لم يترك الملك محمد السادس أمر إمارة المؤمنين للصدفة أو النقاش، فهو يعتبره مكونا أساسيا من مكونات الهوية المغربية في خطاب التاسع من مارس الشهير، الذي اعتبره الكثيرون إعلانا صريحا عن مملكة جديدة. إنها حلقة أساسية في تحديد الهوية المغربية، بالإضافة إلى الإسلام كدين للدولة. وعلى الرغم من أن بعض الأصوات حاولت استغلال هامش الحرية، الذي فتحته حركة العشرين من فبراير التي كانت امتدادا طبيعيا للربيع العربي، لفتح نقاش حول هذا الشق، إلا أن اللجنة الخاصة التي اشتغلت على وضع مسودة الدستور عادت لتؤكد على أن مؤسسة إمارة المؤمنين يجب أن تظل رمزا من رموز الهوية المغربية. إن «إمارة المؤمنين» كانت خلال المرحلة السابقة لإدراجها في الدساتير المغربية ٬«تستقطب بحمولتها الدينية كل تصرفات الملك المشخص للدولة». فكانت العلاقة بين المصطلحين علاقة تمازج واندماج في التقرير وفي التنفيذ، كما يقول الأستاذ الخمليشي، مدير دار الحديث الحسنية. لقد ردد رافضو إمارة المؤمنين مقولتهم الشهيرة «إن الدين لله والوطن للجميع» في إشارة إلى أن تدبير الشأن السياسي لا يجب أن يقترن بتدبير الشأن الديني. ويزيد الغلاة منهم في الشرح: «إن إمارة المؤمنين لا معنى لها في البنيات السياسية الديمقراطية، خصوصا أن الأمر لا يتعلق بزمن الحروب الصليبية أو بالفتوحات الدينية، لذلك لا يمكننا الارتكاز على دعامات من أجل تحقيق الحرية والديمقراطية وكرامة الإنسان دونما فصل واضح بين الديني، وهو علاقة الإنسان مع الله، وبين الدنيوي وهو العلاقة بين الإنسان والإنسان. إن فصل الدين عن السياسة في نظرهم هو تقديس للدين أولا، وعدم إقحامه في صراعات حول السلطة. فوجود الحاكم كخليفة الله على الأرض، هو موجود في إطار تعاقد سياسي اجتماعي . إمارة المؤمنين في الشريعة
إن إمارة المؤمنين في شريعة الإسلام، تعني الرئاسة العظمى والولاية العامة الجامعة القائمة بحراسة الدين وسياسة الدنيا، والقائم بها يسمى «الخليفة» لأنه خليفة رسول الله. ويسمى أيضا «الإمام» لأن الإمامة والخطبة في عهد الرسول وعهد الخلفاء الراشدين لازمة له، ولا يقوم بها غيره إلا بطريق النيابة عنه. كما يسمى «أمير المؤمنين» وهو الوالي الأعظم، الذي لا والي فوقه ولا يشارك في مقامه غيره. وأصل مشروعية إمارة المؤمنين تستمد من إجماع علماء الإسلام من عصر الصحابة والتابعين وأهل السنة والمرجئة. يقول ابن حزم شارحا هذا الأمر «لقد اتفق جميع أهل السنة وجميع المرجئة، وجميع الشيعة وجميع الخوارج على وجوب الإمامة. وأن الأمة واجب عليها الانقياد لإمام عادل، يقيم فيهم أحكام الله، ويسوسهم بأحكام الشريعة التي جاء بها رسول الله». ويضيف الماوردي في «الأحكام السلطانية»: «فإذا ثبت وجوب الإمامة، ففرضها على الكفاية كالجهاد وطلب العلم, فإذا قام بها من هو من أهلها سقط فرضها عن الكافة»، ووجوبها عند الأشاعرة والمعتزلة هو وجوب شرعي . ويستند هذا الإجماع على إشارات في كتاب الله وسنة رسوله. فقد ذكر الماوردي: «إن الشرع جاء بتفويض الأمور إلى ولي في الدين، في قوله تعالى في سورة النساء:» يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم». وروى هشام بن عروة عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رسول الله قال: «سيليكم بعدي ولاة، فيليكم البر ببره والفاجر بفجوره، فاسمعوا لهم وأطيعوا في كل ما وافق الحق فإن أحسنوا فلكم ولهم، وإن أساؤوا فلكم وعليهم». لقب أمير المؤمنين في المغرب كتب المؤرخون أن استعمال لقب «أمير المؤمنين» في المغرب انطلق مع الدولة الموحدية ثم الدول التي أعقبتها. لكن بداياته تعود إلى الدولة المرابطية حيث أطلق على مؤسسها يوسف بن تاشفين لقب «أمير المسلمين». وكان قبل ذلك يلقب ب «أمير المغرب». لكن بعد أن أضحت كل الأراضي المغربية تحت سلطته، اجتمع الأعيان والعلماء وشيوخ القبائل، ثم عرضوا عليه لقب ''أمير المؤمنين'' إلا أنه رفض ذلك بمبرر أنه أمازيغي وابن الصحراء. وبذلك فهو لا يتوفر على شرط النسب إلى بيت النبوة. وهكذا اتخذ لنفسه لقب «أمير المسلمين وناصر الدين». وهو لقب أقره له العباسيون في بغداد، لكنهم طالبوه بإعلان الولاء