توقعات أحوال الطقس اليوم الأحد    تفكيك أطروحة انفصال الصحراء.. المفاهيم القانونية والحقائق السياسية    مجموعة بريد المغرب تصدر طابعا بريديا خاصا بفن الملحون    بيدرو سانشيز: إسبانيا تثمن عاليا جهود الملك محمد السادس من أجل الاستقرار الإقليمي    السعودية .. ضبط 20 ألفا و159 مخالفا لأنظمة الإقامة والعمل خلال أسبوع    المجلس الأعلى للدولة في ليبيا ينتقد بيان خارجية حكومة الوحدة ويصفه ب"التدخل غير المبرر"    الأستاذة لطيفة الكندوز الباحثة في علم التاريخ في ذمة الله    الأمن في طنجة يواجه خروقات الدراجات النارية بحملات صارمة    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    إسرائيل تتهم البابا فرنسيس ب"ازدواجية المعايير" على خلفية انتقاده ضرباتها في غزة    المغرب أتلتيك تطوان يتخذ قرارات هامة عقب سلسلة النتائج السلبية    أمسية فنية وتربوية لأبناء الأساتذة تنتصر لجدوى الموسيقى في التعليم    لقاء بوزنيقة الأخير أثبت نجاحه.. الإرادة الليبية أقوى من كل العراقيل    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    التوافق المغربي الموريتاني ضربة مُعلمَين في مسار الشراكة الإقليمية    من الرباط... رئيس الوزراء الإسباني يدعو للاعتراف بفلسطين وإنهاء الاحتلال    مسؤولو الأممية الاشتراكية يدعون إلى التعاون لمكافحة التطرف وانعدام الأمن    المناظرة الوطنية الثانية للجهوية المتقدمة بطنجة تقدم توصياتها    توقع لتساقطات ثلجية على المرتفعات التي تتجاوز 1800 م وهبات رياح قوية    سابينتو يكشف سبب مغادرة الرجاء    الممثل القدير محمد الخلفي في ذمة الله    ال"كاف" تتحدث عن مزايا استضافة المملكة المغربية لنهائيات كأس إفريقيا 2025    ألمانيا تفتح التحقيق مع "مسلم سابق"    الدرك الملكي يضبط كمية من اللحوم الفاسدة الموجهة للاستهلاك بالعرائش    التقلبات الجوية تفرج عن تساقطات مطرية وثلجية في مناطق بالمغرب    مدان ب 15 عاما.. فرنسا تبحث عن سجين هرب خلال موعد مع القنصلية المغربية    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    توقيف شخص بالناظور يشتبه ارتباطه بشبكة إجرامية تنشط في ترويج المخدرات والفرار وتغيير معالم حادثة سير    علوي تقر بعدم انخفاض أثمان المحروقات بالسوق المغربي رغم تراجع سعرها عالميا في 2024    جلسة نقاش: المناظرة الوطنية للجهوية المتقدمة.. الدعوة إلى تعزيز القدرات التمويلية للجهات    نشرة إنذارية: تساقطات ثلجية على المرتفعات وهبات رياح قوية    الحوثيون يفضحون منظومة الدفاع الإسرائيلية ويقصفون تل أبيب    أميركا تلغي مكافأة اعتقال الجولاني    بطولة انجلترا.. الإصابة تبعد البرتغالي دياش عن مانشستر سيتي حوالي 4 أسابيع    "فيفا" يعلن حصول "نتفليكس" على حقوق بث كأس العالم 2027 و2031 للسيدات        مهرجان ابن جرير للسينما يكرم محمد الخياري    دراسة: إدراج الصحة النفسية ضمن السياسات المتعلقة بالتكيف مع تغير المناخ ضرورة ملحة        اصطدامات قوية في ختام شطر ذهاب الدوري..    بريد المغرب يحتفي بفن الملحون    العرض ما قبل الأول للفيلم الطويل "404.01" للمخرج يونس الركاب    الطّريق إلى "تيزي نتاست"…جراح زلزال 8 شتنبر لم تندمل بعد (صور)    جويطي: الرواية تُنقذ الإنسان البسيط من النسيان وتَكشف عن فظاعات الدكتاتوريين    مراكش تحتضن بطولة المغرب وكأس العرش للجمباز الفني    طنجة: انتقادات واسعة بعد قتل الكلاب ورميها في حاويات الأزبال    كودار ينتقد تمركز القرار بيد الوزارات    مؤتمر "الترجمة والذكاء الاصطناعي"    البنك الدولي يدعم المغرب ب250 مليون دولار لمواجهة تغير المناخ    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    المستشفى الجامعي بطنجة يُسجل 5 حالات وفاة ب"بوحمرون"    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



صِراعُ الفِيلة بِقُبُور مفتوحة: رِيع يَثأَرُ مِن رِيع
نشر في هسبريس يوم 17 - 12 - 2012


ملتقى الوديان:
في قريتي الجبلية اتخذت لي مسكنا في القاعدة العريضة لمثلث ،يتشكل ضلعاه- وهما بكيلومترات عديدة- من واديين يتحدران من سلسلة جبال الزكارة،وصولا إلى قمة المثلث حيث يلتقيان ؛وكأن بينهما برزخ لا يبغيان:واد مسفركي وواد العطشان.
