رغم مرور نصف قرن على تأسيس الخزانات العامة للكتب والمحفوظات، المتواجدة بمدن الشمال، إلا أن الوزارة المعنية، منذ عهد محمد الفاسي وإلى غاية ثورية جبران ..لم تبادر إلى إنشاء خزانات أخرى ذات طابع عصري، بعد ازدياد الطلب على هذه المرافق الإشعاعية، من قبل الطلبة والباحثين، وعموم المثقفين. الأسوء من ذلك، أن وزارة الثقافة تفتقر حتى إلى إرادة إصلاح وهيكلة الخزانات العامة القليلة بمدن الشمال، في أفق جعلها فضاءات منعشة للفعل الثقافي، وفق المعايير المتفق عليها دوليا. يحدث هذا التقصير الشنيع، في وقت يكتظ فيه ديوان الوزارة بعشرات التقارير والدراسات التقنية، التي تثبت الأوضاع المزرية للخزانات العامة، والتلف الذي يتهدد محفوظاتها من الكتب والمخطوطات النادرة والثمينة..!! وظلت الوزارة الوصية، منذ عهد محمد الأشعري إلى الآن، تتعامل مع هذه التقارير المرسلة من قبل القيمين على الخزانات العامة في المدن الشمالية، إما ب(التجاهل التام)، أو عبر الادعاء ب(قلة الامكانيات)، ونتيجة لذلك، تواصل التدهور الشامل لهذه الخزانات الهامة، لتتحول إلى (صناديق إسمنتية) مغلقة في وجه روادها الكثر..!! اغتيال الخزانات العامة عبر الإهمال: في خضم الإهمال الشديد لكل ماله علاقة بالشأن الثقافي والعلمي في المدن الشمالية، تم التراجع حتى عن بعض المؤسسات الثقافية الموجودة، في هذا الصدد، نشير إلى إغلاق أبواب مجموعة من الخزانات العامة، والنوادي الثقافية، مثل: المكتبة العامة والمحفوظات بتطوان، التي أغلقت أبوابها في وجه الطلبة والباحثين، منذ شهر ديسمبر سنة 2006، بدعوى «إخضاعها للإصلاح»، بعد اكتشاف ممرات مائية تحتها تهدد بإغراق قاعة الأرشيف بها، مما أضر بمصالح الباحثين في المدينة. وقد عانت هذه الخزانة، التي تعتبر القلب النابض للإشعاع الثقافي في مدينة تطوان، من عدة مآسي، حيث تعرضت محفوظاتها الثمينة للقرصنة والترحيل نحو العاصمة الرباط، وتضررت بعض مخطوطاتها النادرة للتلف والضياع، نتيجة الافتقار إلى تجهيزات عصرية في الحفظ، ونتيجة حالات الإهمال أيضا، ثم وصلت إلى أوج المأساة بعد إغلاق أبوابها..!! ورغم مواصلة بعث القيمين على المكتبة العامة والمحفوظات بتطوان تقارير إلى وزارة الثقافة من أجل إنقاذ أوضاعها المزرية، وإدراجها ضمن مشروع إصلاحي حقيقي، إلا أن وزراء الثقافة، دون استثناء أحد منهم، لم يستجيبوا للنداءات، وتركوا هذه المعلمة الهامة للضياع..!! المكتبة العامة بطنجة، التي تم تأسيسها سنة 1959، عرفت هي الأخرى مصير الإغلاق، مند أزيد من سنتين، بعد صدور حكم بإفراغها لصالح شركة «رنتستيكا» المالكة للعقار، ورغم تنازل الشركة العراقية عن الحكم، إلا أن أبواب المكتبة لم تفتح إلا بعد وقت طويل، بدعوى «خضوعها للإصلاح الشامل» هي الأخرى. في حوار مع جريدة «الشمال» قال رشيد أمحجور، مندوب وزارة الثقافة بطنجة : «عند تعييني مندوبا لوزارة الثقافة بطنجة، فوجئت بصدور حكم يقضي بالإفراغ، الأمر الذي حتم إيجاد حل مستعجل، بدأ بإخضاع بناية الخزانة العامة لعملية ترميم وإصلاح، بعد التدهور الذي طالها لسنوات عديدة، وانتهى بعقد لقاء بين وزير الثقافة (السابق) محمد الأشعري، ومسؤول الشركة