له. ويعتبر عبد المومن بن علي، مؤسس دولة الموحدين، أول من تسمى في المغرب ب «أمير المؤمنين»، دون أن يكون له انتساب إلى بيت النبوة. ويذكر الناصري في «الاستقصا» أنه «باستثناء عبيد الله المهدي في القاهرة، وعبد الرحمان الناصر الأموي في الأندلس، لم يتجاسر أحد لا من ملوك العجم بالمشرق، ولا من ملوك البربر من المغرب على اللقب بأمير المؤمنين، لأنه لقب الخليفة الأعظم القرشي كما علمت. إلى أن جاءت دولة المرابطين، وكان منهم يوسف بن تاشفين، واستولى على المغربين والأندلس، وعظم سلطانه، واتسعت مملكته. وخاطب الخليفة العباسي بالمشرق فولاه على ما بيده، وتسمى بأمير المسلمين أدبا مع الخليفة''. إلى أن قال:''ولما جاء عبد المومن هذا، لم يبال بذلك كله. وتسمى بالخليفة، وتلقب بأمير المؤمنين وتبعه على ذلك بنوه من بعده». ولم يتوفر شرط الانتساب إلى بيت النبوة إلا مع مؤسس الدولة السعدية، وكان ذلك أحد الدوافع لكي يطلق عليه مؤسسها لقب «أمير المؤمنين» الذي حل محل لقب «أمير المسلمين». لكن هناك دواعي أخرى منها تدهور الخلافة العباسية في بغداد، بحيث آلت السلطة إلى العثمانيين الذين يفتقدون إلى رابطة النسب بالبيت النبوي، مما جعل الدولة السعدية، حينها، تنفرد في العالم الإسلامي بتوفرها على السند النبوي الشريف. وهو نسب استمر مع الدولة العلوية، ولا يزال قائما إلى اليوم. وقد تم الاحتفاظ بلقب أمير المؤمنين على استمراريته وتجذره في الوعي السياسي والديني للمغاربة. ويفسر محمد عابد الجابري هذه الخصوصية المغربية باستقلال المغرب عن الخلافة العباسية في المشرق منذ عهد هارون الرشيد، وبتطور الدولة فيه من «دولة منشقة» على عهد الأدارسة، إلى «دولة مجاهدة» على عهد المرابطين والموحدين والسعديين حيث ظلت تصدّ هجمات النصارى على الأندلس، وتعمل على توحيد بلدان شمال إفريقيا وجمع كلمة المسلمين فيها، أو تتجند ل«الفتح» جنوبا إلى السودان الغربي». لقد جعل هذا الأمر الملوك والسلاطين المغاربة يشعرون باستحقاقهم الألقاب التي تضفي الشرعية الدينية على حكمهم، ومن هنا اختيار لقب «أمير المسلمين'' على عهد المرابطين، أو اختيار لقب ''أمير المؤمنين» بدءا من الموحدين، الذين عاصروا انهيار الخلافة العباسية. وهي ألقاب تجمع بين السلطتين الدينية والسياسية، وتلزم حاملها بالتقيد بأهم مقومات الخلافة في الإسلام من الناحية العملية على الأقل، ومنها تولي الحكم بالبيعة، والعمل بالشورى. ويضيف الجابري أن البيعة يتولاها أهل الحل والعقد، وهم شيوخ القبائل الذين يمنحون الشرعية السياسية، والعلماء الذين يمنحون الشرعية الدينية. إذ أن شيخ قبيلة معينة قد يدفعه طموحه إلى إخضاع بقية القبائل لسلطته، ويعلن نفسه سلطانا، لكن لا يتم له الأمر إلا بعد أن يحصل على بيعة العلماء. وقد جرت أن تكون البيعة مكتوبة تحمل توقيعات العلماء، إضافة إلى بيعة عامة هي عبارة عن قدوم وفود المناطق والقبائل للتهنئة وإعلان الولاء. ولم تكن البيعة مجرد إجراء شكلي، بل كانت تتضمن شروطا ضمنية وأحيانا صريحة، على رأسها التزام السلطان بالعمل بالكتاب والسنة مقابل الطاعة في المعروف. ومقتضى البيعة أنها تمنح للفقهاء، مبدئيا على الأقل، حق مراقبة السلطان. وقد خضع السلاطين المغاربة منذ قيام دولة الأدارسة إلى أن فرضت الحماية سنة 1912 لنظام البيعة هذا. وبمقتضى هذا العقد كان العلماء يمارسون وظيفتهم إلى جوار السلطان عبر آليات مختلفة، منها «آلية الفتوى» التي يطلبها السلطان، وهناك «آلية الاستفتاء» أي الاستشارة الواسعة للسلطان مع ذوي المكانة والنفوذ في الدولة من علماء وتجار وأعيان وشيوخ القبائل. وهناك آليات أخرى كالنصيحة والنقد والمعارضة والاعتراض. وفي مطلع القرن السادس عشر، وبسبب سقوط الأندلس واستهداف المغرب من لدن الإسبان والبرتغال، أصبح الجهاد قضية وطنية، فبايع المغاربة مؤسسي الدولة السعدية، وهم مجرد أشراف وعلماء ولم تكن لهم عصبية قبلية، على أساس الجهاد ومواجهة التوسع الاستعماري. وكانت تلك أول مرة في تاريخ المغرب يختار الناس شخصا ليولوه سلطانا عليهم. وإذا كانت القاعدة في الماضي أن المتزعم لحركة الثورة ضد الدولة القائمة