"لم يعد أحد ينظر إلى البحر"، يقول أحد الجالسين على سور المعكازين، ثم يستدير من جديد نحو البحر ويواصل: "هذا الأفق هو الذي كان يجلب الناس قديما.. الآن يهتمّون ببعضهم البعض أكثر من الطبيعة وهذه الزّرقة الرائعة". يصطفّ عددٌ كبيرٌ من الجالسين على السور وهم يولون ظهرهم للبحر، غير مبالين بمشهد طبيعي خلفهم حبسَ أنفاسَ كثيرين مرّوا من هنا. ليس من السهل أن تجد مكانا في سور "الكسالى" مساءً، إذ يمتلئ عن آخره بالزوار الراغبين في أخذ قسط من الراحة، أو ممن يقصدونه لعينِهِ من أجل الجلوس ومراقبة العابرين، وما أكثرهم في "بوليبار" طنجة، أو أيّ غايةٍ أخرى. "دكّة" المعكازين الحقيقة أن معلمة سور المعكازين في طنجة ليست سورا بالمعنى الحقيقي للكلمة.. فهي "دكّة" من الإسمنت مخصصة للجلوس يبلغ طولها عشرات الأمتار وارتفاعها بين 50 و70 سنتمترا، وقد تغير شكلها أكثر من مرّة على مدار تاريخ المعلمة التي بدأ تدشينها سنة 1911، وهي عبارة عن ساحة، دكّة، وحديقة. لكنها، بعناصرها الثلاثة هذه، أصبحت تعرف عموما ب"سور المعكازين"، علما أن الاسم الرسمي لها هو "ساحة فارو"، والذي كان قد أطلق عليها في إحدى مناسبات الاحتفال بتوأمة مدينة طنجة وجزر فارو البرتغالية، التي عقدت سنة 1954. يقول المؤرخ بن عبد الصادق الريفي: "إن سور المعكازين الحقيقي الأول هو الذي في الباحة الخلفية لفندق المنزه، والذي بني سنة 1928، وقد كان وصف "المعكاز" يطلق على المرشدين السياحيين الذين كانوا يقضون معظم وقتهم هناك، ينتظرون وصول بواخر السياح من جهة، وخروج زبائن فندق المنزه من جهة ثانية، فكان أن أطلق عليهم هذا الوصف. وبعد التغير المعماري الكامل الذي عرفته المنطقة وقع ما يشبه الإزاحة للتسمية لتنتقل صعوداً نحو الهضبة التي تعلو الفندق، والتي تعرف حاليا بسور المعكازين". هذا القول تعارضه أقوال مؤرّخين آخرين ترى أن أصل التسمية مرتبط بكون الهضبة كانت نقطة راحة وتجمع للقوافل القادمة من طريق فاس، محملة بالسلع من مختلف مناطق المغرب وبلاد السودان، قبل الذهاب إلى "السوق د برّا" من أجل البيع والشراء، إذ أعطت السلطات المخزنية سنة 1908 أوامرها ببناء سور لخدمة هؤلاء التجار، فكان تشييد سور قصير من طرف مقاول إسباني يدعى "بينيا"، فأطلق سكان طنجة تسمية "المعكازين" على من كانوا يجلسون هناك لأخذ قسط من الراحة. زرابي وصور وأحلام يقول المؤرخ بن عبد الصادق: "في الخمسينيات من القرن الماضي، كان سور المعكازين سوقا لبيع الزربية الطنجاوية، حسبما تظهر ذلك صور نشرت في مجلة "لايف"، وفي كتاب "بورتريه أوف طنجير" لروم لاندو سنة 1952". وقبل انتشار ثورة آلات التصوير الرقمية والهواتف الذكية، كان سور المعكازين بمثابة مكان ممتاز لمُمْتهني التّصوير، الذين كانوا يلتقطون الصور التذكارية للزوار، وكم من أسرة كان مصدر عيشها هو هذا النشاط قبل أن تقضي الثورة الرقمية على كل هذا، ولا تبقي منه سوى بضع مُصوّرين يأتون من حين إلى آخر على مضض، في انتظار زبون قد لا يأتي. ويُعرف سور المعكازين بأنه أفضل مكان يمكن من خلاله مشاهدة الجارة الإسبانية بوضوح، وكم من حالم بالهجرة كانت هذه الإطلالة هي دافعه، إذ تبدو القارّة العجوز في الأيام المشمسة واضحة بتفاصيلها، وكأنها على مرمى حجر. الأحلام الأخرى التي تحملها الساحة هي أحلام عرسان طنجة الجُدد، الذين يأتي الكثيرون منهم لالتقاط صور تذكارية في الساحة، تخلّد لليلة العمر. ووضعُ تلسكوب بالساحة يُمكّن الزوار من مشاهدة الجارة الإسبانية بتفاصيلها، وكأنها على بعد أمتار، مقابل دُريهمات معدودة، ما زاد ربّما من تغذية الحلم الأوروبي لدى البعض. تغييرات .. وطرائف عرف سور المعكازين عددا من التغييرات على مرّ تاريخه، وأعيدت تهيئته في عهد عدد من المجالس المنتخبة بطنجة، كان آخرها منذ بضع سنوات، إذ طالت التغييرات حديقة السور، وكذا مكان الجلوس الذي بقي إلى حدّ الآن غير مكتمل التجهيز، إضافة إلى المدافع الأثرية التي يشتهر بها سور المعكازين، والتي كانت قد تمت إدارتها لتواجه فوّهاتها جهة الجنوب، بعد أن كانت موجهة نحو البحر. هذا التغيير لم يدم طويلا، إذ تمت إعادة المدافع إلى وضعها الأصلي الذي ميّزها منذ سنين، بعد أن استنكر عدد من ساكنة طنجة الوضع الجديد الذي بدا مُنفرا. وبخصوص هذه المدافع، يتداول الناس في طنجة قصّة طريفة - قد تكون صادقة وقد لا تكون - حين باع أحد "كسالى" سور المعكازين أحد هذه المدافع لسائح ساذج. وتقول الحكاية إن سائحا وجد أحد المتسكعين متكئا على أحد المدافع الأثرية الموجودة بالساحة، فاعتقد أنه يبيعها، وعندما سأله عن السعر لم يتردد الآخر في تحديد سعر كبير، يبدو أنه ناسب المشتري فأدى الثمن لذلك المحتال الذي انطلق لا يلوي على شيء. وانكشف الأمر عندما جاء السائح بشاحنة كبيرة ناويا نقل المدافع، ليفاجأ بالسلطات تمنعه وتسأله عن الحماقة التي ينوي ارتكابها، قبل أن تتضح الحقيقة وتصبح الحكاية أشهر من نار على علم. ولازالت هذه المدافع إلى حدّ الآن عامل جذب لا بأس به لالتقاط الصور بجانبها أو فوقها من طرف الزائرين والسياح، نظرا لقيمتها الأثرية الواضحة، وشكلها المميز. خُذني إلى "المعكازين" تغيّرت أشياء كثيرة في سور المعكازين.. فمن الورود التي تملأ الساحة إلى رخام صلب لا جمالية فيه.. ومن مكان يضم مراحيض عمومية إلى حديقة عبارة عن مرحاض كبير للسّكارى والمشرّدين، رغم الاعتناء اليومي بها. لكن المهمّ من كل هذا أن المعلمة لازالت تحمل الاسم نفسه. وإنك مهما تُهت في مدينة طنجة يمكنك في آخر المطاف أن تستقلّ سيارة أجرة وتطلب إعادتك إلى مركز المدينة.. إلى الأصل.. إلى "سور المعكازين" ببساطة.