لا أحد يجادل في الحق في الحياة، باعتباره طبيعيا، ولا أحد يمكنه أن يدافع عن أي تطرف كيفما كانت طبيعته ومصدره وهويته. إن المتتبع للشأن العالمي، والتحولات الطارئة، وما يتبعها من اتساع للهوة بين الفئات المهيمنة التي تتجمع جل الثروات بين يديها وتتحكم في الشأن السياسي، لن يحتاج إلى عناء كبير كي يستنتج الوضع المأساوي، والمضايقات التي يتعرض لها العربي المسلم. كما أن الأثر الاستعماري، بل الهيمنة الخطيرة للدول المستعمرة، وتدخلها في كل مجالات الحياة للشعوب المستعمرة سابقا، تبدو واضحة وبصورة مفضوحة لم يعد المهيمن في حاجة إلى إخفائها، وهو ما تكشفه الأحداث والوقائع يوميا. غير أن هذا لا يمكنه أن يبرر مسؤوليتنا عن وضعنا التراجيدي، سواء كمجتمعات عربية وإسلامية داخل بلدانها، أو كأقليات مهاجرة مقيمة، أو كمواطنين اكتسبوا جنسية الدول التي أقاموا فيها. إذ تبدو سلوكات الجاليات وسط بلدان الاستقبال مثيرة للغاية وتطرح العديد من الإشكاليات المتعلقة بالاندماج والهوية والتواصل مع السياق العام الذي يحيون فيه، لأن طبيعة الثقافة المهيمنة على العقليات العربية الإسلامية تجعل منهم يتصورون أنفسهم ضحايا الغرب من جهة. ومن جهة أخرى يعتبرون الغرب بما هو مجتمعات وحضارة "عدوا" ينبغي مقاومته والتصدي له ولو بأضعف الإيمان، وهو الحذر من الاندماج في ثقافته والتعامل بقيمه. إذ مازال الناس يعتبرون-مثلا-شرب الماء من كأس واحدة أو استعمال ملعقة واحدة رمزا للتآخي والمحبة، كما أن الهيمنة الدينية على كل سلوكاتهم تجعل منهم دائمي التذكير، للآخرين، بأنهم مختلفون، وهذا الاختلاف ليس حقا، وإنما يرون فيه أنفسهم مالكي الحقيقة، بينما "عدوهم الغربي" سارق أمجادهم وسر حضارتهم، لا يعدو أن يكون مجرد "كافر" منبوذ وملعون يتسامحون معه فقط، وهم بذلك يعطفون عليه ويرأفون به. إن خطاب الكراهية والعداء، وقد أشرنا إلى بعض تجلياته في عدة مقالات سابقة، الصادر عن الأقلية العربية الإسلامية، يساهم بشكل خطير في الترويج للصورة النمطية "للمسلم". وهو ما يجد صداه لدى فئات واسعة من الشباب والأفراد دخل المجتمعات الغربية، وخاصة أوروبا وأمريكا، بحيث إن الأقليات الإسلامية لم تستثمر في مشاريع إعلامية، وفنية، وفكرية، وفلسفية من أجل محاورة النسق المهيمن واختراقه، وإنما هي تكرس ما يروج عبر الاستثمارات المالية والبشرية الضخمة في المساجد/الجوامع. وهو استثمار لم يتمكن من التخلص من الخطاب السلفي/الظلامي، الذي مهما كان مدعيا للحداثة والتجديد، فهو مثقل بالكراهية للغرب، ومثقل بالرفض للقيم الغربية. لنعد إلى الحدث اللاإنساني الذي راح ضحيته خمسون مسلما في نيوزيلاندا، إذ اهتمت وسائل الإعلام بارتداء رئيسة الوزراء للحجاب احتراما للمسلمين! والحال أن هذا الرمز وما يتعبه من رموز "دينية إسلامية" أخرى، من قبيل "الحلال" (نقصد اقتصاديات الحلال من أبناك إسلامية في الغرب ومحلات لحم الحلال وبيع الحجاب) صار دالا في ذاته، وصار المسلم هو صاحب اللحية، والمسلمة تلك المرتدية للحجاب، أما دون ذلك فصار هو الاستثناء، دون أن ينعكس خطاب القيم الديني الذي يتباهى به المسلم في حواراته وجدالاته مع الآخر على سلوكه اليومي. كما أن المسلمين يعتقدون أن نجاحاتهم، واختراقاتهم للنسق الأمريكي - مثلا - يتحقق من خلال التفوق الدراسي لبعض أبنائهم، أو ولوجودهم مناصب تقنية أو علمية هامة. والحال أن ذلك لم ولن يكون أبدا علامة نجاح حضاري قد تغير الصورة النمطية التي تنحت وتزخرف بعناية فكرية قبل أن تكون سياسية. فبالعودة إلى إحصائيات معهد بيو "PEW"، يفوق عدد المساجد في