في الحلقة الأولى تتبعت تجليات الريع الديني ،الذي حاز حزب العدالة والتنمية،بكل جيناته و روافده – ذات بحث عن موازنة النضال اليساري – مأذونية تسييسه ، هِبة وذخْرا من المؤسسة الملكية ،ومن إمارة المؤمنين ،باعتبارها العمق الروحي في هذه المؤسسة. في حلقة اليوم أقترح على القارئ أن نتوقف عند بعض تجليات الريع السياسي الذي يتمتع به نفس الحزب؛دون أن يعني هذا أنه الجهة السياسية الوحيدة،ذات الريع، التي أطبقت على وطن، ما بعد برلمانيات السابع من أكتوبر. انه الحزب الذي خَوَّلتْ له الانتخابات البرلمانية المعلولة - جهة تغطيتها المفترضة،لكل المواطنين - تَصَدُّرَ الركح السياسي الحزبي ، ومن هنا اختيار التوقف عنده. افتقار حزب العدالة والتنمية للمشروعية التاريخية الوطنية: وكأنه " أسلم يوم الفتح فقط "؛إذ لا رصيد له ضمن مكونات الحركة الوطنية،وتعاقداتها السياسية مع الملكية ،سواء الحاضرة أو المنفية . ليس القصد هنا حضوره كتنظيم،وإنما كنهج تحرري ديني ؛لأن الحزب لم يستو ،تنظيميا،كما هو الآن إلا سنة 1997؛وان كان يزعم لنفسه تاريخا يرتد إلى أواخر الستينيات(1967). يسعى الحزب اليوم، تكتيكيا فقط، إلى توطين سلفيته ،ضمن روادها الذين أنجبتهم واستوعبتهم الحركة الوطنية ؛ردا منه على تُهم منتقديه من الحداثيين المغاربة ،الذين لا يرون له جذورا خارج التنظيم العالمي للإخوان المسلمين. بل حتى الأمين العام الحالي للحزب ،عبد الإله بنكيران، أقر بهذا الانتماء الاخواني في أكثر من مناسبة. لقد تعزز الدفع الحداثي المغربي ،أخيرا، بزخم الإعلام المصري – مصدقا للتهم - الذي انكب على مواكبة وتحليل البرلمانيات المغربية الأخيرة،من زاوية نتائج الحزب الحاكم ؛وما كان ليولي للأمر أهمية، لولا وحدة النضال ضد أخونة المجتمع ،هنا وهناك. تماما كما حصل حينما لم يُخف أقطاب العدالة والتنمية ،حتى وهم في صدارة الحكومة,نُصرتهم لتمكن إخوان الكنانة من "عرش مصر"،كمرحلة للولوج إلى التبشير بالخلافة الراشدة التي ستعيد،حسب زعمهم، للعالم الإسلامي وحدته وعزته . من المعروف أن الحضور السلفي المغربي ،داخل الحركة الوطنية، لم يكن يمتح من سلفية الشرق إلا لماما،واستناسا فقط ؛لأن الاشتغال كان على الوطن ،أساسا ، وليس – كما اليوم -على تدين المغاربة ،كما أسلفت في الحلقة الأولى. لقد استهدف الاستعمار الوطن ،والجالس على العرش،ولم يكن له أي مشكل مع الدين ؛بل اتخذه مطية لتحقيق أهدافه ،في منعطفات عدة. في تعريف الحزب لنفسه نقرأ: «حزب سياسي وطني يسعى، انطلاقا من المرجعية الإسلامية وفي إطار الملكية الدستورية القائمة على إمارة المؤمنين، إلى الإسهام في بناء مغرب حديث وديمقراطي، ومزدهر ومتكافل. مغرب معتز بأصالته التاريخية ومسهم إيجابيا في مسيرة الحضارة الإنسانية». يقوم هذا التعريف دليلا قاطعا على أن السلطة الزمنية للملكية تأتي – لدى الحزب - في المرتبة الثانية ،بعد إمارة المؤمنين ،باعتبارها أساسا.