السقوط من الطابق الثالث ينهي حياة أم بطنجة    أمن البيضاء يحقق مع جزائريين وماليين على خلفية دهس بين 7 أشخاص بسيارات رباعية    ميناء طنجة المتوسط يقوي قدراته اللوجستية باستثمار 4 مليارات درهم    الدرهم يتراجع بنسبة 1,18 في المائة مقابل الدولار الأمريكي بين شهري شتنبر وأكتوبر (بنك المغرب)    وقفات تضامنية مع غزة ولبنان بعدد من مدن المملكة        عدد وفيات مغاربة فالنسيا بسبب الفيضانات بلغ 5 ضحايا و10 مفقودين    الدريوش يتلقى استدعاء لتمثيل هولندا    بواسطة برلمانية.. وهبي يلتقي جمعية هيئات المحامين بالمغرب غدا السبت    فعاليات الملتقى الجهوي الثالث للتحسيس بمرض الهيموفيليا المنعقد بتطوان    مدافع الوداد جمال حركاس: تمثيل "أسود الأطلس" حلم تحقق        أكديطال تتجه لتشييد مصحة حديثة بالحسيمة لتقريب الرعاية الصحية    منظمات أمازيغية تراسل رئيس الجمهورية الفرنسية حول استثناء تعليم اللغة الأمازيغية    توقعات أحوال الطقس ليوم السبت    الوسيط يعلن نجاح الوساطة في حل أزمة طلبة الطب والصيدلة    سانت لوسيا تشيد بالمبادرات الملكية بشأن الساحل والمحيط الأطلسي    ابنة أردوغان: تمنيت أن أكون مغربية لأشارك من أسود الأطلس الدفاع عن فلسطين    حجوي: 2024 عرفت المصادقة على 216 نصا قانونيا    التصفيات المؤهلة لكأس إفريقيا لكرة السلة 2025.. المنتخب المغربي يدخل معسكرا تحضيريا    "جبهة نقابية" ترفض المس بالحق الدستوري في الإضراب وتستعد للاحتجاج    المغرب وفرنسا… إضاءة التاريخ لتحوّل جذري في الحاضر والمستقبل    الطفرة الصناعية في طنجة تجلعها ثاني أكبر مدينة في المغرب من حيث السكان    أسعار الغذاء العالمية ترتفع لأعلى مستوى في 18 شهرا    دوري الأمم الأوروبية.. دي لا فوينتي يكشف عن قائمة المنتخب الإسباني لكرة القدم    من مراكش.. انطلاق أشغال الدورة الثانية والعشرين للمؤتمر العالمي حول تقنية المساعدة الطبية على الإنجاب    ظاهرة "السليت والعْصِير" أمام المدارس والكلام الساقط.. تترجم حال واقع التعليم بالمغرب! (فيديو)    بيع أول لوحة فنية من توقيع روبوت بأكثر من مليون دولار في مزاد    مصدر من داخل المنتخب يكشف الأسباب الحقيقية وراء استبعاد زياش    وسيط المملكة يعلن عن نجاح تسوية طلبة الطب ويدعو لمواصلة الحوار الهادئ    "أيا" تطلق مصنع كبير لمعالجة 2000 طن من الفضة يوميا في زكوندر    كوشنر صهر ترامب يستبعد الانضمام لإدارته الجديدة    الهوية المغربية تناقَش بالشارقة .. روافدُ وصداماتٌ وحاجة إلى "التسامي بالجذور"    بعد 11 شهرا من الاحتقان.. مؤسسة الوسيط تعلن نهاية أزمة طلبة كلية الطب والصيدلة    هزة أرضية خفيفة نواحي إقليم الحوز    بحضور زياش.. غلطة سراي يلحق الهزيمة الأولى بتوتنهام والنصيري يزور شباك ألكمار    الجنسية المغربية للبطلان إسماعيل وإسلام نورديف    ارتفاع أسعار الذهب عقب خفض مجلس الاحتياطي الفدرالي لأسعار الفائدة    متوسط عدد أفراد الأسرة المغربية ينخفض إلى 3,9 و7 مدن تضم 37.8% من السكان        إدوارد سعيد: فلاسفة فرنسيون والصراع في الشرق الأوسط        تقييد المبادلات التجارية بين البلدين.. الجزائر تنفي وفرنسا لا علم لها    حظر ذ بح إناث الماشية يثير الجدل بين مهنيي اللحوم الحمراء    خمسة جرحى من قوات اليونيفيل في غارة إسرائيلية على مدينة جنوب لبنان    المنصوري: وزراء