يُبايع بعد أن ينتصر بقوة السلاح، فإن تأسيس الدولة السعدية كان على العكس من ذلك، أي نتيجة مُبايعة الناس لأحد رجال الدين والعلم، ولمُهمة أساسية هي قيادة المقاومة الوطنية ضد الاحتلال الأجنبي والضغط العثماني. مما جعل منه حقا «أمير المؤمنين» أي قائدا لجيوش المسلمين، كما يقول الجابري. وقد ظلت البيعة في المغرب، بعدها، مشروطة دوما ب «العمل بالكتاب والسنة»، وكثيرا ما كان يتم التنصيص في وثيقة البيعة على ''ما بُويع عليه رسول الله «ص» والخلفاء الراشدون والأئمة المهتدون''. البيعة وإمارة المؤمنين عند العلويين لكن الجديد الذي بدأ خاصة مع تولي العلويين الحكم، كان ربط البيعة بشروط محددة تشغل الرأي العام الوطني. وكانت بيعة المولى سليمان أول بيعة مشروطة بالسير على الخلافة الشرعية والسنن المحمدية ونصرة الدين وترك البدع والمظالم والمكوس والمحارم. كما كانت آخر بيعة مشروطة هي تلك التي تمت للمولى عبد الحفيظ سنة 1908 واعتبرها علال الفاسي «عقدا بين الملك والشعب يخرج بنظام الحكم من الملكية المطلقة إلى ملكية مقيدة دستورية»، ويضيف علال الفاسي شارحا ''فليس من حق السلطان منذ الآن أن يبرم أية معاهدة تجارية أو سلمية، مدنية أو اقتصادية، إلا بالرجوع إلى الشعب ومصادقته''. لكن الملاحظة المثيرة في هذا الصدد أن مشروع دستور 1908 نص في مادته السادسة على أنه: «يلقب السلطان بإمام المسلمين وحامي حوزة الدين''. وهو لقب جديد، ينضاف إلى الألقاب التي استعملت من قبل، أي أمير المسلمين، وأمير المؤمنين، لكن دستور 1908 بقي مشروعا فقط، تم إجهاضه بعد ذلك في سياق الاحتلال الأوربي للمغرب. لكن في أول دستور للمغرب المستقل تم تدارك الأمر بدسترة لقب ''أمير المؤمنين'' في دستور 1962. لكن الخلاف ظل كبيرا حول ما إذا كان مجرد لقب وصفة للملك، أم يمنحه صلاحيات واختصاصات؟
الخمليشي: وجود مؤسسة «إمارة المؤمنين» خفف كثيرا من أزمة العلاقة بين الديني والسياسي إن وجود مؤسسة «إمارة المؤمنين» في النظام الدستوري المغربي٬ ساعد كثيرا في التخفيف من أزمة العلاقة بين الديني والسياسي. ويبرز ذلك واضحا في مجالين أساسيين تقوم عليهما الدولة الحديثة وهما ترسيخ دولة المؤسسات، وحقوق الفرد وحريته. فعلاقة الدين بالدولة مركزية بمؤسسة «إمارة المؤمنين» في نظام الحكم٬ نظرا لدورها في إدارة الشأن الديني٬ ومدى التماهي أو التمايز٬ في ذلك النظام٬ بين السلطة الزمنية والسلطة الدينية. إن الدستور المغربي لسنة 2011 الذي تميز بترسيخ مؤسسات الدولة الحديثة وتكريس ثقافة حقوق الإنسان وحمايتها٬ جاء أيضا بصياغة جديدة لمؤسسة «إمارة المؤمنين» ٬ التي لم تشكل في أي وقت من الأوقات عائقا أمام الدولة الحديثة. إنها تقوم، في النموذج المغربي من حيث الممارسة، على المساهمة في بناء الدولة المدنية الحديثة القائمة على مرجعية الأمة في تدبير شؤونها العامة، وعلى ضمان الحقوق الأساسية للأفراد والمساواة بينهم بصرف النظر عن الجنس أو اللون أو العرق أو العقيدة. إن ما يعيشه العالم الإسلامي من صراع عنيف في التوافق بين التصورات والأفكار التي ورثها عن تدبير الشؤون العامة للمجتمع ومستجدات الواقع وفي مقدمتها دولة المؤسسات وحقوق الفرد وحريته، دفع المغرب لكي يستكمل من خلال دستوره الأخير عناصر دولة المؤسسات المحددة اختصاصاتها بوضوح مع الرقابة المتبادلة تطبيقا لمبدأ مونتسيكيو «السلطة لا يحدها إلا السلطة»، ومنها المؤسسة الجديدة المتمثلة في المحكمة الدستورية الموكول إليها مراقبة دستورية القوانين. ثم إن «إمارة المؤمنين» كانت خلال المرحلة السابقة لإدراجها في الدساتير المغربية٬ تستقطب بحمولتها الدينية كل تصرفات الملك المشخص للدولة ٬ فكانت العلاقة بين المصطلحين علاقة تمازج واندماج في التقرير وفي التنفيذ. لقد تطورت هذه المؤسسة من خلال ما تضمنته الدساتير المغربية المتعاقبة٬ بدءا من دستور 1962 وانتهاء بدستور 2011، الذي تميز بفصل المهام الراجعة إلى رئاسة الدولة عن المهام الراجعة إلى إمارة المؤمنين، خصوصا أن الفصل 41 من الدستور اختص ب «إمارة المؤمنين» ٬ فيما اختص الفصل 42 بالمهام المتعلقة برئيس الدولة، بما يعني وجود