إن الملكية الدستورية التي يؤمن بها الحزب مشروطة بانبنائها على إمارة المؤمنين. أما أسبقية الأسبقيات، في التعريف، فهي ل"المرجعية الإسلامية" ، إذ هي حَكَم على الملكية والإمارة معا. نحن نعرف أن الملكية في المغرب أسبق من إمارة المؤمنين ،التي لم يتم التنصيص عليها إلا في دستور 1962؛بمبادرة من الدكتور الخطيب ،وعلال الفاسي. (مع إصدار أول دستور سنة 1962 خلال فترة حكم الملك الراحل الحسن الثاني ستجد سلطة إمارة المؤمنين موقعها في الفصل 19 من الوثيقة الدستورية باقتراح كل من علال الفاسي وعبد الكريم الخطيب، إذ كان الدافع من هذا المقترح التأكيد على إسلامية الدولة أمام انتشار الأفكار اليسارية والقومية العروبية في الأوساط السياسية والثقافية بالمغرب) حسام هاب :جامعة محمد الخامس طبعا للتسمية سند من التاريخ؛إذ جرى العمل بها - تيمنا بإمارة عمر بن الخطاب ض- لدى المرابطين:(أمير المسلمين)،ولدى الموحدين( أمير المؤمنين )؛ولا علاقة مباشرة لهذا بالإمارة الحديثة التي يغطيها التعريف. يتأسس على كل هذا أن الملكية التي انخرطت في تعاقد نضالي وطني ،مع الحركة الوطنية؛وهو النضال الذي استوعب الفكر السلفي المغربي ،وهيمن عليه،ليست من مشمولات التعريف؛لأنه يتغذى من النبع الاخواني العالمي ،الذي يعطي ل"المرجعية الإسلامية" بعدا يتجاوز الأوطان. كان من الممكن أن يتم التنصيص على المرجعية السلفية المغربية ؛ لو كان هوى الحزب حيث أقدامه.. وعليه لا أجانب الصواب حينما أنفي عن حزب العدالة والتنمية أية مشروعية تاريخية،تجعل تدافعه من أجل السلطة مؤسسا على حضور تاريخي ،على غرار الأحزاب الوطنية. ويجب ألا يفهم من هذا أن الأحزاب الحديثة التأسيس ،بدءا من التجمع الوطني للأحرار(1974) إلى آخر من التحق ،لا حق لها في التدافع السياسي من أجل السلطة،لافتقارها إلى المشروعية التاريخية؛لأن مناط البحث في ما يتعلق بالحزب الحاكم ،والمرشح ليحكم ثانية،هو هذا الريع الانشطاري الذي يجري بين يديه ،وديان عسل ، دون سابقة وطنية. ريع سياسي غير مستحق: أن يُمَكَّنَ الحزبُ من الريع الديني ، كما أسلفت ، شيء، وأن يُؤذن له في تسييس هذا الريع شيء آخر،بل قصة أخرى. يمكن النظر إلى هذا الريع السياسي ،غير المستحق وطنيا و تاريخيا ،على أنه "ريع الريع"؛ بالمعنى الذي يجعل الأمين العام للحزب،وشيعته، يتصرف سياسيا ،وانتخابيا، وحتى حكوميا ،وكأنه حاز لنفسه المقدس ،و بموجب هذا لا يصدر عنه غير مرادفاته؛التي لا يأتيها الباطل من أية جهة. و في المقابل يرى كل ما يصدر عن معارضيه ،ولو مجرد تصحيح لغوي في مرسوم ، على أنه حمال أوجه ،أغلبها من المدنس. ولعل في قهقهات بنكيران البرلمانية،التي سيتردد صداها خمس سنوات أخرى ،وربما أكثر، شيء من هذا ؛لأنه يعتبر نفسه دائما في مواجهة أبي لهب ،وهند بنت عتبة – آكلة كبد حمزة بن عبد