الPPS سيروا قطاع الإسكان 9 سنوات ولم يشتغلوا والآن يعطون الدروس عن الصفيح    طلبة الطب يضعون حدا لإضرابهم بتوقيع اتفاق مع الحكومة إثر تصويت ثاني لصالح العودة للدراسة    إسبانيا تمنع رسو سفن محملة بأسلحة لإسرائيل في موانئها    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    جرافات الهدم تطال مقابر أسرة محمد علي باشا في مصر القديمة    قد يستخدم في سرقة الأموال!.. تحذير مقلق يخص "شات جي بي تي"    "المعجم التاريخي للغة العربية" .. مشروع حضاري يثمرُ 127 مجلّدا بالشارقة    وزارة الصحة المغربية تطلق الحملة الوطنية للتلقيح ضد الأنفلونزا الموسمية    خبراء أمراض الدم المناعية يبرزون أعراض نقص الحديد    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    برنامج الأمم المتحدة المشترك المعني بالسيدا يعلن تعيين الفنانة "أوم" سفيرة وطنية للنوايا الحسنة    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"العيطة" العربية والقصيدة الأمازيغية تؤسسان الشعور الوطني للمغاربة
نشر في هسبريس يوم 21 - 11 - 2016

ساهم النص الغنائي في بناء الدولة العصرية بالمغرب، سواء من خلال بلورة الشعور الوطني أو ترسيخ المقومات الرمزية للدولة أو إذكاء الروح الوطنية؛ إذ كان النص الغنائي حاضرا بقوة في مختلف مراحل الولادة العسيرة للدولة العصرية بالمغرب، وتطورها من دولة تقليدية/سلطانية إلى دولة عصرية/ملكية.
فرغم الضعف الداخلي الذي كانت تعاني منه الدولة السلطانية بالمغرب، والذي ظهر جليا ابتداء من القرن 18، فقد بقيت السلطة المخزنية محافظة على هيبتها العسكرية أمام الدول الأجنبية، خاصة الأوربية منها. غير أن معركة إيسلي التي خاضها الجيش المخزني ضد وحدات الجيش الفرنسي العصرية ومعركة تطوان ضد وحدات الجيش الإسباني الحديثة عرتّا مظاهر التخلف العسكري المريع الذي كان يعاني منها هذا الجيش، وحركت أطماع الدول الأوربية في الاستيلاء على البلاد، الشيء الذي انعكس من خلال المؤتمرات الدولية التي انعقدت بين هذه الدول لاقتسام التركة السياسية "للرجل المريض المغربي" على غرار ما تم عليه الأمر بالنسبة "للرجل المريض التركي".
فبعدما تم التفاهم بين هذه الدول على اقتسام التركة السياسية المغربية بين كل من إسبانيا وفرنسا، بدأت الجيوش الفرنسية تكتسح التراب المغربي عبر بوابته الشرقية والغربية بعدما تيقنت من عجز السلطة المخزنية عن مواجهتها وصدها. وأمام هذا العجز، انبرت القبائل المغربية للدفاع عن نفسها والانخراط في مقاومة مسلحة ضد القوات الغازية الإسبانية والفرنسية. وفي هذا السياق جسد النص الغنائي هذه المقاومة؛ حيث كتبت عدة أشعار وأغانٍ تعكس روح المقاومة هذه، انعكست من خلال قصائد أمازيغية و"عيوط" عربية.
العيطة وتحريك الحمية الوطنية
على غرار ما قامت به القوات العسكرية الفرنسية من اقتحام البوابة الشرقية للمغرب من خلال احتلال مدينة وجدة، حاولت هذه القوات الاستيلاء على البوابة الغربية من خلال قنبلة مدينة الدار البيضاء في 1907 ليتم بعد ذلك التوغل في مناطق الشاوية والحوز، خاصة بعد توقيع السلطان المولى عبد الحفيظ على معاهدة الحماية في سنة 1912. وأمام هذا التوغل العسكري الفرنسي، هبت قبائل هذه المناطق للدفاع عن حوزة البلاد، والتصدي لعمليات "التهدئة" التي كانت تقوم بها القوات الفرنسية لبسط نفوذها على التراب المغربي.