الولاياتالمتحدةالأمريكية 2100 مسجد، بينما عدد المسلمين حوالي 3٪ من مجموع السكان. وفي ولاية ماستشيوسيت، التي لم تكن من الولايات التقليدية لاستقبال المهاجرين العرب المسلمين (للعلم فإن العرب المسلمين أقل من العرب المسيحين في أمريكا، وإن أغلب المسلمين المقيمين في أمريكا هم أفغان وباكستانيين، أي غير عرب) يشكل عدد المسلمين 1٪ من مجموع السكان الذين يبلغ عددهم ستة ملايين ونصف (حوالي 6.800 م)، وهي أقلية فتية وحديثة الهجرة، وتتميز بعدم الاندماج، وقد استطاعت أن تؤسس ما يفوق العشرين مسجدا، بتكلفة تعد بملايين الدولارات. وهي جميعها لا تختلف من حيث المضمون عن بعضها، بل هناك "ملل ونحل" وتجاذبات، وصراعات خفية، وسباق محموم نحو استجلاب "المريدين"، جاعلين من "تحفيظ القرآن" للصغار و"تعميد الملتحقين بالإسلام" و"تعليم العربية" سلعتهم الوحيدة. وقد نجحت هذه الأقلية، من خلال الطلبة المسلمين وجمعياتهم، في افتتاح مسجد في جامعة هارفرد وآخر في جامعة إم أي تي. غير أن السؤال الذي يؤرق كل متتبع: ماذا حققت هذه المؤسسات؟ وماذا غيرت؟ وما هي قيمتها المضافة في السياق الأمريكي الذي يضج "بتطاحنات" الاختلاف والهويات؟ وماذا قدمت للمشهد الفكري؟ وما هو إسهامها في تغيير الصورة النمطية للمسلم في مجتمع مؤمن بأن الواقع الراهن هو "راهن" ما بعد أحداث شتنبر؟! لعل أخطر الإجابات عن هذه الأسئلة هي الأجوبة التي يقدمها الواقع الأمريكي الآن، إذ إلى جانب المنظمات المتطرفة والعنصرية المناهضة للسود والمثليين، والنازيين الجدد، التي كانت تجد فضاءات أنشطتها في بعض ولايات الجنوب الأمريكي، هناك "منظمات معادية للمسلمين". فعن مؤسسة "SPLC" التي تصدر تقريرا سنويا عن أنشطة المنظمات العنصرية، ورد في التقرير الأخير أن عدد هذه التنظيمات ارتفع إلى 954 تنظيما عنصريا، من بينها 114 تنظيما معاديا للمسلمين، وهو تنظيم ظهر إلى الوجود في السنتين الأخيرتين في العديد من الولاياتالأمريكية، وله وجود حتى في ولاية ماستشيوسيت المعروفة بانفتاحها وتعددها الثقافي والهوياتي. للأسف، إن لغة العنف والتطرف تزداد بسبب التعقيدات الاجتماعية والاقتصادية. وإذا كان للإعلام الغربي مسؤولية في ذلك إلى حد كبير، فإن الأقليات المسلمة المهاجرة، وخاصة الذين يشرفون على "الجمعيات" و"المساجد/الجوامع" يتحملون قسطا مهما من هذه المسؤولية، نظرا لضعف مستواهم الفكري، وهشاشة تكوينهم، وجهلهم بالسياق الفلسفي للحداثة التي ينعمون بكل ثمارها في الغرب، بدءا بالعلمانية وانتهاء بمساعدات الدولة الاجتماعية! إن لعب دور الضحية، الذي طالما أتقنه المهاجر العربي المسلم في الغرب، دون أن يحوله إلى طاقة خلاقة، لم يعد ينتج غير ردود الفعل السلبية، وإن "مفهوم الهوية" كما يروجه سدنة مؤسسات الجوامع، لا يزيد الوضع إلا استعصاء. كما أن فهم المسلم لدوره في العالم هو فهم أثبت عدم نجاعته، بل وفشله في إيجاد مكانة فاعلة للمجتمع الإسلامي في السياق الحضاري المعقد. على المسلمين العرب، خاصة، أن ينفتحوا على "الحياة" بمعانيها الأكثر إيجابية، وأن يجعلوا من الدين مكونا ثقافيا داخل هويتهم، وليس العكس. وعليهم أن يتعلموا أن مؤسسات الدين لها دور روحي، وأن مجالات الحياة الأخرى هي أكثر اتساعا من جبة الدين. فالفن والمسرح والموسيقى والفكر والأدب والرقص، مكونات ينبغي أن تنضاف إلى اهتماماتهم، وتنشئة الأبناء لا تقاس بنجاحهم الدراسي، وحصولهم على وظائف في الطب والهندسة، لأن ذلك لن يصنع من هؤلاء سوى تقنيين، بينما نحتاج إلى صناع أفكار، وصناع أسئلة، ومروجي قيم إنسانية تؤمن بها كل المجتمعات مهما اختلفت.