أماطت أحداث العيون الأخيرة اللثام، شأنها في ذلك شأن ما سبقها من أحداث، عن الوجه الحقيقي للنخب الصحراوية المتحكمة والمهيمنة على تدبير الشأن العام المحلي ،سواء لجهة حجم نفوذها وتدخلاتها أو لنظام تحالفاتها السياسية ،فبعد أن كان هذا النفوذ وهذه التحالفات محدودا في المكان "المجال الصحراوي" وفي الزمان" فترة الانتخابات"، انتقل إلى مجال أرحب والى زمان ممتد،فأشتد بذلك صراع المصالح فيما بينها الذي اتخذ لسنوات عديدة شكل صراع قبلي ليمتد فيما بعد إلى الساحة الحزبية، و يجعل منها كل طرف من النخب مسرحا لتمرير مخططاته ومراميه. وما زاد في تشجيع التطاحن، الرؤية القاصرة والنفعية لهذه النخب والتي تقاطعت والى حد بعيد مع طموح الأحزاب السياسية الطامحة إلى موطأ قدم في المنطقة، حيث وجدت ضالتها في تأجيج هذا الصراع وتغذيته. ولئن كان الأصل في الصراع بين هذه النخب هو بالأساس التنافس على مصالح وامتيازات غير انه في الآونة الأخيرة اتخذ طابعا سياسيا عنوانه التنافس على الأحقية في تدبير الشأن العام المحلي،فأصبح كل طرف يتصيد هفوات وأخطاء الطرف الأخر وانتقل الصراع من الصالونات المغلقة إلى أعمدة الصحف، وقد شكلت جلسات الكوركاس أولى تجلياته، كما أن الانتخابات الأخيرة أظهرت عمق الصراع والتنافس بين هذه النخب وان تحت غطاء سياسي وحزبي، غير أن الأحداث الأخيرة للعيون والتي كان عنوانها الأبرز التهميش والإقصاء الاجتماعي، عرت واقع هذه النخب حيث أظهرت من جهة زيف الادعاءات التي ما فتئت هذه النخب تروج لها من قبيل إسهامها في ترقية الوضعية الاجتماعية للساكنة، ومن جهة ثانية كشفت خطورة هذا الصراع الذي أصبح يهدد الاستقراربل وأرواح الساكنة الآمنة بالمنطقة. إن الأدوار التي أصبحت تضطلع بها هذه النخب لخدمة مصالحها الشخصية وأجندتها التي نجزم بعدم تقاطعها مع تطلعات وآمال الساكنة، هو ما يدفعنا إلى البحث في ماهية هذه النخب من حيث الشرعية التاريخية التي تستند عليها لتبرير نفوذها وسطوتها ومن ثمة تفردها وتميزها عن بقية الساكنة، كما نبحث في مدى وحقيقة تعبيرها عن إرادة الساكنة . لاشك أن هناك استثناءات وان كانت جد محدودة في هذا الاتجاه ،حيث هناك من النخب الصحراوية التي لم تنخرط في سياسة الريع وبالتالي لاشك في نزاهتها، وان كانت إسهاماتها ودورها في الإنعاش الاقتصادي بالمنطقة ودورها في ترقية الوضعية الاجتماعية للساكنة يبقى جد محدود ،إن لم نقل منعدم لا نعلم لهذه النخب المصطنعة من دور يذكر على المستوى التاريخي، اللهم إذا كانت هذه النخب تشير إلى مرحلة الثمانينات والتسعينات حيث تعاظم نفوذها في أوج النزاع السياسي والعسكري بالصحراء، حيث وجدت فيها الإدارة المخاطب الأمثل لتمرير سياساتها والتستر على أخطاءها. هذه النخب التي أسميناها مصطنعة لأنها في نظرنا كذلك لا تعكس إرادة وتمثيلية شعبية حقيقية وليست لديها شرعية تاريخية فليست لهذه النخب المصطنعة من مشاركة تذكر في حرب التحرير التي عرفتها الصحراء، بل جاءت نتيجة لأخطاء تاريخية ارتكبتها الدولة المركزية حين عمدت إلى إقصاء الزعماء التاريخيين للقبائل الصحراوية، ذلك أن الزعامات التاريخية بالصحراء معروفة منذ مقاومة المجاهدين من الجيل الأول أمثال "اعلي ولد ميارة" الذي استشهد في معركة ميجك سنة 1933"وإسماعيل ولد الباردي" و"أحمد حمادي"، ثم من الجيل الثاني الذي قاد المقاومة الشرسة من أمثال النقيب"حبوها لعبيد" و الملازم "اعلي بويا ميارة" و الملازم"اباالشيخ باعلي" وغيرهم كثير قد نأتي على