لذا فقد عكست "العيطة" صمود القبائل ومقاومتها للتوغل العسكري الفرنسي بمختلف مناطق السلطنة، سواء في مناطق الحوز أو الأطلس المتوسط أو في منطقة الشاوية. "ففي فترة المقاومة كانت أخبار المعارك التي كانت تندلع بين الوحدات العسكرية الفرنسية بأسلحتها العصرية وقواتها المدربة وتنظيمها المحكم والقبائل بقواتها التقليدية ونظامها العسكري العتيق تتناقل شفويا بين القبائل، خاصة خلال الأسواق الأسبوعية والمواسم السنوية. وهكذا تداولت الألسن أبيات "عيطة" حوزية تحيل على المعارك التي شهدتها منطقة الحوز بين رجال القبائل بقيادة أحمد الهيبة وجيوش الاحتلال الفرنسي بقيادة الجنرال مونجان وحلفائه من قواد منطقة الرحمانة، التي تمتد رقعتها بأوامر من المقيم العام ليوطي لتشمل مناطق تادلة وبني خيران والسماعلة.
وقد عكست هذه الأبيات هذه المعارك من خلال ما يلي:
"فين السماعلة وبني خيران
كل خيمة ولدت علام
والصماعي ولآت غمام
من الحمري حتى لجعيدان
وليدي السواقي فرعت الجبال
وعوينكم بوعبيد الشرقي"
" فين يومك أواد العرعار
من الموتى شبعوا الأطيار
فين يومك يا وادزم
وليدي الزناقي حملت بالدم"
أما "العيطة" المرساوية فقد سجلت جزءا من المعارك التي دارت بين فرق جيش الاحتلال الفرنسي وبعض قبائل الشاوية كقبائل مديونة. وبالتالي، فقد تداولت الألسن "العيطة" التي تغنت بهذه المعارك، وكانت تتضمن بعض المقاطع الغنائية التي جسدت التلاحم الذي وقع بين قبائل الشاوية ضد توغل الجحافل الأولى للمستعمر الفرنسي في المنطقة، نقتطف منها ما يلي:
بين كازا اومازكا
لحديد يتزكا
الدار البيضاء هي بلادنا
ديوان الشاوية
لخيل قليله
حابسه لعدو
في مديونة
اتعاضدو اوليدات الشاوية
الشاوية اكواثني وزادت ما بيا
خوثنا مديونة
واخا ناس قلال
نوضو عينونا.
وقد حاول بعض الباحثين تحليل هذا المقطع الغنائي الشعبي وما يعكسه من ملامح نضالية وبسالة المقاومة المحلية في مواجهة القوات الغازية من خلال ما يلي:
"نلاحظ أن هذا المقطع ينطوي على ثلاثة مستويات مركزة ومكثفة: مستوى يصف وصفا خاطفا المعارك مع العدو، في الجديدة والدار البيضاء، وبالذات في مديونة؛ حيث يتقارع الحديد. ولو أن الفرسان والخيل قليلون، فإن المقاومين وقفوا في وجه العدو فلم يستطع التقدم. ومستوى اعتراف الشاعر بقلة الرجال والعتاد مع الإشادة ببسالة المقاومة في المعارك.
ثم مستوى الدعوة إلى التعاضد وطلب المساعدة من الإخوان في كل المنطقة، خاصة وأن الشاعر يتحسر على ما يقع في الشاوية... بذلك يحدد النص موقع المعارك، وبلاء المقاومين رغم قلتهم، والتعبير عن ألم ما يقع في المنطقة، والدعوة إلى التعاون والتضافر، في أسلوب بسيط يعتمد الواقعية القائمة على التلميح بعبارات مقتضبة مستقاة من الفضاء الثقافي الشعبي المحلي... مستعملا بعض الكنايات والمجازات العادية من مثل "لحديد ايزاكا" و"حابسه لعدو" و"الشاوية اكواثني"... وهي عبارات توحي بحدة المعارك وبمأساويتها وقوة تأثيرها".