تقدم في إحداث مؤسسات الدولة بمفهومها الحديث. إن إمارة المؤمنين مؤسسة رمزية مجالها الأمن الروحي والقيمي في الحياة الدينية للمجتمع، وليس علاقات التعايش اليومية ٬ وتدبير مصالح المجتمع السياسي في تدافعه وتنافس أفراده ومكوناته البشرية والطبقية وسعيه إلى الأفضل. غير أن «إمارة المؤمنين» وإن كانت تعنى بالشعور الديني للأمة ورعايته٬ فإن ذلك لا يعني انفصالها التام عن التدبير السياسي الذي يساهم به الملك بصفته رئيس الدولة. إن الاختلاف القائم في الوعي الاجتماعي٬ بين مركز الملك «المبايع بصفة أمير المؤمنين وفقا للنموذج الذي أسسه الفقه ورسخته الممارسة»٬ وبين مركز «رئيس الدولة» المنتخب بالطريقة المحددة في دستور كل دولة يجعل أن الملك المبايع ٬ ينظر إليه بعيدا عن التأثر الحزبي أو الإيديولوجي أو الطائفي أو الإثني. وهو ما تفسره حوادث تاريخية تتعلق بتحكيمه، خصوصا وأن الفقه نفسه اعترف بهذا التحكيم عندما قال «إن رأي ولي الأمر يرفع الخلاف». لعل أقربه هو تحكيم جلالة الملك بصفته «أمير المؤمنين» عندما تدخل لحسم الجدل الذي شهده المغرب سنة 1999 حول مشروع الحكومة المتعلق بقانون مدونة الأسرة. إن السؤال الموجه من الملك إلى المجلس العلمي الأعلى في موضوع المصلحة المرسلة يسير في الاتجاه الذي يقارب بين إشكالية الدولة المعاصرة والدين٬ ويبعد الصراع بينهما بتقرير وحدة الأساس الذي تقوم عليه الأحكام الشرعية والأحكام القانونية معا٬ وهو تحقيق المصالح ودرء المفاسد وصيانة الحقوق وأداء الواجبات. وبذلك٬ تكون القوانين التي تسنها الدولة منسجمة ومتكاملة مع الأحكام الشرعية وليست نقيضا لها، خصوصا وأن القوانين التي يقررها البرلمان الممثل للأمة بعد المناقشة العامة للآراء المؤيدة والمعارضة٬ يصادق عليها الملك بإصدار الأمر بتنفيذها بصفته رئيس الدولة والحامل في نفس الوقت صفة «أمير المؤمنين». إن المغرب صادق على العديد الاتفاقيات والمواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان في مجالات مختلفة٬ وهو ما يدل على أن التعايش الهادئ بين الديني والسياسي يرجع إلى المركز المتميز لإمارة المؤمنين.
مدير دار الحديث الحسنية
كان حريصا على أن يظهر كفقيه وعالم بالدين والشريعة مما يعطيه الحق في تأويل النص الديني هكذا وظف الحسن الثاني صفته الدينية في حروبه السياسية حينما وُلي عمر بن الخطاب على شؤون الدولة، بعد أبي بكر الذي كان قد أوصى بذلك قبل وفاته، اختار له المسلمون لقب « أمير المؤمنين» بدلا من خليفة رسول الله. لقد قال أصحاب رسول الله «نحن مؤمنون وعمر أميرنا»، على الرغم من أن الشيعة يعتبرون أن عليا بن أبي طالب هو أول من لقب بهذه الصفة. فأبو بكر كان خليفة للرسول. ومن السليم أن يلقب عمر بن الخطاب بخليفة خليفة الرسول، لذلك كان اختيار أمير المؤمنين ليكون بذلك أول خليفة في بلاد الإسلام يحمل هذه الصفة. غير أن إمارة المؤمنين لم تعط لعمر ولا لمن جاء من بعده صفة القداسة. بل إن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن يوصف بالقديس. لقد كان « نبيا يأكل الطعام ويمشي في الأسواق»، كما كان يردد أتباعه من الأنصار والمهاجرين. نفس هذا التعفف سيحمله لقب علي بن أبي طالب، ثم عثمان بن عفان. بل إن كل الخلفاء الراشدين، وهم من العشرة المبشرين بالجنة، حملوا ألقابا ليست فيها أية إشارة على قدسيتهم. فأبو بكر كان صديقا، وعمر بن الخطاب كان فاروقا، «لأن الله فرق به بين الكفر والإيمان»، وعلي بن أبي طالب كان ولي الله، رغم أن الشيعة تسميه ب «الصديق الأكبر» و»الفاروق الأعظم». أما عثمان بن عفان، فقد لقب بذي النورين، لأنه تزوج من بنتي الرسول محمد صلى الله عليه وسلم كلثوم ورقية، ولأنه أول من تزوج بنتي نبي. لقد عاد النقاش حول صفة القداسة، التي وصف بها الملك في كل الدساتير التي جربها المغرب المستقل، بعد أن غير الفقهاء الدستوريون، الذين جاء بهم الملك الراحل لوضع مشاريع الدساتير، كلمة «inviolable» التي تعني لغة « لا تنتهك حرمته» إلى مقدس، على الرغم من أن «المقدس يحيل إلى كل ما هو طاهر وخالص فيما يحيل المدنس إلى كل ما هو دنيوي ونجس». ففي لسان العرب، المقدس