غادر البابا بينيدكت السادس عشر مساء الأحد الماضي الولاياتالمتحدة عائدا إلى مقره في الفاتيكان بعد زيارة رسمية دامت ستة أيام، زار خلالها العاصمة واشنطن ومدينة نيويورك، وأجرى خلالها محادثات مع الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن وعدد من المسؤولين الأمريكيين. وسائل الإعلام الأمريكية التي تجندت لتغطية تحركات البابا، غيرت كثيرا من لهجتها بعد يومين فقط من وصول رأس الكنيسة الكاثوليكية الذي كانت تصفه بأنه يفتقر إلى الكاريزما ولا يُحسن نطق اللغة الإنجليزية بشكل مفهوم، رغم أنه يتقن ست لغات! وسائل الإعلام التي هاجمت البابا قبل وصوله إلى الولاياتالمتحدة بسبب «تساهله» مع كهنة الكنيسة الكاثوليكية الذين تحرشوا بالأطفال الصغار، غيرت لهجتها وبدأت تصفه بالشخصية النادرة وبرمز السلام بل ب«المعجزة التي تمشي على قدمين»، بعدما اجتمع بعدد من ضحايا التحرش الجنسي داخل الكنيسة، وبعدما صرح بأنه يحس «بالخجل» من الأفعال التي اقترفها الكهنة في حق الأطفال. وسائل الإعلام لم تكن وحدها من غيرت موقفها من البابا، بل ملايين المؤمنين بالكنيسة الكاثوليكية الذين تأثروا بمبدأ فصل الدين عن الدولة الذي تنتهجه الولاياتالمتحدة منذ أكثر من قرنين، حيث تغلبوا على علمانيتهم وتبعوا البابا في تنقلاته داخل العاصمة واشنطن وفي مدينة نيويورك لالتقاط صور مقربة للزعيم الروحي للكنيسة التي يتبعها نحو مليار شخص حول العالم. حتى السياسيون الأمريكيون كانوا يصطفون بخشوع أمام البابا لتحيته أو الانحناء لتقبيل كفه أو خاتمه المقدس كما فعلت رئيسة مجلس الشيوخ، الديمقراطية نانسي بيلوسي، التي لم تعرف كيف تخفي ارتباكها عندما وقفت بين يدي البابا، فما كان منها إلا أن انحنت وقبّلت بنصره الذي يتزين بخاتم ذهبي ضخم! الكثير من وسائل الإعلام افتُتنت بشخصية البابا واستعانت بجيش من المحللين النفسانيين والمتخصصين في علم «لغة الجسد» واللغويين لتحليل كل لفتة من لفتات البابا وكل كلمة من كلماته. بعضهم قال إن البابا كان مرتاحا في زيارته رغم تقدمه في السن وبلوغه الواحد والثمانين عاما الأسبوع الماضي، أما شبكة فوكس فقد استعانت بمتخصص في تحليل الأزياء الدينية، الذي ركز كثيرا على رمزية الرداء الأبيض الفخم الذي ارتداه البابا خلال الصلوات العامة التي أقامها في ملاعب رياضية ضخمة في كل من نيويوركوواشنطن، بالإضافة إلى دلالة الأدوات المذهبة الباذخة التي كان يستعملها في قداسه... تلقى البابا معاملة خاصة منذ وصل مطار أندرو العسكري في ضواحي واشنطن، ورغم أنه لم يُقبّل أرض المطار مثل سابقه البابا يوحنا بولص الثاني، إلا أنه تخلى عن معارضته الشديدة للحرب على العراق، واكتفى بتوصية الرئيس الأمريكي بالرأفة بالمسيحيين العراقيين الذي قال إنهم تعرضوا للتشريد والقتل! البابا جامل الأمريكيين أكثر من مرة، وقال إن أمريكا هي راعية التسامح والحرية في العالم، كما اختار التركيز على لعن «هؤلاء الذين تمتلئ قلوبهم بالحقد والكراهية» ممن نفذوا هجمات الحادي عشر من سبتمبر ضد مركز التجارة العالمي. شبكة السي إن إن استضافت إماما عراقيا للتعليق على كلمات البابا، فقال الإمام غاضبا: «على البابا ألا يتقدم خطوة في اتجاه المسلمين علانية وأن يتراجع خطوتين إلى الخلف في تصريحاته الأخيرة... لقد أثنى البابا على المسيحيين كثيرا بمختلف مذاهبهم، وزار معبدا يهوديا في نيويورك، وصلى على أرواح ضحايا المحرقة بحرقة كبيرة، لكن نصيب المسلمين من تصريحاته كان مجرد تلميحات بأن قلوبهم مليئة بالحقد، وهذا كلام لا يشجع بتاتا على حوار الأديان». اختتم البابا زيارته إذن بعدما فتن الأمريكان بلباسه الباذخ وسيارته المرسيدس المميزة بغرفتها الزجاجية المضادة للرصاص وبكل البهرجة البروتوكولية التي ترافق تحركاته، ولم يغب عن ذهنه خلال الدقائق الأخيرة التي قضاها في مطار جون كندي، قبل إقلاع طائرته مساء الأحد، أن يخطب ود الأمريكيين للمرة الأخيرة عندما ختم كلمة مقتضبة برفع ذراعه عاليا والهتاف God Bless America، وتعني بارك الرب أمريكا، رغم أن زعيم الكنيسة التي ينتمي إليها المرشح الديمقراطي باراك أوباما، جيريمايا رايت، اشتهر خلال قداس غاضب بقوله: God Damn America، وتعني لعن الله أمريكا، وكانت له لائحة طويلة من الأسباب التي من أجلها لعن أمريكا، وعلى رأسها اعتقاده بأن الحكومة الفيدرالية اخترعت فيروس الإيدز للتخلص من السود، وبأنها تستورد آلاف الأطنان من المخدرات لتوزيعها بين الشباب السود ثم تعتقلهم بعد ذلك بتهمة تعاطي المخدرات وترميهم في السجون!