المالكة، هشام جمعة، تم على أساسه تنازل الشركة عن الدعوى، وتوقيع اتفاقية أولية بين الطرفين، لفتح المجال للمقاولة المكلفة بإصلاح البناية لمتابعة أشغالها» (عدد: 380/ 17 23 يوليوز سنة 2007). -اغتيال مندوبية الثقافة بمدينة شفشاون، على إثر صدور قرار بإلحاقها بمندوبية تطوان، وهو الأمر الذي أنهى دورها الإشعاعي في خدمة التنمية الثقافية بالإقليم، واعتبر قرارا صادما لمثقفي شفشاون، لا يخدم الثقافة المحلية. وجرى هذا الإلحاق في إطار مشروع، أو مخطط، المديريات بدل المندوبيات، الذي خلق (بلبلة حقيقية)، فضلا عن أنه لم يشكل، في تطبيقاته على أرضية الواقع، (قيمة مضافة) للفعل الثقافي، الذي تباشره المديريات، في ظل افتقارها إلى الإمكانيات وفضاءات العمل والتنشيط، إضافة إلى مقراتها الضيقة، التي لا تمكنها من الإسهام الفعلي في تنمية الشأن الثقافي. اغتيال آخر طال نادي الموظفين بمدينة العرائش، بعد صدور حكم بإفراغه لصالح المالك، الذي ينوي هدمه وإقامة كتلة إسمنتية (عمارة سكنية) بدله..!! وقد تتبعت «الشمال» بحسرة وألم، سنة 2007، طرد المشرفين من مقر النادي، وهو الإجراء السيء الذي وضع (نهاية مؤسفة) لتاريخ نادي الموظفين، الذي خدم الفعل الثقافي والفني في إقليمالعرائش، وعموم الأقاليم الشمالية، طوال عقود، عبر تنظيمه مهرجانا ثقافيا سنويا، كان يستقطب كبار الكتاب والفنانين والرسامين من المغرب وخارجه. المعالم المعمارية الحضارية لم تنج، هي الأخرى من معاول الإزالة والهدم، لحساب (أغنياء الجهل والفساد)..!! مثال ذلك، هدم مسرح «إديال»، ومسرح «إسبانيول» ومسرح «كوليزي» بمدينة العرائش، وإزالة مسرح «بيريس كالدوس»، ومسرح «إسطوريا» بالقصر الكبير، إضافة إلى الوضع الكارثي الذي يوجد عليه مسرح سيرفانطيس، الذي تأسس سنة 1913، وإن كانت إرادة إصلاحه وترميمه بدأت تظهر تباشيرها الأولى بفضل مبادرة معهد سيرفانطيس بطنجة. إبعاد الكتاب عن القراء : من خلال الإطلاع على وضعية الخزانات العامة للكنب والمخطوطات بالمدن الشمالية، التي يتناقص عددها سنة إثر أخرى، بفعل تواطؤ جهات ما ل(تعميم الجهل)، يمكن ملاحظة المظاهر التالية، التي مازالت وزارة الثقافة، وكذا اللجان الثقافية التابعة للجماعات الحضرية، لا تعيرها أي اهتمام يذكر: إن غالبية الخزانات العامة شبه معطلة، نتيجة عدم التوفر على الإمكانات التي تخول لها إغناء رصيدها من الكتب، وانعدام التجهيزات الحديثة..!! الكثير من محفوظات هذه الخزانات، خاصة في تطوان وطنجة، تم ترحيل جزء منه إلى الخزانات الكبرى في الرباط، بطرق غير مشروعة، بينما تعرض جزء آخر للتلف والضياع، بسبب ضعف تقنيات ترميم الكتب والحفاظ على المخطوطات..!! نظام الرفوف المفتوحة في الخزانات العامة، يفتقر إلى المعايير المعمول بها دوليا، مما يعني أن خزانات المدن الشمالية، مع بعض الاستثناءات، ماتزال تدار بأساليب تقليدية. إن مختلف هذه الأوضاع، لا تمكن الخزانات العامة للكتب والمحفوظات في المدن الشمالية، من القيام بأدوارها، المتعلقة بتقريب الكتاب من القراء، وتقديم المادة العلمية للطلبة والباحثين، والإسهام في بلورة نشاط ثقافي فاعل، باعتباره من أساسيات التنمية المنشودة. في هذا