حينما تُرعد وتُمطر ويصل هدير الواديين إلى مسامعي أوقِفْ كلَّ أنشطتي وأتوجه إلى حيث يتناطح السيلان ،لأجد بعض ساكنة الجوار قد سبقتني ؛ولِكل مآرِبه.
يقف المتأملون فقط لعظمة الخالق ،وهول التناطح المائي – مثلي- إلى جوار المتربصين بشجرة عرعر أو بلوط- مُتَحَيَّفَة من غابة سهب أحمد،في عاليتي الواديين، أو أية لُقٌيا طَافِية.
في آخر فُرجة رائعة قدمها لنا الواديان ،شَرَدْتُ بعيدا بفعل "النيكوتين السياسي"؛ورغم الدوي المرعب لحمولة الواديين وهي تتصادم في تدافعها صوب سهل أنكاد، وواد" بورديم" ،المتورط –منذ سنين في إغراق قطار فاس وجدة؛رغم هذا وجدتُنِي أستعيد تفاصيل تصادم يقع اليوم بين حزبين مغربيين كبيرين:العدالة والتنمية(الأكبر سنا) والأصالة والمعاصرة(آخر من التحق).
نظرت حولي إلى جمهور "ملقى الويدان"،من جيراني القرويين فبدا لي ممثلا للمواطنين المغاربة الذين يتفرجون ،اليوم،على صراع حزبي شرس ،بسيوف مستلة وقبور مفتوحة؛ووجود حتى المشيعين لجنائز محتملة.
ملتقى الريعين:
ريع العدالة والتنمية:
سبق أن اعتبرت ,في مقال سابق,أن تأسيس حزب-أي حزب- في المغرب ،انطلاقا من مرجعية دينية ،معتدلة أو متشددة، خطأ سياسي فادح وقع فيه المخزن ،حينما أرغمته التوازنات على أن يفوت بعضا من احتكار أمير المؤمنين لتدبير الشأن الديني إلى جهات كان يرى فيها المقدرة على نزع فتائل كان الفكر اليساري يمهد لإشعالها.
طبعا تم هذا التفويت بكيفية ضمنية؛وغير معلنة.
لا خلاف حول أهمية تحقيق التوازن التمثيلي في تدبير الدولة؛خصوصا وللمخزن الرسمي تجربة مريرة مع الحزب المكتسح الذي أصبح عليه المغرب غداة الاستقلال ؛خصوصا حينما خرج من صلبه يسار شرس،ومكتسح بدوره.
وعليه فكل محطات المسار "الجينيلوجي" التي مر بها حزب العدالة والتنمية ,إلى أن استوى قاطرة للحكومة تمتح من الريع الديني .وهذا الريع أشد,في تعطيل الدولة المدنية ،من الريع المادي ؛لأن هذا الأخير ينشأ وينحل بقرار إداري.
أما الريع الديني فهو وجداني لا سلطة لأحد عليه ؛لأن حيازته توصل إلى جنة الدنيا ،وهي السلطة ؛دون نضال سياسي ،ودون برامج عمل ؛عدا برامج وجدانية ،لا تكلف أكثر من مصادرها التي يسرتها الشبكة للجميع ،بدون ثمن.