كما عكست "العيطة" الحوزية المقاومة التي واجهت توغل القوات العسكرية داخل منطقة خريبكة بين سنتي 1907 و1912، والتي ما زالت تغنيها وترددها فرق "عبيدات ارما" وبعض الفرق الشعبية الأخرى، ومن بينها المقاطع الشعرية التالية:
كالت ليكم كلنا ليكم
كل حاكم أو خيط ايديه
كل غداره او كناشو
تالجاري عاد ايفاري
طاحت الظلمه فالبيرو
آش هاد الحكام تاع الظلمه
كل ايدير لي ايواتيه
وعاجبهم احكامهم
طموع الدنيا اغواهم
والحكام اطغاو فيه
وتافقو اجميع فاكلامهم
كالو المغرب نسيطرو عليه.
وقد جسد أبيات هذه "العيوط" بإيجاز شديد وبكلمات عميقة ومعبرة ميكانيزمات وآليات المستعمر، سواء العسكرية أو الإدارية، لبسط نفوذه على المنطقة، بما في ذلك استخدام الأجهزة المخزنية من شيوخ ومقدمين وجراية (أي مساعدي هؤلاء المقدمين والشيوخ)، مع رافق ذلك من ظلم وقهر وتسلط.
وفي هذا الإطار، ألمع الباحثان محمد أقضاض ومحمد الولي إلى ما يلي:
"يذكر هذا النص بما عرف عن الاستعمار وعملائه، فكل حاكم يفعل ما يشاء دون رادع، ما دام يحقق مآربه. وكل شيء يتقرر في دهاليز المكتب (البيرو) تحت جنح الظلام، وكل يتبجح بحكمه الطاغي، وبهذا الطغيان قرروا السيطرة على المغرب. والاستعمار حين يمارس طغيانه يمارسه بعملائه (الجاري) ومساعديه في البلاد.
لقد عمد الشاعر إلى استعمال عبارات بسيطة، أحيانا، مأثورة، يومية، من مثل "كل حاكم أو خيط يديه"، كناية عن مزاح ممارسته للسلطة، و"كل غداره وكناشو"، وهو مزاج لا يخرج عن ممارسته الغدر الرسمي المسجل في "البيرو" أو "المكاتب كمؤسسة إدارية، والذي يمارسه "حكام الظلمة".
فالقرارات تتخذ في البيرو خلال الظلم، لأن مثل هؤلاء الحكام المغتصبين لا يمكن أن يقرروا في واضحة النهار وبشفافية، وهو الأمر الذي جعلهم يفعلون ما يريدون و"إيدر لي ايواتيه"... وهي عبارات شديدة الدلالة حاملة لشحنات معنوية متماوجة.
فعبارة "البيرو" تحمل إيحاءات نفسية تثير الخوف في الأهالي وتجعل صاحب البيرو متسلطا بل ومرعبا. و"الظلمة" هي دلالة على الغموض وعلى الظلم والاختطافات والسرقة والنهب، وهي مكملة لأبعاد البيرو وعبارة "ايدير لي ايواتيه". فالحاكم هنا لا يحاسبه أحد. وهي دلالات، في نفس الوقت، تنطلي على الذي لا يعرف سياق التعبير ولا ثقافة في هذا السياق.
وقد وظف المقطع إيقاعا يركز فيه أحيانا على القافية والروي، وأحيانا على الإيقاع الداخلي في الجمل الشعرية، فنلاحظ كيف تكرر الميم الساكنة وروي الهاء الساكنة والظمة الممدوة بشكل يكاد يكون منتظما. ثم هذا الإيقاع الداخلي المثير، في عبارات من مثل "تالجاري عاد ايفاري" أو "وعاجبهم أحكامهم"، وهو إيقاع في شموليته يعكس الشعور المأساوي الذي يتدفق من وعي الشاعر الشعبي... خاصة إذا عرفنا أن نخبة من الفئات الشعبية كانت تتوقع وقوع الأحداث المأساوية، كما تشير الجملة الشعرية الأولى: "كالت ليكم كلنا ليكم".
ورغم أن المقطع لا يشير مباشرة إلى حكام استعماريين معينين، ولا إلى أسماء أشخاص متعاملين معهم، وترك ذلك لينطبق على أي زمن يتحكم فيه الاستعمار، فقد استعمال لذلك مؤشرات رمزية عامة، لخصها في ثلاث عبارات: "البيرو" – بالفرنسية – و"الظلمة" و"كالوا المغرب نسيطرو عليه".
