جولةٌ في المكتبات العامة بمدينة طنجة، على قلّتها، تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن روّادها وزوارها ليسوا سوى نسبة ضئيلة جدا من ساكنة المدينة، آحاد وعشرات يشغلون بضعة مقاعد، أغلبهم طلبة يستغلون هدوء هذه الأوساط لمراجعة دروسهم. في الثمانينيات والتسعينيات كان الوضع مختلفا كثيرا، وكان الدخول إلى المكتبات العامة يكاد يكون حلما بالنسبة لعشاق القراءة من الساكنة عموما، ومن الأطفال خصوصا، لكن مع ثورة التكنولوجيا لم يبق من هؤلاء سوى القلة القليلة الذين يعرفهم المشرفون على المكتبات بالاسم والصفة نظرا لندرتهم. هي فقط 4 مكتبات تلك التابعة لمندوبية الثقافة بالمدينة، بينما ما تبقى يتبع لمبادرات أو هيئات أخرى، كمؤسسة عبد الله كنون للثقافة والبحث العلمي بطنجة، والتي تبقى واحدة من أهمّ المكتبات بالمدينة لقيمتها العلمية والتاريخية أيضا. مؤسسة عبد الله كنون.. الأقدم والأشهر شرعت مكتبة عبد الله كنون في استقبال طلائع روادها سنة 1985، بعد أن فتح أبوابها العلامة الراحل في وجه الباحثين وطلبة العلم، لتصبح مرجعا وطنيا، عربيا، بل ودوليا أيضا. يقول المهداوي حسن، مُوظّف مُشرف على المكتبة منذ تاريخ افتتاحها، إنها لازالت تشهد إقبالا، لكنه لا يقارن أبدا بما كانت عليه في السابق، خصوصا عندما كان حيّز المكتبة لازال ضيقا ولم تخضع للتوسعة بعد، حيث كان الأمر يتطلب أحيانا تدخل الشرطة من شدة الزحام الذي كانت تعرفه أبوابها في الثمانينيات. منذ سنتين، دخلت المبادرة الوطنية للتنمية البشرية على الخط، حيث تمّ تدارك التهالك الذي كانت قد بدأت تشهده المكتبة بسبب قلة الإمكانيات والدعم. ما يميز مكتبة عبد الله كنون، وما يجعل الإقبال عليها يبقى مقبولا، هو أنها لا توفر الكتب فقط، بل توفر النادر منها، إضافة إلى المخطوطات والجرائد، وبأكثر من لغة، وهو ما يجعلها قبلة لعدد من المهتمين من جنسيات أخرى، خصوصا الفرنسية، والإنجليزية، والإسبانية. يقول المهداوي: "أكثر الكتب طلبا هي كتب القانون، تليها المخطوطات والجرائد التي يحتاجها كثيرا المهتمون والباحثون في التاريخ، نتوفر هنا على حوالي 18 ألف كتاب باللغة العربية، و3 آلاف بالفرنسية ومثلها بالإنجليزية". عن عدد الزوار، يقول مُحاوَرُنا إنهم قد يصلون إلى مائة فرد في اليوم، بينما في العطل تمتلئ قاعات المكتبة عن آخرها أحيانا، وهي 5 قاعات في المجموع، اثنتان للغة العربية، و3 قاعات صغيرة للغات الأجنبية. يشكو المهداوي من عدم وجود حرّاس أمن خاصّين للمكتبة، ما يجعلها عرضة، أحيانا، لحالات سرقة، مثلما حدث، مؤخرا،عندما قام لصّ بسرقة حقيبة سيّدة بمدخل المكتبة ثمّ لاذ بالفرار. تراجعُ القرّاء وإقبال الطلبة في "المكتبة العامة"، الكائنة بشارع الحرية والتابعة لمندوبية الثقافة، يبدو الوضع مختلفا كثيرا عن سابقه، حيث لا يتجاوز عدد الجالسين العشرين شخصا، ويبدو أن مجموعة منهم من الطلبة الذين يجهزون للامتحانات. سألنا مشرف المكتبة إن كان هناك من يأتي فقط من أجل التثقيف الذاتي وقراءة الكتب، فذكر لنا أشخاصا يعرفهم بوجوههم وأسمائهم، مؤكدا ندرتهم الشديدة، أما عدد المنخرطين بالمكتبة، فلم يتجاوز، حسب إحصائياتٍ اطلعنا عليها،181 منخرطا. الإحصائيات نفسها أظهرت اختلاف الإقبال بين الشهور، إذ إن أكثر الفترات إقبالا هي فترات الاستعداد للامتحانات، حيث يصل العدد إلى الذروة في شهر يونيو (1800 زائر)، بينما ينخفض في شهر يوليوز مباشرةً إلى 150 زائرا، في حين يصل في شتنبر إلى 200، وفي شهر يناير إلى 320. أكثر الكتب إقبالا، بحسب المشرف على المكتبة دائما، هي كتب القانون، وهو الأمر الذي تتطابق فيه جميع المكتبات بالمدينة، مما يوحي أن طلبة كليات المدينة هم أكثر زوار المكتبات العامة بطنجة. الأمر الغريب هو غياب الأطفال عن الحضور إلى المكتبة بشكل شبه كلي، رغم وجود جناح مخصص لهم، وهو ما عزاه المشرف عن المكتبة إلى موقع هذه الأخيرة غير الظاهر للعيان، باستثناء الزيارات الجماعية التي تقوم بها بعض المدارس لفائدة تلاميذها. من بين أقدم المكتبات بالمدينة أيضا، هناك مكتبة مسجد طارق بن زياد (السعودي) التابعة لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، التي كانت قد أغلقت لفترة قبل أن يعاد افتتاحها. الأمر نفسه ينطبق على مكتبة "ابن عجيبة"، التابعة لوزارة الثقافة، التي ظلت مقفلة لسنين عديدة، قبل أن يعاد افتتاحها مؤخرا، وهي عموما تشهد إقبالا لا بأس به لوجودها في حيّ شعبي، وهو حي كاسابارطا، حيث لازالت المجلات والكتب تشكل إغراء لعدد من الأطفال على ما يبدو. من جانبه يرى "العربي المصباحي"، مندوب وزارة الثقافة بطنجة، أنه لابدّ من التفريق بين التلاميذ والطلبة، وبين القرّاء العاديين إذا أردنا التحدث عن عملية الإقبال على المكتبات العامة. فالإقبال عموما، وفق المصباحي، جيّد، بل إن بعض المكتبات تعجز أحيانا عن استقبال كمّ الزوار الكبير، لكن ذلك لا يكون إلا في فترة الامتحانات، بينما الإقبال على الكتاب بصفة عامة يبقى ضئيلا. وعن تأثير ثورة التكنولوجيا، يقرّ المصباحي بأن له دورا كبيرا، حيث أثرت سهولة الوصول إلى المعلومة واستثمارها، خصوصا في صفوف الطلبة والباحثين، على عملية الإقبال على الكتب بكل ما تتطلبه من جهد وبحث.