من قدس وتقديس. وهو تنزيه الله. وفي التهذيب، القدس تنزيه الله تعالى. لذلك فهو المتقدس، والقدوس، والمقدس. والقدوس، وهي صيغة مبالغة على وزن فعول، وتعني الطاهر المنزه عن العيوب والنقائص. والتقديس هو التطهير والتبريك. وتقدس أي تطهر. ومن تم قوله تعالى في سورة الحشر» هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المهيمن». وقوله تعالى في سورة الجمعة « يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض الملك القدوس العزيز الحكيم». غير أن موسوعة « لالاند الفلسفية» تعتبر المقدس «كل ما يتعين عليه أن يكون موضوع احترام ديني من قبل جماعة من المؤمنين». أما في القاموس الأنتربولوجي، فالمقدس هو «صفة يطلقها المجتمع على أشياء وأماكن وأعمال يعتبرها واجبة الاحترام، فيقيم لها طقوسا دينية لاعتقاده باتصالها بعبادة الله، أو لأنها ترمز إلى القيم الأساسية للمجتمع. ولهذا فهي مصونة من العبث أو التخريب». «إن المقدس»، حسب عالم الاجتماع «دوركايم»، الذي يجب أن يقابله المدنس بالضرورة، «متماثل مع الديني». لذلك فإنه مميز بالتعالي عن حياة الأفراد. وهو الوجه المفارق والمتعالي لحياة الجماعة الدنيوية. وبسبب هذه السمات والخصائص، فإنه لا يستطيع التعايش مع ما يعارضه ويهدمه. وكل ما يعارضه أو يختلف معه سيكون وقتها مدنسا. فالمقدس يحيل إلى كل ما هو طاهر وخالص. أما المدنس فيحيل إلى ما هو دنيوي ونجس. ومن تم فالصفة ألصقت بالأنبياء، لأنها تعني استعلاءهم عن الخطأ والنسيان وبلوغهم الكمال الأعلى في أداء رسالتهم. فكل الأنبياء معصومون ومقدسون فيما يتعلق بجانب الدعوة إلى الله. لكنهم بشر في غير ذلك. إنهم يحزنون ويفرحون. يمرضون ويتألمون، ثم يموتون في نهاية الأمر. وللمقدس، حسب علماء الاجتماع، عدة مجالات تختلف من مجتمع لآخر. ومنها ما يتعلق بالوجود الطبيعي كالأشجار والأنهار، وما فوق الطبيعي كالكائنات السماوية والآلهة، وما يتعلق بالأشخاص كالأنبياء والرسل، ثم ما يتعلق بالشعائر والطقوس. فلدى الهندوس مثلا يتم تقديس البقرة لأسباب دينية. وتطلق صفة القداسة على أماكن بعينها كالبيت الحرام، لأنه أول بيت وضع للناس لتوحيد الله، ثم المسجد النبوي، الذي يضم قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، والمسجد الأقصى، لأنه مهبط الأنبياء، والوادي المقدس، وهو الوادي الذي كلم فيه الله تعالى نبيه موسى وهي كلها أماكن مقدسة. كما أن ليلة القدر تعتبر مقدسة لأن فيها نزل القرآن. كما يطلق الكتاب المقدس على النصوص المقدسة المقبولة لدى اليهود، الذين يعتبرون لغتهم العبرية لغة مقدسة لا تجب الكتابة بغيرها، والمسيحيين وهي الإنجيل والتوراة. أما من الملائكة، فقد وصف جبريل عليه السلام بروح القدس لأنه خلق من طهارة، ولأنه متطهر من العيوب في تبليغ الوحي إلى الرسل. ومن ذلك قوله تعالى في وصف نبيه عيسى بن مريم» «وأيدناه بروح القدس». تسعفنا اللغة العربية كثيرا في شرح كلمة مقدس وقداسة وقدوس. فالقدس لغة هو الطهارة. والأرض المقدسة هي الأرض المطهرة. والبيت المقدس، هو الذي تتطهر فيه الذنوب. ومن تم قوله تعالى على لسان الملائكة وهم يخاطبون الله « ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك» أي أننا نطهر أنفسنا لك. ومن تم، فإن هذه الصفة ذات الحمولة الدينية الصرفة، لم تلصق بأي من خلفاء المسلمين منذ عهد الخلفاء الراشدين لإيمانهم بأنها صفة الأنبياء والمرسلين في علاقتهم بالدعوة إلى توحيد الله. لذلك تصبح الصفة غير ذات قيمة بداخل المجتمعات الحديثة التي تعتبر فيها المسؤولية حينما تكون سياسية وخاضعة للمحاسبة، « «مدنسة» بلغة «دوركايم» التي هي النقيض الكلي للمقدس، الصفة التي تعتبر مصونة عن العبث. إمارة المؤمنين في الدستور المغربي كل هذه الحمولة ظلت حاضرة في كل الدساتير المغربية التي تضمنت صيغة أن الملك هو أمير المؤمنين منذ أول وثيقة دستورية عرفها المغرب المعاصر سنة 1962. ويحكي عبد الكريم الخطيب، الذي كان عضوا مع علال الفاسي في لجنة وضع الدستور، التي عينها الملك الحسن الثاني، أنه «لما عرض علينا مشروع الدستور تبين لي أنه بعيد عن تقاليدنا وهويتنا، وقلت