ذكرهم بتفصيل لاحقا إن سنحت الفرصة لذلك،هؤلاء أجمعت شهادات قادة جيش التحرير في الجنوب المغربي كبنسعيد ايت ايدر، وإدريس العلويوآخرون... بمساهمتهم في دحر الجيوش الاسبانية،بل وطالت مدافعهم الجيوش الفرنسية شمالا وشرقا وفي تراب موريتانيا حيث تجلت بحق المقاومة المغاربية في أبهى صورها، وما تكالب الاستعمارين الفرنسي والاسباني على هذه المقاومة من خلال عملية "اكوفيون" الشهيرة إلا ابرز دليل على حدتها ونجاعتها ، فهؤلاء المجاهدون لم يكونوا يعترفون بحواجز وحدود تحول بينهم وبين واجبهم التاريخي والجهادي، بل لم يكونوا ينتظرون مكافأة على أعمالهم الجليلة ،لذلك استحقوا مكانة رمزية في وجدان الصحراويين. وأشير هنا أننا لسنا بصدد إعطاء درس في التاريخ الصحراوي، فتلك مسؤولية ملقاة على عاتق الباحثين والدارسين والمهتمين لبسط تاريخ المنطقة وشؤون نخبها وأعيانها وتبيان الحقيقة الجلية التي لن تكون في صالح هذه النخب المصطنعة. لقد كافأت الدولة بعضا من هؤلاء الرجال والكثير من الزعماء الآخرين بالتهميش والنكران وبالسجون والأقبية السرية والبعض منهم اختار الهجرة، وصنعت في مقابلهم نخبة ضعيفة موالية وغذتها بمختلف أشكال الدعم، وصارت المخاطب الوحيد وبالأحرى المستمع الوحيد، ذلك أن هذه النخب ليس لها من الإدراك والوعي حتى تتم استشارتها في أمور تتجاوز قدراتها وإمكاناتها، وصار لهذه النخبة المصطنعة تاريخ قائم على طمس الوقائع والرموز التاريخية وتزييفها، وصارت بقدرة قادر الآمر الناهي بل والحاكم بأمر الله في شؤون الرعية، حيث تصل من تشاء بودها وعطاءها وتمنع وتعاقب من تشاء، فتعاظم أمرها حتى أصبح لا يستقيم أمر بدونها، وها هي اليوم بعد أن استقر لها الأمر تصارع بعضها بعضا دونما التفاتة للساكنة التي اكتوت بالأمس بنار جشعها واستغلالها وهاهي اليوم تدفع الثمن مجددا من قوتها وحريتها بل وأرواحها. لقد سبق أن أقر الملك الراحل الحسن الثاني بالأخطاء التاريخية للدولة في حق الصحراويين، غير أن المحير أن جل المقاربات التي تبنتها الدولة لمعالجة الأخطاء كانت تصب في اتجاه تركيز دور هذه النخب و بسط سيطرتها والإغداق عليها في الأموال والامتيازات والمناصب، حتى غدت أخطبوطا من الصعب توجيهه و التحكم فيه فبالأحرى الحد من نفوذه.فهاهي اليوم هذه النخب في صراع محموم لتوريث أبناءها نفوذها وسطوتها في مشهد يحاكي انتقال السلطة في الأنظمة العربية. لطالما تشدقت هذه النخب المصطنعة بأنها تمثل الساكنة وبأن تمثيليتها نابعة من نزاهة وشفافية صناديق الاقتراع وبأنها بالمقابل تعبر عن انشغالات الساكنة وتطلعاتها، والحال أن التزوير والمال الحرام هو ما أوصلها إلى تلك المكانة، شأنها في ذلك شأن العديد من النخب التي تربعت على تدبير الشأن المحلي لعقود، مستفيدة من تفشي ظواهر اجتماعية كالجهل، والأمية، والفقر لشراء الضمائر ، ولنا أن نتساءل لماذا تعجز هذه النخب، إن كانت تمثل الساكنة حقا كما تزعم، عندما تستنجد بها الدولة لوقف الاحتجاجات والحد من التوترات الاجتماعية؟ لماذا لم تعمل على الحد من تطور وتفاقم النزوح الجماعي بمخيم"اكديم ايزيك"؟ ولماذا لم تنبه إلى إمكانية وقوعه ؟ وكيف وقفت عاجزة عن الحد من تفاقم وضعية المخيم ؟ إن هذه التساؤلات تحيل على أن هذه النخب المصطنعة فاقدة للشرعية، فلا تمثيلية حقيقية لها للساكنة كما أنها لا تجسد ولا تتقاطع طموحاتها مع الإرادة الشعبية،بل والخطير في الأمر أنها تستغل هكذا أحداث لتركيز استراتيجيها القائمة على المزيد من الاستغلال ،بل غالبا ما ترفع سقف مطالبها وتعمد إلى الابتزاز مستغلة انشغال الإدارة في حل المشاكل الأمنية. إن مسؤولية هذه النخب المصطنعة عن أحداث العيون قائمة و ذلك أمر لا جدال فيه، فالتدبير السيئ للشأن العام المحلي طيلة عقود هو ما أدى إلى النزوح الجماعي ،كما أن غياب مخاطب نزيه بإمكانه الإنصات إلى الساكنة والى همومها هو مادفع إلى نصب المخيم. لطالما ادعت هذه النخب المصطنعة بأنها تملك مفاتيح الحل في نزاع الصحراء وبأنها تسخر إمكاناتها وجهودها لخدمة قضية الوحدة الوطنية، وبأن مجهوداتها في هذا الاتجاه تحرج خصوم الوحدة الترابية وبأن المكاسب التي تحققت في هذا الملف إنما يرجع إليها وبفضلها، والحال أن هذه النخب المصطنعة إنما استغلت هذا النزاع لعقود ولازالت تستغله لتشتيت الانتباه عن تجاوزاتها ومراكمتها للثروة بطرق غير مشروعة،ولنا أن نتساءل عن الفتوحات والانتصارات التي حققتها لحسم نزاع الصحراء؟ وماهي آلاليات التي تعتمدها في ذلك؟ ،ولماذا إن كانت صادقة فيما تدعي تحتفظ بازدواجية الجنسية المغربية والاسبانية؟. لقد تماهت الدولة للأسف مع طرح هذه النخب دون الالتفات إلى الساكنة التي تملك فعلا مفاتيح النزاع ،فصبت بالتالي جهود التنمية في جيوب هذه الفئة القليلة والمحدودة وطال انتظار الساكنة لإنصافها وترقية أوضاعها ،ورغم كثرة الاحتجاجات المتوالية ذات الطابع الاجتماعي بدءا من سنة 1999 و2005 وانتهاءا بأحداث مخيم "اكديم ايزيك" غير أن هذه الأحداث اجتمعت للأسف في رابط وحيد هو مزيد من الاستفادة لهذه النخب المصطنعة، وهو ما أدى بالساكنة إلى دفع الثمن غاليا، فبعد أن كانت تطالب بإنصافها أصبحت اليوم تطالب فقط بإطلاق سراح أبناءها المعتقلين. وإذا كنا قد تناولنا بالنقد سلوك النخبة المحلية فهذا لا يمنع من القول بتواطؤ بعض المسؤولين في الإدارة الترابية الذين تعاقبوا على الإقليم وأسهموا بقسط وافر في سوء التدبير وتورطوا بتواطؤهم المكشوف،حيث شكلوا على مدى عقود غطاءا لتفاقم سلوك هذه النخب. إن القصد من إبراز حقيقة هذا الصراع بين النخب المصطنعة الذي لم ينتهي بعد ولا نعرف مآله ليس بهدف التشفي والتجني ولكن لأن واقع الحال، في الصحراء عموما وفي مدينة العيون تحديدا، يفرض وقفة لتحديد المسؤوليات، نحن لا نطالب هاهنا بمحاكم التفتيش أو بنصب المشانق لمن تسبب في هذه المأساة للساكنة، ولكن إطلاق تحقيق نزيه وشفاف و إعطاء مصداقية للتحقيقات الجارية حاليا وتعيين المسؤولين الحقيقيين فضلا عن الإنصات إلى المطالب العادلة التي عبرت عنها الساكنة وعلى رأسها إطلاق سراح المعتقلين الأبرياء. لقد آن الأوان للدولة أن تضع المطالب المتكررة في الحاجة إلى التغيير موضع الاعتبار ،فان كان من دروس نستخلصها من أحداث العيون الأليمة فهي ضرورة ترك مسألة تدبير الشأن العام المحلي إلى الكفاءات القادرة على خدمة المجتمع والساكنة، فالرهان على هذه النخب قد أثبت فشله أما ما يتعلق بترشيد السياسات العمومية على المستوى المحلي وتفعيل المساءلة والرقابة القبلية والبعدية التي يجب أن تشمل كافة المسؤولين سواء كانوا معينين أو منتخبين،فهذه من البديهيات ومن واجبات الدولة أن تنهض بها، ليس فقط بالصحراء ولكن في كافة مناطق المملكة ،قصد الرقي بتدبير الشأن العام المحلي إلى مرحلة متقدمة حيث تفتح الفرص أمام نخب مؤهلة وقادرة والأهم من ذلك أن تكون نزيهة، والانتقال بالحكامة الجيدة من مجرد شعار إلى واقع عملي يطبع عمل مؤسسات الدولة وسلوك مسؤوليها. [email protected]