ولم تقتصر "العيطة" على تجسيد روح المقاومة ووصف المعارك وسقوط الشهداء، بل تطرقت أيضا إلى الانقلاب الاجتماعي الذي عرفته التركيبة القبلية نتيجة هذا التدخل الاستعماري؛ حيث سمح لمجموعة من المتعاونين تحسين وضعيتهم الاجتماعية واكتساب بعض السلطة لقاء تعاونهم مع السلطات الاستعمارية. من خلال نقلهم وترجمتهم لقراراتها.
لذا، فهناك عدة مقاطع غنائية حوزية عكست هذا الواقع المقلوب من خلال: " القطيبات" التالية:
" كان وكان وكان
من العسة ولى قبطان
يا ميمتي... الميمة
واش العسل كا يتملح
واش العدس كايكردس"
"واش من والي يتوالى
علاش قيدتوا من والى
واش هاذ الأيام الكلابة
شي عطاتوا وشي كلعت ليه
وشافت عريوة ضحكت لو"
القصيدة الأمازيغية وإذكاء الروح الوطنية
كما رافقت "العيطة" معارك قبائل الشاوية مع جيوش الغزو الفرنسي وقصائد الملحون مقاومة قبائل شرق البلاد للفيالق العسكرية الفرنسية. غير أنه نظرا لأن منطقة الأطلس المتوسط قد عرفت اختلاطا أمازيغيا-عربيا، فهناك بعض "العيطات" العربية كانت تردد بهذه المنطقة تشيد بمقاومة قبائل القصيبة وأيت عطا وأيت بوزيد وأيت عتاب للمحتل الفرنسي، من بينها المقاطع التالية:
"فين عزك يا القصيبة
وأيت عطا وأيت بوزيد
غوتت الشلحة في زايان
والعسكر شد البيبان
غوت في البرج العالي
دارتها نوضة وزغاريتة"
وقد صاحبت القصيدة الأمازيغية (أمارك) مقاومة قبائل الأطلس المتوسط وقبائل الريف لجيوش المحتل الإسباني والفرنسي. وهكذا رددت نصوص غنائية تعرضت للمقاومة في منطقة الأطلس المتوسط، خاصة تلك التي تزعمها المقاوم موحى أوحمو الزياني. وفي هذا السياق، هناك نص غنائي باللغة الأمازيغية تعرض لمعركة الهري الشهيرة تضمن المقاطع التالية:
اسلي غر لهري ايمي كون ريغ المدافيع
واحزن أبو حياتي كان أرومين داوك
حزن أيا غر لهري يغريين كانيك ك وماس.
اسلي غر لهري ايكون ريغ المدافيع
اغلاكم أناباينو إيزايد سيدي حسين اوريناس.
اسليغر لهري أيكون ريغ المدافيع
هاك أيلي كار سيريدن أصبان
أك سيريدن وارا اخنزير الكيوصا.
اسلي غر لهري ايكون ريغ المدافيع
في معركة لهري احتجت إلى المدافع
احزن يا بوحياتي مرمن تحتك النصارا
احزن يا امالو يغريبن جعلوك في الوسط.
في معركة لهري احتجت إلى المدافع
ملكوا تاباينوت ثم سيدي احساين.
في معركة لهري احتجت إلى المدافع
ها هنا حيث كنا نغسل الثياب
يغسل أبناء الخنازير المعاطف
في معركة لهري احتجت إلى المدافع".
وتعكس هذه المقاطع روح الصمود والمقاومة رغم قلة الأسلحة وضعفها. فالمدافع الحديثة التي كان يتوفر عليها المحتل كانت تمكنه من تحقيق عدة امتيازات استراتيجية وتكتيكية، وتمكنه من صد هجمات المقاومين الذين غالبا ما يلجؤون إلى حرب العصابات والاختباء بالجبال. لكن الطائرات الحربية التي كان يتوفر عليها جيش المحتل لعبت دورا أساسيا، إلى جانب المدافع، في قنبلة مواقع المقاومين ومحاصرتهم لإجبارهم إما على الاستشهاد أو الاستسلام.