في اللجنة التي كنا ندرس فيها الدستور بندا بندا، تحت رئاسة رضا اكديرة إن هذا الدستور يليق بدولة علمانية وليس بدولة إسلامية، كبلدنا. وطلبت شخصيا أن يكون لقب الملك في البلاد هو أمير المؤمنين، وكان لهذا الطلب سببان، الأول أنه في زمن يوسف بن تاشفين، كان سلطان المغرب يلقب بأمير المسلمين، وفي أيام الموحدين تغير هذا اللقب وصار أمير المؤمنين. والثاني أني تذكرت ما أخبرني به المرحوم قدور بنغبريط في أحد الأيام بباريس، إذ قال لي عن السلطان عبد المجيد، آخر سلاطين العثمانيين عند وفاته ''من عادة أمراء المؤمنين أن تكون لديهم بعض آثار النبي صلى الله عليه وسلم. وأنا عندي نعاله عليه السلام، ولا يستحقها الآن من أمراء المسلمين إلا محمد الخامس. فأطلب منك بعد وفاتي أن تهديها له كوارث للخلافة''. لهذا كله ألححت كثيرا على إدخال لقب أمير المؤمنين في الدستور المغربي'' يقول الخطيب. وقد تمت دسترة هذا اللقب في الفصل ال 19 من الدستور، الذي وضع في مطلع الباب الثاني من أبواب الدستور، بعد الباب الأول الخاص بالمبادئ المرجعية. وقد ورد الفصل في نص الدستور كما يلي:''الملك أمير المؤمنين ، ورمز وحدة الأمة ، وضامن دوام الدولة واستمرارها. وهو حامي حمى الدين، والساهر على احترام الدستور، وله صيانة حقوق وحريات المواطنين والجماعات والهيئات، وهو الضامن لاستقلال البلاد وحوزة المملكة في دائرة حدودها الحقة''. وظل يحتفظ بالموقع نفسه في كل التعديلات التي طرأت على الدستور، وبالرقم نفسه أيضا، لكن وقع عليه تعديل هام، هو الأول والأخير، وذلك في تعديلات سنة 1970، حيث أضيفت له عبارة أن الملك ''الممثل الأسمى للأمة''، مباشرة بعد لقب ''أمير المؤمنين''، وما اقتضاه إدخال هذه العبارة على الفصل من تدقيقات لغوية. ويختلف فقهاء القانون الدستوري في قراءة هذا الفصل وتأويله، لكن هذا الخلاف وقع بعد توظيفه في الصراع السياسي من قبل الملك الراحل الحسن الثاني في 1983 في مواجهة المعارضة التي كان يقودها الاتحاد الاشتراكي. حيث لم يتردد الملك حينها في التلويح بالفصل ال 19 لإرغام الفريق الاتحادي بمجلس النواب، الذي قرر الانسحاب من المجلس بعد انقضاء مدة انتدابه القانونية، رافضا بذلك قرار التمديد سنة أخرى في مدة الولاية التشريعية، بعدما قاطع الحزب الاستفتاء حوله. وقد اعتبر الملك انسحاب ذلك الفريق النيابي بأنه خروج عن جماعة المسلمين. لقد ظلت رؤية الحسن الثاني لصفة أمير المؤمنين هي نفس الرؤية التي ظلت تجد تجلياتها في الأدوار التي تقمصها خلال سنوات حكمه. لقد كان حريصا مثلا على أن يظهر أحيانا كفقيه وعالم بعلوم الدين والشريعة، حيث يناقش ويجادل في دقيق قضاياها، مما يعطيه الحق في تأويل النص الديني، كما فعل في أحد الدروس الحسنية الرمضانية التي ألقاها بنفسه سنة 1966 حيث اعتلى منبر الدرس أمام العلماء وشرع في طرح تأويلات لم يسبقه إليها أحد للحديث النبوي المشهور ''من رأى منكم منكرا فليغيره». لم يغير دستور 2011 الكثير من المبادئ الكبرى لصفة الملك كأمير للمؤمنين. ففي الفصل 41 جزم بأن «الملك هو أمير المؤمنين، وحامي حمى الملة والدين، والضامن لحرية ممارسة الشؤون الدينية.» و»يرأس الملك، أمير المؤمنين، المجلس العلمي الأعلى، الذي يتولى دراسة القضايا التي يعرضها عليه. ويعتبر المجلس الجهة الوحيدة المؤهلة لإصدار الفتاوى المعتمدة رسميا، بشأن المسائل المحالة عليه، استنادا إلى مبادئ وأحكام الدين الإسلامي الحنيف، ومقاصده السمحة. فرعاية الشأن الديني في صلب صلاحيات إمارة المؤمنين. كما نص الفصل الثالث من الدستور على «أن الإسلام دين الدولة، والدولة تضمن لكل واحد حرية ممارسة شؤونه الدينية». إنها الاستمرارية التي يفخر بها علماء المغرب وهم يتحدثون عن الشأن الديني، الذي يضطلع به الملك دون غيره.
