[ في ذكرى رحيل المفكر المغربي الكبير محمد عابد الجابري ،صاحب القلم السيال والفكر الثاقب الوقاد ،وصاحب المشروع التنظيري في " بنية العقل العربي وتكوينه ونقده " ، فقد نبه إلى أن"العقل العربي اليوم بحاجة إلى إعادة الابتكار ،" فأبدع وأجاد ، وحلل وأفاد .] على الرغم من متابعتي لبعض الكتابات ، واهتمامي بالإصدارات الجديدة ، يضيع مني من حين لآخر خيط أو خيوط كتابات قد لا تكون لي في ذلك يد أو قصد ، و إنما يقع ذلك تبعا لظروف أو ملابسات تحول بيني وبين المتابعة . كنت قد تابعت بغير انتظام مذكرات انتظمت حلقاتها في صحيفة الاتحاد الاشتراكي ، وانسقت وراء أحداثها بشغف لأنها تشكل مجالا جديدا وفق كاتبه في نسج خيوطه ، وفي استعادة ملامحه ،واستحضار ظروفه ، وعلمت فيما بعد عن تجميع سلسلة هذه الحلقات في كتاب صدرمرفقا بنصوص جديدة بعنوان " حفريات في الذاكرة : من بعيد " لصاحبها الأستاذ الدكتور محمد عابد الجابري . ولأنني لم أكن قد قرأت هذه الحفريات بكاملها في الصحيفة المذكورة ، كان واردا اقتناء الكتاب الذي عزّ وجوده في مكتبات الرباط ، فلم أستطع إليه سبيلا ، واكتفيت بما علق في الذاكرة من أحداث طفولية عاشها المؤلف في مدينته فجيج ، ورواها ببساطة وأناقة ، واقترب فيها ومن خلالها من كثير من الباحثين وغيرهم ممن لا شأن لهم بالفلسفة أو الفكر الفلسفي ، أو السياسة والمسار المذهبي ، إلا ما كان يتوجبه الاطلاع المفيد أو الغوص في موضوع يهم البحث أو يرتكز عليه بصفة عامة ، أو ما يحبره قلم هذا المفكر من حين لآخر في موضوعات تراثية أو تربوية تثير الانتباه ، وتحفز على المتابعة والقراءة . الأستاذ الدكتور محمد عابد الجابري رجل مهيب ،صاحب فكر وقاد ، وكتابات متوهجة ، في الفكر والفلسفة وفي التربية والتعليم ، وفي السياسة والتدبير ، أثارت وما تزال تثير نقاشات هادفة ، وحظيت بتقريظات وافية ، ، ولقيت اهتمامات فائقة ، وهي قبل وبعد ، كتابات لا يستوعبها إلا كل متمرس بالقراءة الواعية ، وكل متبصر فيما تتناوله من قضايا وأطروحات شغلت فكر الكاتب ، وأرقت مزاجه ، وأرهقت قلمه ، ليلمع اسمه بما حبره ، ويسطع نجمه بما شغله منذ أن اتخذ له شعارا : " اقرأ ما دمت حيا " ، في فترة بعيدة ن تأكيدا لتحقيق مسار علمي عليه أن يسلكه ، وأن يؤسس من خلا له قواعد فكر فلسفي مغربي يرقى إلى ما يطمح إليه ، وإلى ما يثبت به نبوغ المغاربة وقدرتهم على العطاء بكفاءة واقتدار ... ولأن علاقتي محدودة بهذا المفكر الكبير ، ولأن فرص اللقاء تكاد تكون منعدمة ،وهذا مما يؤسف له ،فإنني لم أتمكن من الاتصال به أو من خطابه لتزويدي بنسخة من هذه " الحفريات " ، إلى أن التقينا صدفة ذات صباح مشرق في بهو كلية الآداب بالرباط ، وكانت تحيته والسلام عليه منفذا للاستفسار عن هذه " الحفريات " التي عزّ وجودها في مكتبات الرباط ، فوعدني بنسخة منها في أقرب وقت ، وكذلك كان ، فله خالص الشكر والتقدير . ما نزال في الجامعة المغربية ، نفتقد إلى ما يمكن تسميته بالعلاقات العامة ، إلا ما كان عن طريق الاجتهادات الشخصية ، فلا يضمنا ناد ولا تجمعنا مجالس ، ولا نستفيد من مفكرينا وعلمائنا ومبدعينا في عقر دارنا ، الجامعة ،ولا نحظى بجلسات علمية أو لقاءات إنسانية دورية تضم الزملاء على اختلاف تخصصاتهم