المطلب- التي أهدر الرسول صلى الله عليه وسلم دمها يوم فتح مكة. في "دْيالي" اصْعيب عْلِيك" التي خُوطبت بها – حكوميا ،وداخل المؤسسة التشريعية- برلمانية محترمة ،شيء من الفحش "المقدس" ،الذي تُخوله حيازة المقدس تعصيبا. وما الفواحش التي ظهرت بعد هذا،هنا وهناك ،إلا من جارات مثل هذا الخطاب الذي يمد رجليه أنى شاء ، وكيفما يشاء. يمد رجليه – لريعيته المعربدة – حتى في وجه القانون المنظم للأحزاب ،والذي يمنع قيامها على أساس ديني أو لغوي.. كل الأحزاب المغربية تمتح من المرجعية الإسلامية ،لكنها لا ترى ضرورة إحلالها الصدارة في قوانينها الداخلية،مادامت مشاعة بين جميع الأحزاب ،ومفهومة بداهة،في مجتمع لا يشكل فيه غير المسلمين إلا نسبة ضئيلة لا دلالة لها، ولا تحزب(المغاربة اليهود بالخصوص). أما ذو الريعين – أو ذو القرنين إن استحضرنا البأس الشديد لهما – فلا يقتصر على التنصيص على مرجعيته الإسلامية ،بل يجعلها حكما على الملكية وإمارة المؤمنين ؛وطبعا على هذا الشعب المستضعف ،الذي يعاني اقتصاديا ،وسيعاني ،من قهر هذه المرجعية المشتغلة ريعيا ليس إلا ؛خارج المشروعيتين التاريخية،والدينية الخالصة للمغاربة ؛وداخل الحلم الاخواني العالمي بالخلافة. كم ينسى ذو القرنين أننا مغاربة لأننا لم نكن مشارقة أبدا ،في هذا الثغر الغربي القصي.بنينا كل دولتنا ،منذ الأدارسة, على نقض الخلافة المشرقية؛وحينما لا حت الخلافة عثمانية ،وجدتنا شوكة في خاصرتها الغربية،فلم تعبر نهر ملوية أبدا؛لأن الأشراف السعديين كانوا لها بالمرصاد. ويتأبط الحزب ريعه السياسي، ويدخل حلبة السباق، بكل شره، نحو الجماعات المحلية ،المجالس،الغرف ،البرلمان بغرفتيه، والحكومة ؛وهو بهذا يتواطأ على ألا تُمكن بقية الأحزاب من أي دعم سياسي لتصبح متكافئة معه. ويُسير حملاته الانتخابية - وهي في الحقيقة لا تنقطع ، في المساجد الرسمية للمملكة،وفي المناسبات الدينية،على مدار الأيام والسنين – حتى خارج الضوابط ؛وأحيانا في تحد سافر حتى لرجال السلطة ؛وصولا إلى الأذى الجسدي أحيانا (بركان والقنيطرة)؛ ثم يتظاهر بانتظار النتائج مرتبكا،مدعيا المظلومية ،واحتمال التزوير . وقبل هذا وبعده يقهقه الأمين العام ويبكي ،يفاخر بالفوز فخر غير المصدق ،ويشكك وهو الفائز؛وكأنه من عنى امرؤ القيس حينما قال: مكر مفر مقبل مدبر معا *** كجلمود صخر حطه السيل من عل. هو ذاك أيها الملك الضليل ،فقد حطه الريع من عل ،جلمود صخر دك كل الأحزاب السياسية في طريقه. داوني بالتي كانت هي الداء: لقد توفرت ل "فرنكشتاين" السياسة بالمغرب ،كل الظروف لكي لا يظل حبيس المختبر،ومبضع التحكم. شب عن الطوق ورمى بالسهام مَن علَّمه الرماية. لماذا يظل حبيس دور توازني اختارته له المؤسسة الملكية – ثانية -وهي تختار شيخ اليسار، عبد الرحمن اليوسفي شافاه الله، ليعبر بالبلاد مرحلة مفصلية حرجة،من تاريخها؟ هاهو الشارع العربي الشاب يتحرك ، وهاهي ذي حركة العشرين فبراير في المغرب تنظم للحراك. وحيثما يصيح شاب،أو شابة، مطالبا بإسقاط النظام ،أو مجرد الفساد،يتحسس تنظيم الإخوان هنا وهناك ،أحزمته الناسفة ؛يتقراها بلمس. لقد أزفت ساعة الزحف ،ولن تُصلى العصرُ إلا في بني قريظة .. وركب بنكيران الأسد الفبرايري مزهوا بمركبه ،ولايزال راكبا. بل هددنا به كمواطنين ،وكدولة عميقة ؛ولا تزال كتائبه وفرسانه تهدد بكل سباع الآجام ،إن هي زُحزحت عن ريعيها ؛حتى تصل به الى منتهاه. ولا منتهى لها إلا بتحقق الحلم الاخواني كله. ألم يبلغ ذو القرنين مغرب الشمس؟ لا يمكن أن يستأسد على هذا الريع السياسي إلا ريع أشد ضراوة منه. من هنا كل الفرص والتسهيلات التي مُتع بها حزب الأصالة والمعاصرة، ولا ينكر هذا إلا من كذب؛بدءا من ميلاده في أفضل فراش "حركة لكل الديموقراطيين "(اليساريين)،إلى أن استوى – وقد شب بدوره عن الطوق،لكن دون تمرد - رقما صعبا ضمن المعادلة السياسية في بلادنا. كل الأحزاب وُلدت هكذا،بجوار المؤسسة الملكية،بدءا من حزب الاستقلال ،لكن " لأمر ما جدع بصير أنفه" كما يقول المثل. لقد اتسع الخرق على الراتق ،ولا يمكن أن يخاط بغير الأنامل التي خرقت الثوب ،حتى فاض منه الرِّيعان . أليس لنا الحق في الأمن السياسي الحزبي،بموجب عقد البيعة؟ أليس لنا أن نطالب باستعادة الريع الديني ،ومأذونية تسييسه؟ من هنا القطبية التي يحار المحللون السياسيون في تفسيرها ؛ويسارع البعض إلى نعتها بالردة السياسية ،والإزراء بالبنية الحزبية الوطنية ،التي أظهرتها انتخابات السابع من أكتوبر في وضعية من "تمشي وقد أثقل الإملاق ممشاها"،على حد بكائية معروف الرصافي المشهورة. " لم آمر بها ،ولم تسؤني" إذا كانت مرحلية، من أجل استعادة التوازن السياسي الحزبي في البلاد. إن أكبر دليل على خطورة الاشتغال الريعي لحزب العدالة والتنمية هو تفوقه على غريمه القوي؛وأي غريم هو؟ ولو صوت جميع المواطنين ،أصحاب الحق ،بما فيهم مغاربة المهجر ،لكانت النتائج كارثية؛ولاستعدنا قصة الخميني ،حينما تحرك،بعباءة الفقيه، صوب عرش فارس. لنُحكم الواقعية السياسية ،ونحمد التقاطب،مؤقتا ، وتوافقيا ؛كما قبلنا بالتناوب التوافقي. لا يفل الحديد إلا الحديد. لقد سبق أن نبهت حزب العدالة والتنمية ،وما أنا بوزن من ينبه حزبا ذا قرنين، بألا يركب المركب الصعب ،وبأن يتنازل عن رئاسة الحكومة ،ولو فائزا ؛إذا كان يُجل الوطن وأمن المغاربة،ويقرأ ملابسات الوضع الإقليمي والدولي . لا أرى الغد إلا مكفهرا ،إذا تواصل الاشتغال الريعي الحزبي في المغرب،قاعدة ؛من أي جهة صدر. في المحبسين بنى شيخ المعرة مجده الخالد؛ ألا يمكن للمخلصين لهذا الوطن ،من رجال الدولة الصادقين ،الخروج به من ورطة المحبسين الريعيين ،ومناطحة القرنين ؛ إلى سابق عهده بالتعددية الطبيعية والمشروعة؟ نعم نستطيع .. Sidizekri.blogvie.com