لم يكن العقل المغربي في يوم من الأيام عقلا متحجرا. ولا كان ينساق بسهولة مع الشعارات البراقة، والأفكار والتوجهات بل ظل دوما مشبثا بهويته الدينينة، والوطنية، واللغوية، والثقافية، ولثوابته المذهبية من عقيدة سنية وسطية، وفقه مالكي، وسلوك تربوي معتدل، ووفيا لروح الانفتاح والتجديد والحرية والتحرر والإنصاف. ومن خلال هذه السلسلة سنتلمس جميعا مجموعة من مواقف علمائنا المستنيرين في مجموعة من القضايا التي تمس الجوانب العقدية، والفقهية والاجتماعية والسياسية... لنخلص منها إلى أن العقل المغربي دائما يشتغل في إطار المصلحة والأفق العام إن حضور المرأة المغربية في الساحة الثقافية والعلمية عبر التاريخ، يكاد لا يذكر، فالنسوة اللائي تعلمن وأخذن حظهن من التربية والتعليم عددهن قليل جدا بالمقارنة مع عدد الرجال. فقد كانت المرأة المغربية ضحية عقلية تتصور المرأة كائنا خلق من أجل أعباء البيت وأعباء البيت فقط وأن مكانها الطبيعي هو البيت فلا داعي لتعليمها وتثقيفها وتزويدها بالمعارف والمهارات والمواقف التي تؤهلها للاندماج الفاعل والفعال في كل مرافق الحياة تهيئها لتكون كائنا فاعلا بامتياز في تربية أبنائها وحسن توجيههم. لقد حالت هذه العقلية المتزمتة بين المرأة وتفجير طاقاتها وقدراتها والإسهام في تقاسم أعباء المجتمع والحياة. وبالموازاة مع هذه العقلية ساهمت مواقف ثلة من الفقهاء في تكريس هذه العقلية عن طريق الفتاوى الفقهية التي تلزم المرأة بحدود بيتها وعدم السماح لها بتجاوزها من أجل العمل أو حتى طلب العلم والاستزادة من المعرفة، وفي أحسن الأحوال كان يسمح للمرأة بحفظ بعض السور القصار من القرآن الكريم من أجل الصلاة وبعض الأدعية أما القراءة والكتابة فنادرا ما كنت تجد منهن من يعرفهما وحتى وإن تعددت الذرائع واختلفت فإنها تبقى في فلك عدم الحاجة إلى تعليم المرأة أو تجنبا لشبهة الاختلاط .... أمام هذا التيار الغالب والعقلية المتزمة كانت تظهر بين الوقت والآخر أصوات تنادي بتحرير المراة من هذه القيود والأغلال وفكها من براثن العقلية المهيمنة فكانت تدعو إلى تمكين المرأة من حقها في التعليم. على اعتبار أن التعليم تستقيم به أمور العقيدة والإيمان، وتتحقق به شروط العبادات الصحيحة. فالمرأة التي لا تميز بين الأشياء ولا تحفظ شيئا من القرآن والأدعية لا يمكن أن يضرب لها في الإسلام بنصيب لأنها في عداد من لا ينتسب إلى الإسلام. أو لا يعرف قواعده وأركانه، وفرائضه وسننه. فقد كان التعليم عموما سبيلا ممهدا لمعرفة الله حق المعرفة، والإيمان به حق الإيمان، وإتيان الفرائض والسنن في العبادات على الوجه المطلوب لأجل هذا كانت ترتفع مثل هذه الأصوات ولا ينبغي أن يفهم القارئ أن هؤلاء الفقهاء المستنيرين الذين دافعوا عن حق المرأة في التعليم كانوا مع حقوق المرأة بنفس الحمولة التي تحملها كلمة حقوق في أدبيات حقوق الإنسان الراهنة. فهناك فارق في السياق وفي الشروط الموضوعية إذ لامجال للمقايسة والمماثلة أحمد ابن عرضون وتعليم المرأة: يعد الفقيه الغماري أحمد بن الحسن ابن عرضون (ت992 ه) واحدا من أبرز الفقهاء الذين ساهموا في إنصاف المراة وإعطائها بعضا من حقوقها في القرن العاشر الهجري. فقد ألف كتاب «مقنع المحتاج في آداب الأزواج» كرسه لعلاقة الأزواج وما