وتنوع مسالكهم ،ليحصل ما يعرف بالتكامل ، إننا نفتقد شعور الانتماء إلى الجامعة على اختلاف مشاربنا ومذاهبنا ، كما نفتقد شعور الانتماء إلى الأسرة العلمية أو الفكرية في ظروفنا الحالية . إن ما يجب أن يهتم به في إطار سياسة التغيير ، هو اختراق هذه المسافة بكل الوسائل ،هو تجسير الفجوة بين أساتذة الجامعات بتيسير السبل أمام الباحثين والمفكرين ليفيدوا من بعضهم البعض ، علما وخلقا ،إذ في الجلسات الأسرية والأخوية تأخذ علاقات الزمالة طابعا آخر، يطل منه الجميع على إنسانية الإنسان بعيدا عن الدرس الأكاديمي أو اللقاء العلمي . دعاني إلى هذا الاستطراد ، أنني قد تعرفت على كثير من مفكرينا وعلمائنا خارج الوطن ، في جلسات حميمية عند أصدقاء مصريين وسوريين وتونسيين وغيرهم ، إذ جلسات اللقاء الإنساني والاجتماعي واردة عند إخواننا في عدد من الدول العربية والأجنبية ومنها مصر والعراق وسوريا والأردن وتونس والجزائر ، ومن خلالها تتفتح الآفاق وتتوثق العلاقات ، وتتبادل الآراء ، وتصحح الأخطاء ، وكل ذلك يتم في ظروف متفتحة وبروح أخوية صادقة ، من ذلك ، وفي واحدة من هذه الجلسات ، عرفت الأستاذ الدكتور محمد عابد الجابري وأسرته عن قرب في بيت الأستاذ الدكتور سعد الدين إبراهيم بالمعادي بمصر سنة 1995، إذ كان الاحتفاء به يدعو إلى الاعتزاز به مفكرا مغربيا متواضعا ، وأسعدني الظرف بذلك اللقاء وبالدعوة الكريمة للدكتور سعد الدين إبراهيم ، وكنت ساعتها في القاهرة لحضور ندوة أدبية في جامعة القاهرة ، فوجئت بحرص الإخوة المصريين على تكسير الفجوات بين المثقفين في مثل هذه الجلسات الأخوية والإنسانية وهو ما نفتقده نحن في المغرب ...... ليتنا نفعل مثل هؤلاء ، وليتنا نوفق في ذلك بتوفير الوسائل المادية والأدبية ، وتحقيق سياسة الانفتاح على الآخر بطريقة أو بأخرى في عهد التغيير بإذن الله . أعود إلى الكتاب ، وأعتذر عن هذا الاستطراد وأنا ما أزال تحت تأثير قراءة " الحفريات " الصادر في طبعة أولى سنة 1997 ، لأعترف بأن قراءته كانت ممتعة ، وأن صاحبه الدكتور الجابري كان موفقا في استقطاب فكري ومشاعري لحظات القراءة كإنسان يقترب من القارئ أكثر مما يقترب من ذكرياته ، لقد عرفت الدكتور الجابري عندما قرأت له بعض كتبه ، ومنها نحن والتراث، ومشكل التعليم في المغرب و المسألة الثقافية ومسألة الهوية ، عرفته قويا في طرح نظرياته ،والدفاع عن مقولاته ، متحديا بما أوتي من قدرة على البرهنة والتحليل وما شاع من نظريات ، أو ما اتضح بأنه هش غير قابل للنقاش والتأويل ، لكني في كتابه " الحفريات " أجده كاتبا آخر رقيقا ، متواضعا ، قريبا إلى أبسط الناس ، مؤمنا بنفسه ، معتزا بانتمائه ، فخورا ببيئته ، ففي هذه " الحفريات " يؤكد الأستاذ الجابري إنسانيته ووداعته وأن باستطاعة أي كان أن يكون ما يريد ، ومساره دليل قاطع ذلك ، لقد شق طريقه بإصرار ، وولج عالم المفكرين الكبار بالعمل الدؤوب والإيمان بالذات ، منذ أن وعى حقيقة وجوده في بيئة بسيطة ،ووسط أسرة يملأ جنباتها ما يمكن تسميته " بالتكافل الاجتماعي " في فترة عصيبة من تاريخ المغرب . لقد أكد الدكتور الجابري بهذه " الحفريات " وهو العالم والمفكر ، الكاتب المتبصر ، ذو السمت الوقور ،أن النبش في الذاكرة واستحضار معالم الحياة