كيف دافع علماء المغرب عن كل سلط إمارة المؤمنين في الدستور الجديد لم ينتظر المجلس الأعلى لعلماء المغرب ما الذي ستحمله الأحزاب السياسية والنقابات المهنية ليقول كلمته بشأن الحراك الدستوري، الذي انطلق بعد الخطاب الملكي الذي بشر بتعديل دستوري. واضطر المجلس إلى عقد سلسلة من الاجتماعات ليخلص إلى بيان كان بمثابة الموقف الرسمي لعلماء المغرب حول الدستور الذي يريدون، خصوصا أن لهذه الفئة دورها ورقمها الوازن في كل معادلات الإصلاح بالنظر إلى « أنها من القوى المؤثرة في المجتمع ماضيا وحاضرا»، على حد تعبير البيان. لم يخل بيان علماء المغرب من نفس سياسي غير مسبوق، وإن كتب بلغة تقليدية. فللعلماء أدوار بالإضافة إلى أنها دينية تراهن على حماية المجتمع من الانحلال، فهي أدوار للتبليغ والإرشاد والتوجيه، خصوصا أن العلماء سيكونون غدا شهداء أمام الله وأمام الناس على ما يجري حولهم» بلغة البيان. لم يكن بيان المجلس الأعلى لعلماء المغرب مترددا في الدعوة للإبقاء على إمارة المؤمنين وعلى دورها. فالضمانة الوحيدة لإنجاح المزاوجة بين الاختيار الديمقراطي والعقيدة والأخلاق الإسلامية، هو مؤسسة إمارة المؤمنين. ف«قيادة الإصلاحات والبلورة النهائية لمختلف صيغها ترجع إلى أمير المؤمنين بحكم وظيفته الشرعية في حراسة الدين وسياسة الدنيا. ومن تم فهو الضامن للتوازن بين شؤون الإصلاح في أمور الحياة والإصلاح في أمور الدين». بل إن من واجب العلماء، حسب البيان، تعبئة الناس وراء أمير المؤمنين في كل عمل إصلاحي يقتضيه اكتمال الصرح الديمقراطي، لأن في ذلك سبيل العدل الذي عليه مدار الدين، خصوصا أن العلماء لم يكونوا يوما من الذين هم على بياض يوقعون. لم يخل البيان من إشارات بعضها كان قويا بشأن ما كان ينتظره علماء المغرب من الإصلاحات الدستورية. ومن ذلك الدعوة إلى تبني نموذج مغربي في الإصلاح دون انزلاق، كما يقول البيان، إلى تقليد نماذج دولية غربية أو عربية.. فحالة المغرب السياسية والحقوقية حالة متميزة بما تم إلى الآن تحقيقه من الإصلاح والإنصاف والتنمية». وقد ظهر من خلال العديد من فقرات بيان علماء المغرب، وغيرها، أن الحمولة السياسية كانت حاضرة بقوة أكثر من كل الحمولة الدينية التي عودتنا عليها بيانات المجلس العلمي. فثمة صيغ الإصلاح الديمقراطي، والتنمية، والإنصاف، والتحولات السياسية والحقوقية، ما يعني أن صوت علماء المغرب أصبح مع الدستور الجديد يشكل معادلة أساسية في كل إصلاح، خصوصا في شقين أساسيين هما إمارة المؤمنين، التي هي الضمانة الوحيدة لكل إصلاح، بلغة البيان. ثم الفصل ال 19 من الدستور، الذي استعمل فيه البيان صيغة» الوجود الشامل لإمارة المؤمنين» ما يعني أن كل سلط هذا الفصل يجب أن تظل بيد الملك. بل إن أمير المؤمنين هو الضامن للتوازن في أمور الدين وأمور الحياة.. ثم صيغة حفظ الدين وحفظ الأمن. لقد بدا علماء المغرب، من خلال بيانهم حول الإصلاحات الدستورية، أكثر سياسة من السياسيين وهم يحثون في أكثر من فقرة على ضرورة «أن يكون التغيير المرتقب محسوبا». ف«الاختيار الديمقراطي الذي أجمع عليه المغاربة يتطلب رعاية ديمقراطية شاملة أيضا لكي يستقيم». في دستور 1908 الذي أجهض من قبل سلطات الحماية التي كانت تستعد لاحتلال البلاد، كان للعلماء الدور الأكبر في صياغة فقراته لدرجة أن فقهاء الدستور يعتبرونه أرقى من كل الدساتير التي عرفها المغرب إلى اليوم. واليوم لم يفوت علماء المغرب الفرصة للتعبير عن موقفهم مما يجري. غير أنه بين دستور 1908، الذي حدد للملك حدود سلطاته، ودستور 2011، سنجد أن علماء المغرب أرادوه أن يبقي على كل أدواره باعتباره «أميرا للمؤمنين يحرس الدين والدنيا».
مصطفى الخلفي يكتب عن إمارة المؤمنين في مارس من سنة 2011 كتب مصطفى الخلفي عن إمارة المؤمنين والمراجعة الدستورية القادمة. واليوم، بعد أن حملت آخر الاستحقاقات حزب العدالة والتنمية إلى السلطة، وبعد أن أصبح الخلفي وزيرا للإتصال في حكومة عبد الإله بنكيران، تصبح العودة إلى هذه الوثيقة ضرورية لفهم كيف ظل «البيجيدي» ينظر إلى هذه القضية الحساسة باعتباره حزبا ذا مرجعية دينية. ثمة حاجة لنقاش عمومي عميق حول قضايا الدين والسياسة عامة وإمارة المؤمنين خاصة في المراجعة الدستورية القادمة، والتي باستثناء توجه محدود في الطيف اليساري يدعو لإلغائها أو حصرها فيما هو رمزي، فإن النظرة الغالبة تدعو إلى التعايش البراغماتي مع الوضع الحالي، باعتباره يتيح استثمار إمارة المؤمنين للحد من قوة