ينبغي أن تكون عليه مواقف الطرفين في كل أمور علاقاتهما الزوجية والاجتماعية والنفسية وفي موضوع تعليم المرأة وقف ابن عرضون موقفا مسؤولا ومشرفا وجريئا حيث رأى أن على الزوج تقع مسؤولية تعليم زوجته إن كانت جاهلة بأمور دينها وأحكامه. فعليه أن يعلمها ذلك ويسهر عليه. فإذا امتنع عن القيام بواجبه تجاهها فمن حقها أن تطالبه بذلك. وإذا متنع كذلك طالبته بالخروج إلى التعلم. فإذا امتنع ولم يأذن لها بالخروج إلى التعلم خرجت من غير إذنه. يقول ابن عرضون: « إن المرأة إذا كان لها زوج يجب عليه أن يعلمها إن كانت جاهلة بالحكم. فإن لم يفعل طالبته بذلك. فإن لم يفعل طالبته بالخروج إلى التعلم فإن لم يأذن لها خرجت من غير إذنه» إن الجهر بالقول بخروج المرأة إلى التعلم ولو بغير إذن زوجها موقف في غاية الجرأة والجسارة الفكرية والاجتماعية في سياقه التاريخي وظروفه السوسيوثقافية. ففي وقت كانت في المرأة مهيضة الجناح، مكسورة الجانب، تحاصرها ثقافة الهيمنة والاستغلال والاحتقار برز هذا الصوت الغماري الجريء ليعلن للمجتمع المغربي أن عدم تعليم المراة خسارة لها في دينها وفي مجتمعها وفي علاقاتها مع زوجها ومع باقي أفراد أسرتها. ولنقل خسارة للمجتمع بأكمله إن هذا التعدُّد في الاهتمام ينبني على تصوّر إشكالي حدّده منذ نهاية السبعينيات من القرن الماضي؛ بمعنى أننا أمام رجل إشكالي يمحور فكره على إشكالية واحدة، هي إشكالية النهضة العربية وتجاوز تأخرها التاريخي. إن هذا الناظم الإشكالي الذي حدده في أكثر من مقالة وكتاب يؤسّس أفقا إشكاليا هو مناط القراءة التي سنقوم بها في هذا البحث. إن اهتمام الجابري متعدد، لكن الإشكالية التي يشتغل بها وعليها واحدة. وبين تعدد الاهتمام ووحدة الإشكالية تظهر لنا جدةّ مفكرنا وفرادته ، ليس فقط في القضايا التي يطرقها بمعول نقدي ثاقب، ولا بالسجال الذي تتضمنه كتبه، والمضاعفات التي يخلفها، وليس في معالم العقلانية التي يبتغيها ويسير عليها، وليس في الروح النقدية والصّدامية التي تصيب قرّاءه والمشتغلين في مجال الفكر العربي، بل في المشروع الذي يضعه في المقدمات. ذلك المشروع الذي ينبني على أهداف محددة، تتوخى النهضة، والتقدم، وما إلى ذلك من المفاهيم المجاورة لهما، بمعنى أن مشروع الجابري هو مشروع إيديولوجي يفترض تجاوز الخيبات، والانكسارات، والتعثرات، التي وقعت الأمة العربية فيها، ولن يتأتى ذلك إلا بإعادة القراءة النقدية للتراث العربي الإسلامي، وبالضبط الاشتغال على مفهوم العقل الذي ينتج هذا الفكر. إن فهم بنية العقل العربي الإسلامي، هو ما يدفع مفكرنا للتلويح بإعادة التدوين، أو بالأحرى الاشتغال وفق البنيات المكوّنة للعقل العربي، لضبطها إبستيمولوجيا وتفكيك آلياتها واختراق وظائفها الإيديولوجية التي تعطيها الاستمرارية. نحن إذن أمام مفكر ذي أفق استراتيجي، ومفاهيم متعددة من مجالات علمية مختلفة، يصعب علينا الإلمام بها، أو الحديث عن أصولها، أو مقارنة توظيفه لها بأصولها. ربما هذه طريقة غير مجدية مع مفكر كبير نحت مفاهيمه من داخل المجال الإشكالي الذي اشتغل عليه، ولأن الأمر كذلك، فبحثنا محدّد في الجزء الثالث من مشروعه الضخم. إنه كتاب العقل السياسي العربي(*)1 الذي يفرض علينا الرجوع إلى كتابات أخرى، ما دامت الإشكالية التي يشتغل عليها هي إشكالية التراث. وما دام التراث في تشكله الأولي يحمل أبعادا سياسية ما زالت تعيش في مجالنا الثقافي، والسياسي، والعربي. لكن، من أي نافذة يمكننا التحاور مع صاحب بنية العقل العربي؟ أي من أي فرضية نقدمها كإشكالية رئيسة في بحثنا؟ هل سنقوم بمقارنة بين مشروع الجابري ومشاريع أخرى تشتغل على نفس الموضوعة؟ وحتى إذا اشتغالنا على هذه المقارنة فإننا لن نحصل إلا على تركيبة غير منسجمة مع بحثنا. أم هل سنقرأ بنية العقل السياسي من خلال قراءات أخرى للفكر السياسي العربي؟ قد تكون هذه الفرضية ممكنة على سبيل الاستئناس، لكن نحن أمام قراءة لكتاب محدَّد، كتاب يستدعي قراءة فواصله وتفكيك آلياته، والإنصات إلى شروحاته، والتمعن في دلائله، والسفر معه في الطريق الذي رسمه. وهي إمكانية/فرضية تضع عنوان الكتب سؤالا محوريا. بمعنى هل الجابري اشتغل فعلا على العقل السياسي العربي؟ أم أنه اشتغل على المجال السياسي العربي؟ ثمة فروقات بين السؤال الأول والثاني. لذا، سنحاول، وفق هذه الفرضية الأخيرة، قراءة مشروع الجابري في جزئه الثالث، فرضية تشي بقلق الباحث عن تعريتها وكشف معالمها، بالإضافة إلى أسئلة أخرى ترتبط بإشكالياتنا المفترضة، أو بالأحرى أسئلة تغيب حسب المقام. إن مصاحبة الجابري في مشروعه الفكري، تدفعنا إلى الاعتقاد أننا أمام مشاريع متعددة، ليس لأن مشروعه بنية العقل العربي، في أجزائه الأربعة، ينبني على إعادة بناء للثقافة والفكر العربيين فحسب، بل لأن داخل كل كتاب تنبجس طرق أخرى للبحث والتنقيب. بمعنى أنه يحرّض قارئه ليس على السير وراءه، وإنما على البحث عمّا أشار إليه، أو على الأقل ما لم يستطع المغامرة فيه. إن قُرَّاء مفكرنا يلحظون تعدُّد مجالاته من فلسفة، وسياسة، وتربية، وتعليم، ومستجدات جديدة في راهننا العربي والعالمي. ولأنه كذلك فإن الأبواب التي يفتحها في هذا المجال أو ذاك كفيلة بتحريض الباحثين والقُرَّاء على مشاركته في أسئلته الفكرية. كما أن متابعته تضعنا أمام مفكر واضح، أو بالأحرى إنه ملتزم بالوضوح حد الصّدام مع قُرَّائه. إن هذا الوضوح الظاهر في كتبه هو ما يستفزّ فضولنا للبحث عما يؤسِّسه. ليس في الدرس الأكاديمي الذي لَقَّنه لطلبته منذ أكثر من ثلاثة عقود، ولا حتى في تجربة النضال السياسي، على مستوى الكتابة الصحيفة في الستينات والسبعينات من القرن الماضي، ولا في الكتب المدرسية التي أشرف عليها، بل في مقدّمات مشروعه الفكري الضخم. لقد وجدنا ما يضيء فضولنا حين قراءتنا لحوار نشرته مجلة «الكرمل» سنة 19842 يتمحور حول العلائق التي تربط المفكر/المثقف اليساري بالحياة الخاصّة وبالممارسة الفكرية. ولأن العارفين بالجابري، صداقة أو فكرا، يتلمّسون صِدقه ومصداقيته منذ نهاية الخمسينيات من القرن الماضي إلى حين وفاته. وكأن البيئة التي ترعرع فيها لها دور كبير في تحديد معالم شخصيته، كشخصية لا مهادنة، صادقة وواضحة. هل الوضوح الذي تقدّم به صاحب حفريات الذاكرة راجع إلى المجال شبه الصحراوي الهامشي الذي حوّط أحلامه ورغباته الطفولية الأولى. لست هنا بصدد مقاربة سيكولوجية للرجل، مثلما أني لست مؤهلًا لفعل ذلك، لأنه، أولا، لا يهمنا -لا من قريب ولا من بعيد- في البحث الذي نشتغل عليه، لكن الفضول هو الذي رماني في البحث عن الخصائص