الطفولية ، بإيجابياتها وسلبياتها يضفي طابعا خاصا على حياة المفكر ، ويقدح زناد عطائه ،كما أنه بهذه السيرة الذاتية الطفولية أثار موضوعات كبيرة تهم المجتمع المغربي ، وتفتّ في عضد المرأة المغربية بما تعانيه من تهميش وما تتحمله من مضايقات بصبر وإيمان ،وكان تعاطفه مع أمه من أول سطر إلى آخره " الفصل الفريد " وفاء لأم نذرت حياتها لتربية ابنها والحفاظ عليه ، كما أن مشاعره مع كل المحيطين به من الأجداد والأخوال والأعمام تفي بما لا يمكن الإفصاح عنه أكثر من ذلك خلقا رفيعا انعكس على كتاباته فيما بعد . يثير كتاب " الحفريات " بأسلوبه السلس ولغته الواضحة أسئلة كثيرة وفق المؤلف في الإجابة عنها ، ببساطة ووضوح لتأسيس لبنات مجتمع مؤمن بذاته ، مستطيع بنفسه ، قادر على الخطو بجرأة وشجاعة نحو ما يطمح إليه وما يرغب فيه . قارئ " الحفريات " لن يكتفي كما اتضح لي وكما فهمت بالاطلاع على سلسلة من الأحداث والمواقف ،أو على معرفة مراحل طفولة يلتذ بقراءة مسيرتها ويستمتع بأخبارها ، وإنما يستفيد مما وراء السطور ليبني صرح كيانه ، ويشيد أس شخصيته ، بالعمل البناء والدفاع عن المعتقد ( إقرأ ما دمت حيا " ص 105 ، والكفاح من أجل لقمة العيش ، مهما كلف ذلك من ثمن . لم تتوال الأحداث ، ولم يكتف السارد باستعراض مجموعة من ذكريات الطفولة ومساربها ، وعن البيئة وأحوالها ، وعن العلاقات الأسرية الحميمية وما يعتريها من حين لآخر من تفكك أو انصهار ، وإنما تهدف هذه الأحداث كما يهدف السارد إلى مقاصد أخرى تكشف عن محطات حياتية تتأرجح بين النعومة والقساوة ،وتدعو إلى التأمل في سيرة طفل ، بل سيرة جيل سيساهم في بعث حركة فكرية وعلمية وذلك من خلال مسيرة نضالية آتت أكلها فيما بعد . محطات دافئة استحضرها الكاتب بثقة واعتزاز ، ألهمت قلمه في لحظات مشرقة ينبوعا متدفقا من الذكريات وقد التفعت بعواطف صادقة ومشاعر دافئة ، عاشها بحرارتها وصدقها ،وسجلها بمالها وما عليها ، وهي محطات صنعت بهدوء وتبصر شخصية مفكر له مكانته وموقعه في وطنه المغرب وفي العالمين العربي والغربي . كوّةٌ أطل منها الدكتور الجابري على عوالمه الداخلية ، وأفصح عنها بحميمية أسرية ،وقد أسعفته ذاكرته لتصوير المجتمع الفكيكي في فترة الأربعينات ، وللتنبيه من خلال استعراض أوضاع هذا المجتمع ،والتي هي نفس أوضاع مجتمعات أخرى في البادية أو الحاضرة ،إلى ما قدمه الأبناء من تضحيات للوطن ،ليحقق المغرب استقلاله ،، وليرفض ما يحطم كيانه من معتقدات فاسدة تفرق بين المرء وزوجه ، وبين الأم وابنها ،معتقدات ما تزال إلى اليوم مع الأسف تنهش الجسم المجتمعي المغربي وتفتك به ، وما الصرخات المدوية في المنظمات النسائية المختلفة إلا تأكيد للتخلف الذي ما نزال نعاني منه في أوساطنا الحضرية والبدوية ، فعسى أن بنتفض هذا المجتمع بجناحي خلق وعلم ليرسو عند صخرة الارتقاء الحضاري الذي ننشده ..... وعن كل كتابة،كيفما كانت ،يصدق قول الأستاذ الجابري :" الكتابة هي في جميع الأحوال تفكير خرج من حالة الاستضمار إلى حالة الاستظهار، ومن حالة الكتمان إلى حالة حالة الإعلان ...( ص 227) ..... : : سيخلد الجابري عبر الزمان والمكان بمواقفه الشجاعة وكتاباته التنظيرية ، ومعارفه الممتدة ، وأستاذيته برحاب الجامعة المغربية وغيرها .