهاز قضائي في العالم، وأسقط من محتوى كلماته التي ألقاها ومن الزيارة قضايا بالغة الخطورة كالاحتلال والاستيطان وضم القدس وتهويدها، وهو ما جعل التساؤل مشروعاً حول ما إذا كان توقيت الزيارة أصلاً ملائماً أم غير ملائم. *مدير معهد البحوث والدراسات العربية التابع للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم. عن «الاتحاد» الاماراتية