العامة لشخصية مفكرنا. صحيح أن الحوار الذي رجعنا إليه، حوار لطيف لأنه يفتح بعض النوافذ التي وإن كنا نعرف بعضها ونحدس ما تبقّى منها، فإن كتابتها أو إعلانها من طرف صاحبها تصبح وثيقة تمكّن الباحث من الاستئناس بها، أو على الأقل توضيح بعض القضايا الملتبسة في فكره. إن ما أثارني هو شغفة «بالرياضيات» إلى حد رغبته في استكمال دراسته الجامعية فيها. والمحب لهذا العلم يبتغي الوضوح مثلما تنبني تمارينه الرياضية على البداهة والحدس. أليست الرياضيات هي التي أسّست لمفكرنا رؤيته الأولى للأشياء، والأفكار، من حيث الاهتمام بالكليات وليس بالجزئيات، فالجزئي يتم استخلاصه من الكلي وهكذا. يقول: «العمل الذي أقوم به هو عمل ينصرف إلى اكتشاف الكلي من خلال الجزئيات. الجزئي بالنسبة لي هو طريقي إلى الكلي، واعتقد أن الذي يكون هدفه هو هذا، أو شغله في مرحلة من حياته هو هذا، فإنه لا يستطيع أن يعيش الجزئي من أجل الجزئي»3. تتضح لنا من هذا القول استراتيجيته الفكرية، إن لم نقل حياته الخاصة (الجامعية والسياسية...)، في كونها تتأسس بالانطلاق من الكليات. فهو، مثلا، في العقل السياسي العربي يحدّدها في العوامل الثلاثة التالية: القبيلة والغنيمة والعقيدة. فهذه العوامل الثابتة في التجربة التاريخية العربية ظلت الناظم الرئيس في مجالنا السياسي العربي ماضيا وحاضرا. إنها الكليات التي حاول تفكيكها إلى أجزاء، من مرحلة إلى وأخرى. إن جرأة مفكرنا تتمثل في الوضوح الذي يعلنه، سواء على المستوى النظري أو الإيديولوجي، وهذا ما يعلنه في زمن شيوع الماركسية، وهيمنة أطروحاتها في السياسة، والنقابة، والمدرسة، والجامعة، في كون القضايا التي تطرحها لا تهّمنا بقدر ما يجب الاهتمام بالطريقة التي فكّر بها ماركس، يقول الجابري: «عندما درست ماركس كان الذي شدني إليه ليس ما قاله وما كان يقوله، بل الكيفية التي كان يقول بها. كيف حلل المجتمع الرأسمالي في القرن التاسع عشر، كيف حلل الإيديولوجية الألمانية. ما كان يشدني ليس النتائج، أو النظريات بل كيف يمارس التحليل»4. هذا الكيف هو بوصلة مفكرنا، وهو ما يحيل إلى اشتغاله بالرياضيات، إذ إنها لا تهتم بالنتائج فحسب، وإنما كذلك بالكيفية الاستدلالية التي تصل بها إلى النتائج. أليس هذا الاعتراف، أو بالأحرى هذه الطريقة التي يشتغل بها هي التي أسست مشروعه الفكري؟ إن اشتغال مفكرنا بالتراث العربي منذ أواسط الستينيات من القرن الماضي، أي منذ أطروحته الجامعية حول ابن خلدون (1970) واستمراره بالبحث والتنقيب في قراءة مغايرة لما كان موجودا في أواسط السبعينيات من القرن الماضي حول الفارابي وابن سينا وابن رشد، وابن خلدون، والمقدمة التنظيرية التي أطر بها مقالاته في كتابه نحن والتراث، قراءة خلقت نقاشا كبيرا في الأوساط الجامعية، والثقافية، والإعلامية المغربية والعربية، ليس من حيث النتائج التي خلص إليها ولكن في الطريقة التي اشتغل بها، وفي المفاهيم الابستمولوجية التي طبقها على النصوص التراثية. لقد شكّل هذا الكتاب ثورة منهجية في دراسة التراث وذلك لاعتبار بسيط هو تدشينها لرؤية جديدة في القراءة النقدية للفكر الفلسفي العربي. وبالمقابل فإن هذه الكتب، التي نشرها قبل بداية الثمانينات، لم تكن تشي بمشروع فكري واضح حسب قول عبد الإله