وهكذا عمد الباحثان محمد أقضاض ومحمد الولي إلى تحليل معاني هذا النص الغنائي من خلال ما يلي:
"في هذا النص يتحسر الشاعر عن عدم امتلاكه المدافع، ليواجه بها العدو المغتصب بقوة حاسمة في معركة لهري. ويعبر عن حزن الأهل وحزن الطبيعة معا، لعدم وجود وسائل الدفاع، ولاحتلال النصارى للنهر والعين حيث كان يغسل أبناء الأرض ثيابهم، وأصبح النصارى، أبناء الخنازير، يسيطرون على الماء ويغسلون معاطفهم. ورغم بلاء المقاومة في المعركة يشعر الشاعر بهذه الحسرة، ويدعو الناس إلى الحزن على ما آلت إليه الأمور.
والشاعر يوظف نفس المعجم المحلي البسيط، الذي يعبر عن الحزن والإحباط بعيدا عن الصور البلاغية، مركزا على التكرار التأكيدي، من مثل تكرار البيت الأول وتكرار لفظة الحزن. فالمقاومة، وضمنها شاعرها الجماعي، كانت في حاجة ملحة إلى الأسلحة الضرورية، كي تزيح الحزن عن الذات وعن فضاءاتها المحتلة وعن الطبيعة، التي امتزجت بالذات فأصبح ماؤها مدنسا بأوساخ معاطف أبناء الخنازير، كناية عن هيمنة النصارى".
وعلى غرار منطقة الشاوية، أنتجت منطقة الريف، التي كانت جزءا من شمال المغرب الذي استولت عليه إسبانيا، العديد من النصوص الغنائية التي واكبت مقاومة قبائل الريف، بزعامة كل من محمد امزيان وعبد الكريم الخطابي، لتوغل الجيوش الإسبانية بهذه المنطقة.
فقد تزعم المقاوم محمد امزيان مقاومة شرسة ضد جيوش الاحتلال ودخل معهم في معارك عدة لم تنته إلا باستشهاد هذا الأخير. وبالتالي فقد عكست نصوص غنائية هذه المقاومة التي كانت تذكي الروح الوطنية وتحمس أبناء المنطقة لمقاومة جيوش المحتل الإسباني والتصدي له. وهكذا تغنى الشاعر الشعبي بهذا المقاوم الأقلعي من خلال المقاطع التالية:
ئي صوصد اوصميظ اثغلاشت أورومي
يندارد خاس أربي أمجاهد أقرعي
نتا اد سيدي موحند ايجاهدن ارومي
فهذه المقاطع تصف حرب المباغتة والهجومات غير المتوقعة التي كان يشنها هذا المقاوم الريفي، والتي كانت كثيرا ما تربك جيوش المحتل وتقلق راحته. لكن هذا المقاوم، رغم بسالته وقوة صموده، فقد وقع شهيدا في إحدى معاركه مع جيش المحتل، فحملت جثته إلى ساحة مليلية وعزفت الموسيقى الحربية تعبيرا عن الفرحة التي عمت الجيش الإسباني بعد القضاء على أعتى وأشرس مقاوميه.
وفي هذا السياق أنشد الشاعر المقاطع التالية:
سيذي محمد أمزيان ءيحاش اوشا يوظا
ءيفارحاس اورومي ييسيث ذي كاروسا،
ييوض آزرو همار يوثا ارموسيقا
تسرياس حبيبة ثتهمار سو مطا
وبالطبع، فقد كان لموت هذا المقاوم وقع نفسي كبير على سكان المنطقة؛ حيث ساد حزن كبير بين أفراد عائلته وقبيلته. لكن موت هذا الشهيد المقاوم لم يطفئ جذوة المقاومة؛ إذ سرعان ما ستتوحد قبائل بني ورياغل حول زعيم أكثر بسالة وجرأة وهو الأمير عبد الكريم الخطابي.
فأمام زحف الاستعمار الإسباني على مناطق الريف، ومحاولة إحكامه السيطرة على قبائلها وثرواتها، ظهر الأمير عبد الكريم الخطابي ليتزعم المقاومة الريفية وفق أسلوب قتالي جديد سيتم اقتباسه من طرف العديد من حركات التحرر، خاصة في جنوب شرق آسيا، نظرا لما حققه من انتصارات عسكرية كان من أبرزها الانتصار العسكري الحاسم لمقاومي الأمير عبد الكبير الخطابي على جيوش الجنرال سلفستر في معركة أنوال الشهيرة.