التيارات السياسية ذات المرجعية الإسلامية أو لتهميش الحركات الإسلامية ومعارضة كل تطبيع لوضعيتها القانونية أو اعتراف بفاعليتها الدعوية والاجتماعية. في الواقع تفرض المراجعة الدستورية المعلنة خوض حوار صريح حول مستقبل نظام إمارة المؤمنين في البناء الدستوري المغربي، وذلك بالنظر إلى حالة الفراغ الدستوري المتعلق بها، حيث نلحظ اقتصار الإحالة عليها في الفصل ال 19 من الدستور كصفة للملك فقط دون مقتضيات دستورية تفصيلية من جهة، ثم لما ينتج عن الازدواجية بينها وبين نظام الملك الدستوري من توترات مشوشة مثل ما حصل في بداية الثمانينيات في مواجهة حزب الاتحاد الاشتراكي عندما رفض قرار تطبيق نتيجة الاستفتاء على تمديد الولاية التشريعية لتشمل البرلمان القائم آنذاك وقرر عدم الالتحاق بافتتاح دورة أكتوبر1981، واعتبر ذلك من الناحية الدستورية حقا لكن من زاوية إمارة المؤمنين خروجا عن الجماعة من جهة أخرى. ولعل أحد المداخل الأساسية لتجاوز كل من حالتي الفراغ والازدواجية يتمثل في الانطلاق من التراكم المسجل في تأطير الحقل الديني ومراجعات التشريع الأسري ببلادنا، والتي شكلت في العشرية الماضية مجالا لتدافع سياسي واجتماعي وطني كان لإمارة المؤمنين دور مفصلي في التدبير الإيجابي له، ولهذا يمكن اعتبار ما تحقق من تراكمات في هذا المجال بمثابة مرجعية في عملية الدسترة المطلوبة لنظام إمارة المؤمنين، والتي ستمنع كل قراءة تيوقراطية لها تستنسخ نظريات الحكم الإلهي ذات الرصيد الأوروبي الكنسي، وتجعل الحاكم ممتلكا لتفويض إلاهي مما يناقض التصور الإسلامي للحكم، وفي الوقت نفسه تفتح هذه الدسترة أفقا لتحقيق الانسجام بينها وبين الاختيار الديموقراطي للبلاد وللتوجه نحو بناء دولة مدنية حديثة. لقد أكد الخطاب الملكي ل9 مارس على ثابتي الإسلام وإمارة المؤمنين ضمن الثوابت الخمسة التي اعتبرها محط إجماع وطني، وهو ما يستلزم تطوير النظام الدستوري لترجمة مقتضيات ذلك على مستوى النص، ولهذا عوض استمرار الاكتفاء بالنص عليهما كثوابت دون أن يكون لذلك أثر في التشريع الدستوري، فإن المرحلة تقتضي التقدم من أجل اعتماد تعديلات تهم سبعة محاور كبرى نطرحها للحوار: 1. التنصيص الدستوري على البيعة باعتبارها نظاما تعاقديا رضائيا يحدد الحقوق والواجبات والمسؤوليات وجعل البيعة تتم على أساس الوثيقة الدستورية. 2. التأكيد الدستوري على سمو المرجعية الإسلامية في إطار الاجتهاد المقاصدي المعاصر والمنفتح. 3. التنصيص على الإسلام كمصدر أساسي للتشريع واعتماد القواعد الكفيلة بتأطير ذلك عبر اعتماد تجربة مراجعة مدونة الأسرة. 4. توسيع اختصاصات المجلس الدستوري لتشمل النظر في الطعون المتعلقة بتعارض القوانين مع مقتضيات المرجعية الإسلامية، وأن تراعى في تركيبته هذه المهام الجديدة. 5. دسترة المؤسسات المرتبطة بإمارة المؤمنين وخاصة كل من المجلس العلمي الأعلى، والهيئة العليا للإفتاء التي تحولت إلى مخاطب للقطاعات الحكومية في مجال الملاءمة بين التشريع ومقتضيات إسلامية الدولة، والمجلس الأعلى لمراقبة مالية الأوقاف المحدث أخيرا، وللعلم فإن هذه المؤسسات وخاصة منها المجلس العلمي الأعلى غير موجودة في النص الدستوري، رغم وجودها قبل المراجعات الدستورية التي تمت في الماضي مع استثناء الإحالة على عضوية رئيس المجلس العلمي للرباط وسلا في مجلس الوصاية، وذلك على خلاف المؤسسات المرتبطة بالملك الدستوري مثل المجلس الأعلى للقضاء أو غيره من المؤسسات التي يرأسها الملك حسب الدستور الحالي. 6. توفير الحماية الدستورية لمؤسسة العلماء وضمان استقلاليتهم عن السلطتين التنفيذية والتشريعية. 7. التنصيص الدستوري على حماية حرية ممارسة الشعائر الدينية، وذلك في إطار التعايش القائم على مبادئ المواطنة من جهة أو استفزاز للشعور الديني أو إساءة له من جهة أخرى. ثمة قضايا أخرى يثيرها البحث في موضوع إمارة المؤمنين وانعكاس وجودها على السياسات العمومية، وكيفية تدبير ذلك في إطار نظام ديموقراطي قائم على حكومة منتخبة وبرلمان مسؤول وقضاء مستقل، وهي القضايا التي تفرض تحرير النقاش العمومي حول الموضوع وتجاوز الحسابات الضيقة في التعاطي معه.