بلقزيز، وكأن اختمار مشروع نقد العقل العربي تم بمقتضيات راكمها الجابري في الجامعة المغربية، وتبينها حين دراسته للخطاب العربي المعاصر، الذي حاول بنينته في العمق الذي أسس هذا الخطاب. بمعنى أنه لم يكن مهتما بالشعارات، التي رفعها الفكر النهضوي العربي، بل بالكيفية التي بنى بها أطروحته، سواء عند من نسميهم اتجاهًا سلفيًّا» أو ليبراليًّا أو غيره. إنه يعتبر أن الأساس الإبستمواوجي، الذي يؤسس فكر هؤلاء، هو نفسه القياس الذي رسَّخه التقليد الفكري العربي منذ عصر التدوين. لا عجب إذن أن يشكل وضوح الرؤية عند مفكرنا البوابة الرئيسة التي يستضيف بها قُرَّاءه. والاستضافة هنا تتعلق، في تقليدنا العربي، بِكَرَم صاحب البيت. بمعنى أن الجابري يسهّل على قُرَّائه المراجع والمصادر، فهو يقدّم المادة المعرفية بكرمٍ، كأن هذا التقديم هو ما سماه عبد السلام بنعبد العالي: «شيوعية التراث». لذا، لو قمنا بعمل إحصائي لكتابات الجابري سنجد نصفها يحيل إلى مصادر ومراجع تراثية قد لا يستطيع المهتم الوصول إليها. يتشكل مشروع مفكرنا «نقد» العقل السياسي من رحم علاقته المباشرة بالدرس الفلسفي في شقه الإبستمولوجي، وبالتراث العربي الإسلامي. طريقان يتنقّل بينهما في توازن ينم عن نضج فكري ظاهر، فهو لا يستثمر تلك المفاهيم الإبستمولوجية كتمرين ظرفي، سرعان ما يغيّره بمفاهيم أخرى ولا يستعمله بهاجس استهلاكي كما الموضة تماما. ولا حتى اعتلاءات تفيد طاووسية بعض مثقفينا. بل يستثمره وفق رؤية رياضية واضحة، أي أن الموضوع هو الذي يفرض عليه إعمال هذا المفهوم أو ذاك، وحتى إن قام به فلا يعني حرفيته، بل في كيفية إيجاد تأشيرة ممكنة لكي يعيش في توازن مع ثقافتنا العربية. نتذكر ما خلقه مفهوم «القطيعة الإبستيمولوجية» البشلاري في الساحة الجامعية، والمنابر الثقافية، والإعلامية من نقاش كبير. إن هذا النقاش لا يدل على سريان المفهوم في الثقافة العربية أو عدمه، بل يدل على الصّدمة التي خلقها عند باحثين في التراث (خاصة في المشرق العربي)، والتي أعادت سؤال القراءة إلى الواجهة. فأصبحت بعض عناوين الكتب تطل علينا من باب «القراءة»؛ من قبيل «قراءة جديدة للشعر العربي»، «قراءة البلاغة العربية»...الخ، حتى أضحت القراءة سؤالا نقديا تجتمع فيه الرؤى الأخرى، مثلما تختلف وتتشتت. إن هذه الصدمة، التي أحدثها محمد عابد الجابري، هي ما وضع الباحثين العرب أمام صعوبة غض الطرف عنه، أو عدم الرجوع إليه في أسئلة الفكر العربي المعاصر. لقد أضحى علامة فارقة في ثقافتنا، بل قد نجزم- مع أحد الباحثين- أن الأجيال القادمة لا تستطيع مساءلة التراث العربي دون الرجوع إليه. إن مشروع نقد العقل العربي ليس مشروعا تفكيكيا للآليات التي يفكر بها العربي فحسب، ولا إعادةً للنظر في تبويب الثقافة والفكر العربيين، وإنما هو المنطلق لما سيأتي. فالجابري ليس رجلَ ماضٍ وإنما رجلَ مستقبلٍ؛ وبين الماضي والمستقبل مسافة التراث والحداثة. إن موضوعة «الحداثة» استقطبت اهتماما بالغا في الثقافة العربية، منذ أواسط القرن الماضي، خاصة في المجال الإبداعي (شعر، رواية، فنون تشكيلية وموسيقية وسينمائية...)