وهكذا، فقد تغنى شعراء المنطقة بهذا النصر الكبير من خلال "ملحمة غنائية" عادة ما يردد بعض مقاطعها بعض "إمذيازن" أو مغنوها ومنشدو المنطقة. فقد سجلت مقاطع هذه "الملحمة الغنائية" الأطوار التي عرفتها هذه المعركة مشيدة ببسالة المقاومين الريفيين واستبسالهم في مناوشة جيش الجنرال سلفستر وإلحاقهم الهزيمة بها في جبل أباران بمنطقة تمسمان. وهكذا تتغني هذه المقاطع بما يلي:
أيا جبل اباران با سوسة العظام
فيك انفجرت القنابل وصهلت الخيول
هناك بقي الجنود مبعثرين كالسمك المنفوش
قبعاتهم ذابلة كالفلفل المطبوخ
هناك قتل الحاكم ومات المترجم
الضابط ويلبا ضاقت عليك الدائرة
أين جنودك لا أحد على قيد الحياة
أيا جبل اباران يا سوسة العظام
من غرر بك يغرر به الزمان
حين قصفت بالقنابل ونصبت الخيام،
هل غرر بك منقط الوجه أو اعمار ن بويوزان
أم غررت بك الصبايا محزمات بالخيوط الرقيقة
كما غرر بالسفينة فوق متن المياه
حيث بقي النصارى يناطحون مثل التيوس
وبقي سلاحهم فوق الماء مثل قطع قصب.
إسبانيا يا إسبانيا يا تلك التي أشعلت النار في كل شيء
مدى لي يدك أعد لك كم من الضحايا
اعمار بن الفقير سقط قتيلا على الأسلاك الشائكة
ويا اعمار بن المدني أيها المجاهد الهمام
جاهدت بالمسدس وجاهدت بالسكين
أنتم أيها الريفيون قدركم دائما هو الجهاد
جاهدتم بأيديكم وأيضا جاهدت معك النساء،
بما حملن من جرار ماء صعدن بها بين الصخور
يحملن المؤمن على ظهرهن يتسلقن الجبل
يا قالب السكر المزين بالخيوط
فاطمة الريفية طوبا لك إن أنجبت
وبعد إشادة هذه المقاطع الغنائية بصمود المقاومين ومناجزة قوات العدو بين الجبال بأسلحة تقليدية من مسدسات وبنادق وسكاكين، وصفت مقاطع غنائية أخرى مواجهة هؤلاء المقاتلين لطيران العدو الذي كان يقصفهم فوق أعالي الجبال؛ حيث تقول:
النصراني الكافر في أنوال محاصر
هناك نصب الخيام وأطال اطرافها
طلعت الطائرة مرت فوق "يزي عزا"
تركت هناك المسلمين يبادلون التعازي
طلعت الطائرة تركت خيط دخان في السماء
طلعت الطائرة سيدي ابراهيم قصفت
قصفت المجاهدين وهم أبناء الصحابة
يا قبيلة تمسمان افسحي لنا طريق المرور
نمر إلى آمزاورو مركز التجنيد والجهاد
نمر إلى الإسبان بعد أن انتهى بوحمارة وانقضى
أيها الحاكم الكبير الذي يعصر البطاطس
ظنوا أنهم يذهبون ليحصدوا الكلأ من الوديان
جعلوا النصراني قنينات تعلم الرماية.
وهكذا فقد كان للانتصار العسكري الذي حققه الأمير عبد الكريم الخطابي على جيوش إسبانيا في معركة أنوال دوي سياسي كبير ليس فقط على الصعيد الدولي، بل على الصعيد الداخلي أيضا؛ حيث تجاوز تأثيرها النفسي والسياسي منطقة النفوذ الإسباني إلى منطقة النفوذ الفرنسي.