السياق، وعند إجراء المقارنة، نخلص إلى نتيجة هامة، وهي أن المكتبات الخاصة، عوضت، نسبيا، الخصاص الموجود على مستوى الخزانات العامة التي تديرها وتشرف عليها وزارة الثقافة، وأضحت رقما مهما في معادلة تنشيط الفعل القرائي، ودعم مجال البحث، كمثال على ذلك مكتبة عبد الله كنون بطنجة، التي يديرها الأستاذ عبد الصمد العشاب. مخطط لهدم المسارح والنوادي الثقافية : بالوقوف عند خزانات الكتب الصغرى بالأحياء الشعبية لمدن الشمال، نلاحظ أن مدن: طنجة، تطوان، أصيلة، المضيق، القصر الكبير، العرائش، الناظور، والحسيمة، تعاني من غياب شبه كلي لوجود خزانات الكتب بأحيائها، الأمر الذي يعيق إشاعة الثقافة بين السكان، ويحول بين الجمعيات الثقافية على قلتها وضعف مردودها وبين القيام بدورها التأطيري والمعرفي في أوساط الشباب والأطفال. كمثال على ذلك نذكر أن مدينة أصيلة، التي ارتفع عدد سكانها إلى حدود ثلاثين ألف نسمة، تفتقر إلى خزانات كتب صغرى، وتنعدم بها دور الثقافة وفضاءآت الترفيه، علما أن مركز الحسن الثاني للملتقيات الدولية، المتواجد بها، لايفتح أبوابه بشكل مستمر. كان المجتمع المدني بأصيلة، وجه نداءات إلى وزارة الثقافة، وبلدية أصيلة، بشأن العمل على بناء دار للثقافة، وإحداث خزانات كتب صغرى في الأحياء الشعبية الآهلة بالسكان، لكن لا أحد استجاب لهذه النداءات رغم تكرارها في كل مناسبة..!! وهنا تقتضي الموضوعية، أن نؤكد أن افتتاح مكتبة الأمير بندر بن سلطان بأصيلة، سنة 2006، يعتبر (مكسبا مهما) للثقافة في الشمال، رغم أن هذه المكتبة لا تفتح أبوابها إلا في (مواسم خاصة)، ولا يستفيد منها الطلبة والباحثون ومثقفو المدينة. وتمتد هذه المكتبة، التي دشنها جلالة الملك محمد السادس في يناير 2006، على مساحة 5000 متر مربع، وتتكون من طابقين اثنين، وقاعة تستوعب 650 مقعدا مجهزة بتقنيات متطورة في مجال العرض والترجمة الفورية لأربع لغات، كما تضم المكتبة ثلاث قاعات للمحاضرات، وقاعة للأطفال، وقاعة للأنترنيت مزودة بتجهيزات معلوماتية فائقة التطور، وقاعة كبرى للمطالعة، ومطعم يتسع لنحو مائة شخص، وكلف بإنجاز هذا المشروع 80 مليون درهم. الحق في التثقيف : السؤال الذي يفرض نفسه، بعد استعراض هذه الأوضاع كلها هو: كيف يمكن تفسير جمود الانتعاش الثقافي في مناطق آهلة بأوراش كبرى، وتستعد لكي تصبح (قطبا اقتصاديا)، سواء على الصعيد الوطني، أو على مستوى المنطقة المتوسطية؟! إن الحقائق التالية تشكل إجابات مباشرة وغير مباشرة عن السؤال : عدم انسجام الجهات المسؤولة في مدن الشمال (الولايات، العمالات، المندوبيات الثقافية، الجماعات المحلية)، مع مخطط عمل المؤسسة الملكية. عدم استيعاب حقيقة أن أي نهوض في المجالات التنموية، هو رهن تثقيف المواطنين وإعدادهم جيدا للإسهام في المسلسل التنموي المستدام. ذلك أن العنصر البشري هو المكون الأساسي في كل معادلة لتحقيق التقدم. انبعاث الوعي في المحيط الاجتماعي والاقتصادي، يظل مسبوقا بتظافر الجهود المتعلقة بإعمال الحق في التثقيف والترفيه، وتوسيع نطاق تعميم المعرفة في مناطق يرتفع فيها المنسوب الديموغرافي، دون أن يواكبه توسع في خلق البنيات التحتية الثقافية. الشمال