، إلا أننا نجد هذا السؤال مبثوثا في كتابات فكرية- قبل ذلك- كتلك الخاصة بطه حسين وغيره. إلا أن التراكم الذي خلّفه هذا النقاش، والمطارحات التي رسمها، هو ما أضفى على المفهوم التباسًا وخلق رغبةً في التّموقع داخله أو خارجه. صحيح أن ثمة فارقا بين «الحداثة» و»التحديث»، وهو الفارق الذي نبّه إليه عبد الله العروي حين اعتبر أن المفهوم الأول هو منظومة فلسفية وفكرية عامة انبنت على ثلاث دعامات رئيسة هي: الفردانية، والعقلانية، والحرية. بينما يرتبط المفهوم الثاني بالمظاهر العامة للحداثة، والمتمثلة في البنيات التحتية للمجتمع من تصنيع وإدارة وتسيير وما إلى ذلك، مستخلصا من هذا الفارق بينهما، في الحالة العربية، ارتباط التجربة الناصرية ب « التحديث» وليس ب «الحداثة»، بمعنى أن العرب، حسب المفكر التاريخاني، لم يتمثلوا بعد قيم الحداثة الكونية، وهذا ما أدى إلى فشل التجارب التحديثية العربية (مصر، تونس). سيضعنا الجابري أمام طريق آخر؛ طريق مغاير للطرق المتداولة في راهننا العربي لمناولة التراث. وفي المحصلة إن نقد العقل العربي هو القاعدة التي تحيل إلى الاتصال به أو الانفصال عنه، ولن يتأتى ذلك إلا باستلهام قيم الحداثة من تراثنا. فليست «الحداثة» عنده كونية، ونموذجا مفروضا على أمم وشعوب أخرى، وإنما كل ثقافة لها خصوصياتها، وبالتالي ضرورة ربط الخصوصي بالكوني، كما الأنهار بالبحر. إن أهمية الجابري تتأسس على تأصيله للحداثة، ليس بدعوى شوفينية وعرقية وسلفية وما إلى ذلك، وإنما من زاوية نقدية تعرف الذات قبل معرفة الآخر، أو بالأحرى معرفة التراث والحداثة في توازن ظاهر. وهذا ما نلحظه حين اشتغاله بالمفاهيم الإبستمولوجية في دراسته للتراث والقضايا العربية. إن الحداثة السياسية التي يبتغيها، لا تبتدئ بشعارات سرعان ما تنطفئ بعد استغلالها وإنما تبتدئ من قاعدة تفكيكية للأنظمة المتحكمة فيها. إنها تعرية للاستبداد. لذا، سيشكّل نقد الإمامة الشيعية والأحكام السلطانية المنطق الأول لبناء مجال سياسي جديد. إنه المرسى الإيديولوجي الذي أعلنه في خلاصة الجزء الثالث من مشروعه الفكري. وبعبارة أخرى فهو قد اعتبر خاتمة كتابه تدشينا لعالمٍ يُبنى فيه المجال السياسي على العقلانية والديمقراطية. إن الموضوعة التي نبحث فيها تحملنا إلى فتح نوافذ متعددة، ليس فقط على مستوى القضايا التي تطرحها، أو المراجع التي تحيل إليها، بل على مستوى كيفية رسم خطاطة نحصر بها تلك الموضوعة، حتى نستطيع متابعة فواصلها ونقطها. ونقترح الخطاطة التالية: I- سياسة التراث: يدفعنا هذا العنوان إلى أهم قضية من قضايا الفكر العربي الحديث والمعاصر: قضية أو موضوعة التراث؛ لكونها أسرت باحثين متعددين في المشرق والمغرب بحثا، وتحقيقا، وقراءة، وترويجا، وتعليما، ونقدا...كما شكّلت بؤرة التوتر والصراع بين القراءات المتعددة. صراع خلق قلاعًا مدرسية تتمترس خلفها مجموعة من المفكرين الرافضين للتراث، وآخرون متشبثون به، وآخرون يحاولون إيجاد وساطة بينهما، وآخرون.... ولأن التراث شكل هذا الصراع - صراع القوى لتملُّكه- وكأن تملُّكَه يعني امتلاك الحقيقة، وامتلاك الحقيقة يفيد امتلاك السلطة. إن استراتيجية الجابري في قراءته للتراث هي تفكيك تلك القراءات والقوى المصاحبة لها، وبيان مزالقها وتعثراتها. وكل ذلك في سبيل البحث عن عقلانية مضيئة في هذا التراث، لتكون قاطرة نحو الحداثة والنهضة. سنحاول إذن النظر إلى إشكالية التراث عند