"فقد دخل تأثير ثورة الريف إلى عمق المغرب الفرنسي في نواحي الدار البيضاء كما في الأطلس مثلا؛ حيث أضحى الناس ينشرحون لتلك الانتصارات ويدعون إلى لالتحاق بالثورة الريفية، وذلك رغم التعتيم الإعلامي الذي مارسته السلطات الفرنسية على إنجازات الثورة، بل أصبحت تلك الأصداء تصل إلى بلدان أخرى في شمال إفريقيا، كالجزائر وتونس.
ولعل مما حول قلق السلطات الاستعمارية الفرنسية وتخوفاتها من الانتصارات العسكرية للأمير عبد الكريم الخطابي إلى شعور بالخطر، هو بداية تحول هذه الانتصارات من مقاومة قبلية محدودة إلى حركة سياسية وعسكرية منظمة لها بنياتها التنظيمية والسياسية.
فالإعلان عن الجمهورية الريفية، بدستورها وحكومتها ودواليبها الإدارية والجبائية، جعل السلطات الاستعمارية الفرنسية تفكر جديا في القضاء على هذه الحركة الوليدة بحكم أن طبيعتها وطموحاتها تتعارض مع المصالح الاستعمارية للتواجد الفرنسي في المنطقة.
فعلى الرغم من أن الأمير عبد الكريم الخطابي قد تحاشى الاحتكاك مع القوات العسكرية الفرنسية، فقد عمل الجنرال ليوطي كل ما بوسعه لجر الأمير لمواجهة عسكرية يتم فيها القضاء على المقاومة الريفية والحد من إشعاعها السياسي وامتداداتها العسكرية، خاصة وأن القوات الفرنسية كانت ما تزال منشغلة بالقضاء على جيوب المقاومة المسلحة بجنوب المغرب.
من هنا عملت السلطات الاستعمارية الفرنسية على تحريك عملائها بالمنطقة، كالقائد المدبوح بكزناية والقائد عمر بن حميدو، ليتعلموا على مناوشة المقاومة" الريفية والدعاية ضدها. ثم عمد المارشال اليوطي منذ أواخر سنة 1924 إلى حشد الحشود العسكرية بعدتها وعتادها على الحدود الشمالية، وإلى تحصين المراكز الكثيرة التي أنشأها حول نهر ورغة ومد طرق المواصلات بينها. ثم اختلق مشكل الزاوية الدرقاوية حيث طلب شيخها من الجيش الفرنسي حمايتها".
وأمام هذا الوضع، اضطرت المقاومة الريفية إلى المواجهة المباشرة مع قوات الجيش الفرنسي. "ففي 12 أبريل كان الصدام المباشر بين الريفيين والجيش الفرنسي، وكان هجوم الريفيين صاعقا، في أقل من أسبوعين كانت قبيلة بني زروال كلها في يد المقاومة، والمراكز التي وضعها الفرنسيون السنة الماضية على طول نهر ورغة تم كنسها، وتم أخذ زاوية درقاوة، والشريف الدرقاوي، واحميدوا والقايد المذبوح قد فروا (...) فأصبح عبد الكريم الخطابي يهدد مدينة فاس نفسها، كانت الخسائر في الصفوف الفرنسية مرعبة، وقد استولى الثوار على كميات هائلة من الأسلحة".
ولعل هذا الانتصار الذي حققته المقاومة الريفية على الجيش الفرنسي في أول مواجهة عسكرية مباشرة مع قواته وداخل منطقة النفوذ الفرنسي، هي التي جعلت شعراء المنطقة يتغنون بهذا النصر مشيدين بحنكة الأمير عبد الكريم الخطابي وقدرته على هزم فرنسا. وهكذا تم ترديد عدة مقاطع غنائية بهذا الصدد، من بينها المقاطع التالية:
يا مولاي محند أيها الزعيم السياسي
لقد أقسم على أن يعيد فرنسا إلى الحضيض
أيها الحمام الذي يطير ولا يقف
طر بلغ رسالة للرئيس الفرنسي
قل له عن عبد الكريم نحس عليك
هجمت على الدول فسكن في كياني القلق.
وإجمالا، فقد لعبت المقاومة المسلحة، سواء في وسط البلاد أو في شماله، دورا أساسيا في بلورة الشعور الوطني لدى المغاربة دفاعا عن كيانهم الترابي وهويتهم الدينية والسياسية، كان فيها النص الغنائي حاضرا بقوة لتجسيد هذا الشعور والتعبير عن هذه الروح الوطنية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.