وتتجلى خطورته في كونه مدخلا لريع سياسي آخر: احتكار لكل العطاء الذي تقدر عليه الأمية في المغرب ،بكل نسبتها المخجلة. وتأسيسا على هذا يمكن القول –على غرار مقولة" لا فائدة في ميت لأحد"- لا فائدة في الأمية المغربية لأحد عدا من يستثمرون فيها لأغراض سياسية وانتخابية؛ هيئات وأفرادا؛ومنها طبعا حزب العدالة والتنمية.
ومن هنا لا تنشط هذه التنظيمات –بكل حماس-لإبادة الأمية نشاطها لأعمال البر والإحسان مثلا: (أطعم ولا تعلم).
أستثني هنا المنهاج التربوي المتكامل لفقيد المغرب والأمة الإسلامية المرحوم عبد السلام ياسين. إن الريع الديني جعل الحزب يستحوذ على ريع الأمية ؛وكلاهما يحقق كل الطموحات السياسية السلطوية بأرخص الأثمان:
حتى الخطاب الديني الموجه للأميين لا يكلف اجتهادا ؛يكفي أن تعلق حمائل السيف ،دون سيف،لتصيرك العامة فارسا مغوارا. نعم يا شيخ المعرة قد تغني الحمائل عن السيف.
ورغم الاستفادة السياسية والانتخابية، الظاهرة ،لحزب العدالة والتنمية من هذا الريع ؛فإنها ،في الحقيقة تتضمن ضررا للحزب على المدى البعيد:
لقد رفع هذا الحزب سقف الانتظارات الشعبية ،عاليا،مستندا إلى الدين،كما يفهمه ،وكما يذيعه؛واضعا كل بيضه في سلته ؛ليجد نفسه ،وهو يدبر الحكومة،عاجزا حتى عن التيمم ،بله الوضوء.
" وكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد" صدق الله العظيم.
إن كانت سنوات المتعة الدينية يسرت كثرة الأتباع، وأوصلت إلى الصدارة في الانتخابات ،فان قادة الحزب بُهِتوا
وهم يصطدمون بالجدار الصلب لإمارة المؤمنين؛ثم وهم يُلزمون بالتشمير على سواعدهم للعمل السياسي ألتدبيري الصرف ،دون رفع الأكف إلى السماء؛فهي لا تمطر ذهبا ولا فضة.
ستنتهي ولاية الحزب ،وسيجد نفسه مُحرجا مع قواعده ؛وسيخجل من تكرار وعوده بإغلاق الحانات ،وأسلمه المعرفة والفن ،وإلزام القنوات العمومية بدفاتر ملتحية ؛وغير هذا من الوعود التي تدغدغ حب المغاربة الفطري للدين.
لكنهم تواقون أيضا إلى الحرية ، حفظ الحقوق ،صيانة الكرامة ،توفير التعليم الوظيفي ،الشغل والخدمات الصحية..
رغم تدينهم لم يستسيغوا أن يقول لهم رئيس الحكومة:الرزق على الله.
ها نحن نقرأ اليوم بعض الكتابات العدلية التي تحاول الإقناع بالبراغماتية السياسية ،وبالحديث عن الديمقراطية ،وبتقوية صبر الراغبين في عسل الجنة.لكن هل تستطيع عامة الأتباع أن تفهم هذا الكلام؟
سيزأر الأسد زئيرا ما بعده غير افتراس راكبيه.وقد حدث مثل هذا لحكومة عبد الرحمن اليوسفي ؛فرغم كل انجازاتها،خصوصا في بناء الترسانة التشريعية،لم يغفر لها المواطنون عدم اقترابها منهم ،ومن انتظاراتهم التي راكمها،في أذهانهم، لعشرات السنين،خطاب المعارضة.
هانحن نرى اليوم قياديي العدالة والتنمية –بعد انسداد الأفق,لأسباب ذاتية وموضوعية- يبحثون عن المشجب .
يُجْرُون نهرَ الريع في اتجاه ريع غيرهم ليَشْغلوا المواطنين بفرجة"ملتقى الوديان".
ريع الأصالة والمعاصرة:
لم يكن قادرا على خلخلة البنية الحزبية المغربية- نزولا من أعلى- تمهيدا لمشروع سياسي إصلاحي، مفصلي، سوى رجل يحظى بثقة كبيرة من طرف المخزن .هذه الثقة أقوى من الصداقة لأن الصداقة مجرد حالة إنسانية ،وجدانية تؤثث حياة جميع الناس.كم نصادق من الناس لكن لا نشركهم في أمورنا الخاصة.