الجابري في علاقته بمفكرين آخرين اشتغلوا على نفس الموضوع. لقد وجدنا أنفسنا ونحن نطرح سؤال التراث كقاعدة مركزية، تدعونا إلى الاشتغال بمشروع نقد العقل العربي في جزئه الثالث، في علاقة مباشرة بالفكر النهضوي العربي، والفكر الماركسي والتاريخاني، وهي كلها اشتغلت بهذه الموضوعة. لكن حين استضفناها لم نكن نود سوى الاستئناس بها، مثلما لم تكن موضوعتنا الرئيسة. ولأسباب متعددة كانت ضيافتنا لها سريعة ومقتضبة، تتوخى رسم المجال الإشكالي الذي نتحدث داخله، عبر ربطه بالتاريخ. ولأن الأمر كذلك، فإنها لا تود المقارنة بين تلك المقالات الأربعة، وإنما تود استشكال موضوعتنا الرئيسة في هذا البحث. II - مساءلة العقل السياسي العربي. قراءة أولية : يتضمن هذا الفصل تحديد إشكالية كتاب العقل السياسي، والقضايا التي يطرحها، والمنهج الذي يتبعه، والنتائج التي يستخلصها، وهي قراءة تنبني على وضع الحدود بين مرحلة وأخرى: بين مرحلة الدعوة المحمدية، ومرحلة الدعوة الأموية، ومرحلة الأحكام السلطانية. ونعني بالحدود ربط مقدّمات الجابري بعمل مفكرين آخرين من قبيل هشام جعيط، رضوان السيد، عبد الإله بلقزيز، وعبد الله العروي. كان رسم هذه الحدود هو الاشتغال بالمرايا كطريقة لا تفيد مقارنة وقياس هذا بذاك، بل تفيد موضعة الفعل السياسي العربي موضع سؤال جماعي يهتم باستشكاله، وهذا هو المهم في نظرنا. إن موضوعة السياسة، وما خلّفته من مضاعفات في الماضي والحاضر العربيين، هو ما جعلها موضوعا مغريًا في مدخله. لكن سرعان ما ينقبض الإغراء ويتفتت حين يجد الباحث فيه نفسه أمام التباسات متعددة، تتلخص في الدولة عند المسلمين، وقد تضاعف هذا الالتباس عند المفكرين النهضويين وما بعدهم. لكن نستطيع الجزم أن إظهاره من جديد ثم بتصورات مغايرة، وجدنا أفضلها عند هؤلاء المفكرين الخمسة. إن جدة هؤلاء ليست كامنة في التموقف في هذا الموقف أو ذاك، بل في كون عملهم وجهدهم انصب على الآليات المؤسّسة للدولة في الإسلام، كأن فهمها هو فهم حاضرها باختلاف رؤاهم. كان الحري بنا توسيع النظر أكثر. باختراق الأنهار التي رسموها لتدفق رؤاهم عبر الوصول إلى الضفاف التي ينظرون منها، لكن الزمن لم يسعفنا في ذلك، إلا أن وجدنا في المرايا طريقة لرؤية هذا بذاك، دون السقوط في الأحكام المعيارية، التي تفيد أفضلية هذا على ذاك. لذا استعرنا الأنهار لتشبيه مقارباتهم، التي تصب في مصب واحد هو تعرية الاستبداد بتجلياته الماضية والحاضرة. إن خطاطة هذا البحث قد تحيط بالقضايا/ الأسئلة التي حددت إشكاليات الفكر العربي المعاصر، ونحن هنا لا ندعي تسويرها، بل ندفع انفتاحها المتجدد في مهام اهتمامنا واشتغالنا اليوم وغدا. لقد أفادتني هذه الإشكاليات في إعادة النظر فيما كنت اعتقده، أو ما كان بالنسبة لي أجوبة نهائية، لكن هل سأقول أنا الآخر- مع الجابري- من هنا نبدأ؟ أي ممّا انتهيت منه. وكأن نهاية هذا البحث هي السبيل لفتح أسئلة أخرى راهنة في عالمنا العربي. 1(*) محمد عابد الجابري، العقل السياسي العربي، محدداته وتجلياته، البيضاء، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، البيضاء 1990. 2 محمد عابد الجابري: (حاوره : بنيس المسناوي وبلكبير) مجلة الكرمل العدد 11 سنة 1984. 3 المصدر نفسه، ص. 162. 4 م.ن.، ص. 168.