ورغم توالي الاتهامات،باستغلال هذه الصداقة في الاستقطاب؛خصوصا من أحزاب الكتلة،لا تخطئ عين الملاحظ الموضوعي أن قوة الحركة تغذت حتى من هذه الأحزاب المنتقدة.لم يكن الصمود للإغراء أمرا سهلا.
ثم تحرك الجرار ليحرث الساحة السياسية حرثا لا قِبل لها به ؛وصولا إلى تشكيل فريق نيابي عتيد .حصاد قمح في فصل الربيع؛خلافا للمألوف ألفلاحي المغربي.كل شيء كان يوحي بأننا أمام تشكل مدرسة سياسية جديدة؛لم تدرس بعد حق الدراسة.
هل يمكن اعتبار هذا الاكتساح السريع للساحة حجة، تؤكد صحة ما دَفَعَ به خطاب"حركة لكل الديمقراطيين"-وبعدها الحزب -من كون الوقت قد أزف، لتحريك الركود السياسي ،وتكوين قيادات جديدة لتدبير المرحلة؟
سيبقى الحسم للتاريخ ،فقد ينصف الحركة والحزب معا ؛ويبين –ربما- أن الصدف السعيدة وحدها شحذت همتها لتحقق على يد الرجل مشروعا سياسيا كبيرا في بيئة سياسية راكدة، لم تعرف كيف تتكيف مع الملكية الثالثة ،بعد الاستقلال.
وقد يدينهما بالاستفادة من ريع سياسي ،مكن من تحقيق أرقام قياسية غير مسبوقة في تأسيس الأحزاب المغربية ؛بما فيها التي صُنعت صنعا في مواسم استنبات الأحزاب.
لكن ما لاخلاف حوله هو كون المؤسسة الملكية الحالية تتمتع بشعبية كبيرة بين المواطنين ؛تجعلها في غنى كامل عن الاستقراء بأية هيئة ،تمكن لها وسط الأحزاب المغربية لتقوم بدور صمام الأمان؛على غرار جبهة حماية المؤسسات الدستورية التي فرضها ظرف اتسم بنوع من العنف السياسي بين الفرقاء غداة الاستقلال.
هذا الواقع سَيُصَعِّب مهمة كل محلل، أو مؤرخ –في المستقبل- يطمح إلى معرفة الحقيقة.
ستظل كل الاتهامات ؛وخصوصا ما يصدر منها عن رئيس الحكومة ,تصريحا أو تلميحا ،مجرد فرضيات بحاجة إلى تمحيص.
وما يُقوي هذا الطرح هو الرجوع بسرعة الى تاريخنا الحديث؛اذ أغلب قادة الحركة الوطنية كانوا بمثابة أصدقاء للمرحوم محمد الخامس وولي عهده؛ ناضلوا جميعا من أجل الاستقلال،نعم،لكن حزبا كحزب الاستقلال استثمر القرب من القصر ،و الغضب الشعبي العارم من المساس بالجالس على العرش- ولو بدون قصد - ليكتسح الساحة السياسية كلها ،بكيفية عجزت عنها حتى الأحزاب الشيوعية في العالم.
حتى في هذه الحالة يمكن الحديث عن ريع سياسي؛إذا اكتفينا بظواهر الأمور.
ورغم كل هذا لا يمكن أن ننكر أنه حتى في غياب أي قصد للتمكين لحزب الأصالة والمعاصرة، يظل مستفيدا ليس من الريع مباشرة؛ ولكن من وضعية ثقافية،أكثر منها سياسية، تجعل من الصعب على المواطنين- حتى النخبة منهم- الفصل بين النشاط السياسي المشروع ، لمؤسس الحزب ،كسائر المواطنين؛وبين كونه- وقتها- صديقا للملك.
هذا ما يفسر- في نظري- التدافع الذي حصل ،بين العديد من أطر الأحزاب ،والأطر العليا للدولة،للالتحاق السريع بالحزب ،وكأنه حزب الميعاد؛أو طريق الحرير. طبعا لم يكن الحزب بحاجة لأية حملة استقطاب، وسط الشريحة العريضة من المواطنين؛ولم يلتفت أبدا إلى الطبقة الفقيرة.
وحينما أزفت ساعة الاختبار الميداني شاهدنا جميعا ،في صخور الرحامنة ،حملة برلمانية غير مسبوقة؛لم تخرق قانونا ؛ومن حضورها أطُُر ومثقفون، من مشارب شتى.وكانت النتيجة كما نعرف ،ولم تُغَلَّ يَدُ لأحد حتى لا يطعن.
وتلاحقت نتائج الحزب،وهي تقارب هذا المستوى، في عدد كبير من الدوائر الانتخابية الوطنية..من المسؤول عن هذه الوضعية؟ هل كان على مؤسس الحزب أن يصرخ في وجه الناس :إياكم والخلط أنا صاحب مشروع سياسي لا علاقة له بالملك؟ لا يُظُننَّ أحدكم أن بوسعه أن يستفيد من صداقتي للملك.
طبعا لا شيء في قانون الأحزاب يُلزم بهذا. ولم ينتظر أحد من علال الفاسي،مثلا، أن يقول غداة الاستقلال: أيها المغاربة إن حزب الاستقلال ليس حزب محمد الخامس.
ولم يستفد علال الفاسي وحده من هذا الوضع ؛فحتى أقطاب اليسار ,بعد الانشقاق،كانوا على صلة بالملك وولي العهد.
وحتى لا تلتبس الأمور أكثر تم تعيين المؤسس مستشارا ملكيا ،مباشرة بعد وصول حزب العدالة والتنمية الى السلطة,في الظروف المعروفة. وكان أول طلب عرضه المستشار على رئيس الحكومة، هو إعادة العداد إلى الصفر لتنشأ علاقة جديدة ،بعيدة عن التنافس الحزبي.
اليوم نحن أما صدام بين الحزبين ،من نوع لم تألفه ساحتنا السياسية.فرادة هذا الصدام راجعة ،في نظري، إلى كونه في الحقيقة ،
صدام بين ريعين:
ريع ديني ثابت ومعلن ومستثمر باحترافية كبيرة من طرف قادة العدالة والتنمية.وفي ركاب هذا الريع يوجد ريع ديني آخر أضافه المواطنون من ذاتيتهم،باعتبار مكانة الإسلام في نفوس المغاربة منذ فجره؛وباعتبار مَللِهم من خطاب الأحزاب التي تعاقبت على السلطة؛وخصوصا اليسار الذي راهنوا عليه كثيرا.
وريع سياسي مُتِّعَ به الحزب الجديد ؛ولم يكن له أن يرفضه ؛لاستحالة إقناع الناس بأن حزبَ الملك هم المواطنون كلهم . جرى مجرى العرف ،لسنين عديدة،أن للمخزن أحزابه .
بل ومُتع حتى بحملة صحفية غير مسبوقة –خصوصا المساء- رسخت تدريجيا في الأذهان أن المولود الجديد هو "حزب سيدنا".هو نقد ،لكنه حمال أوجه؛ولكل وجهته.
حتى المفهوم الجديد للسلطة الذي أسس به الملك لمشروعه الإصلاحي والتنموي الكبير لم يُفكِّك هذا العرف .
الآخر هو الجحيم:
حينما يتحدث رئيس الحكومة،اليوم، هذه اللغة يضرب شعار المفهوم الجديد للسلطة في الصميم ؛ويُجهز عليه، وسط الشعب العميق ،وهو يدلي بعفاريت يترصدونه،وحزبه، في كل منعطف.
هو لا يقول:اللوبيات أو مراكز القوى ،لأنه يعرف أن كلمة العفاريت أبلغ دلالة وأيسر للفهم، في الحارات السفلى.
فكيف يُقتل العُرفُ ألمخزني السابق في أذهان الناس ،ويؤمنوا بدولة الدستور والمؤسسات ،ورئيس الحكومة لم يترك منتدى،في الداخل والخارج ،إلا واشتكى فيه من جهات تعرقل عمله؟ بدل كل هذا التعطيل للدولة ,والطرد للاستثمار'وإغراء رجال السينما الهتشكوكية بالقدوم إلى دولة الأشباح؛كان يكفيه – لو صدق في شكواه- أن يكتب قصاصة استقالة مبررة ومؤسسة،ثم ينصرف إلى النضال الحزبي في انتظار نضج أكثر للإرادة السياسية ،وموسم سياسي آخر.
اشترط الأستاذ أمحمد بوستة شرطا على المرحوم الحسن الثاني ,كمدخل للتناوب التوافقي ؛ولما رُفض شرطه تأبطه وانصرف .شيخ اليسار عبد الرحمن اليوسفي لم يُعفرت أحدا ؛تحدث عن انقلاب عن المنهجية الديمقراطية ثم غادر.
فقد حزبه كل بريقه،أو كاد وبقي هو شامخا .اليوم استمعنا إلى المتنافسين على الكتابة العامة وهم يتفقون على كونهم ندموا على عدم خروجهم إلى المعارضة،حينما دُفعوا إليها دفعا.
لو أراد الشيخ ياسين ،رحمه الله،أن يدخل حلبة الحكم لما ترك لبنكيران فضل ظهر. يبزه دراية ورواية ،سياسة ولباقة,بيانا وتبيينا،وصمودا في وجه الأعاصير؛ورغم هذا ترك له الجمل وما حمل؛بل انسحب حتى من الشارع حتى لا يترك له ذريعة يبرر بها فشله.
رغم كل هذه الأمثلة يصر رئيس الحكومة على منهجه ،وهو فيه شُكَّاء وبَكَّاء؛وكأن همه ليس النجاح في تدبير ولايته بل إقامة الحجة على أمر لا يعلمه إلا هو. لا ينكر أحد أن قادة الأصالة والمعاصرة لم يدخروا جهدا في تحريض الرجل على التصريح بمقاصده ,وبلورة اتهامات صريحة لها وجوه بشرية.
وهذ القضاء الذي نزل؟
ربما لأول مرة في تاريخ العمل السياسي بالمغرب يصل الصدام السياسي- ولا أقول الصراع- بين حزبين إلى القضاء. وقد يضحك القضاة كثيرا حينما ينكبون على هذا القضاء الذي نزل:تبادل سباب واتهامات بلسان حاف. ما اسمك؟ صفتك؟ هل قلت لفلان :اللي فيه الفز.......وأنت هل قلت : اتفو لرئيس الحكومة؟
لا المسألة أعمق من هذا ؛وهي محزنة ولا تستدعي الضحك إطلاقا.
سيكون صراع الفيلة ،هذا ،مفيدا إذا اعْتبُِرَ مدخلا لتصحيح الديمقراطية التي ارتضاها المغرب منهجا في الحكم لا رِجعة فيه ؛ولا مساومة عليه،ولا تنازل ,ولو مؤقتا،عن مقتضياته ,كما هي متعارف عليها عالميا. الدين لله والوطن للجميع؛تتساوى جميع الحظوظ في الوصول إلى السلطة ؛من خلال تنافس شفاف وشريف.
من جهة، يجب القطع مع كل أشكال الريع الديني و السياسي –أو شبهات الريع- التي تجعل حزبا ما ،لظروف طارئة،يُمكن من آليات عمل رهيبة تجعله يصل إلى تدبير الحكومة دون نضال سياسي،شاق وطويل ،ودون برنامج عمل دقيق ؛ لا يترك له حيزا للكلام والصدامات السخيفة. ومن جهة أخرى فان ما جرى من تصحيح لوضعية قيادة حزب الأصالة والمعاصرة ؛من حيث استقالة مؤسسه ليتفرغ لمؤسسة الاستشارة،يقدم دليلا,وبرهانا جليا، على أن سمو المؤسسة الملكية هو في الحقيقة سمو عن الأحزاب كلها
لتترك للتنافس الشريف دون أي مُشوش ،حقيقي أو وهمي.
يجب أن يحل مشكل هذا الصدام لأن المواطن يتضرر منه:قادة الحزبين منشغلون يبعضهم البعض ؛لا الحكومة
مُستجمعة لكل قوتها في الأداء ،ولا المعارضةُ تُقدم بديلا ،لأنها تكاد لا ترى عملا. انتبهت إلى مرافقي،في ملقى الويدان، وهو يقول لي: انتهت الفرجة، و كاد الليل يرخي سدوله ؛فهل تريد العودة في الظلام؟
رددت في نفسي قوله تعالى:
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ ، بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ ، فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ، يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ، فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ .
ومضينا وأنا متفائل جدا بأن نصبح ،بعد كل هذه الصراعات،على وطن وكأن ساسته من لؤلؤ.
[email protected]
Ramdane3.ahlablog.com


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.