كيف بنى حزب العدالة والتنمية تحالفاته في تشكيل مكاتب المجالس المحلية؟ وما علاقة ذلك بتقليصه لحجم مشاركته الانتخابية؟ وما هو الموقع السياسي المستقبلي المترتب على ذلك، خصوصا ما ارتبط باحتمالات المشاركة الحكومية؟ تختزل الإجابة عن الأسئلة السابقة مجمل النقاش الدائر حول النتائج السياسية لحصيلة حزب العدالة والتنمية في الانتخابات المحلية، والذي تغذى من عناصر الأزمة الحكومية المتصاعدة بفعل ردود الفعل السياسية لما جرى في انتخابات عمدة الدارالبيضاء، وانكشاف مؤشرات إعلامية وسياسية عن وجود مساع لتغيير الجهاز الحكومي الحالي ومحاولة إخراج الاتحاد الاشتراكي منه، وذلك بتواز مع ما أفرزته نتائج حزب العدالة والتنمية في الانتخابات، حيث أدت إلى إحداث تحول جذري في مسار علاقة الحزب بمحيطه السياسي، وأكدت صعوبة المراهنة على تحجيم القوة السياسية والشعبية لحزب العدالة والتنمية. وسنتناول في هذه المقالة تحليل الأسئلة المثارة، كمساهمة في النقاش السياسي الدائر وتعبيرا عن وجهة نظر في المسارات التي اتخذها. حسابات المشاركة الحكومية وحسابات العدالة والتنمية لقد ذهبت بعض القراءات في الآونة الأخيرة، إلى القول بأن التفاهم السياسي حول حجم مشاركة حزب العدالة والتنمية في الانتخابات الجماعية، ثم تعاظم القوة السياسية والشعبية للحزب في المناطق الرئيسية بالبلاد، ومرونته في تدبير عدد من التحالفات السياسية المحلية أثناء تشكيل مكاتب المجالس وانتخاب رؤسائها، قدمت مؤشرات مساعدة للتفكير في مشاركة حكومية مقبلة للحزب، والانطلاق في ذلك من وجود حاجة لتقوية القاعدة الشعبية الداعمة للتجربة الحكومية، وتكرار نفس التجربة التي اعتمدت مع الاتحاد الاشتراكي أثناء تجربة التناوب، لا سيما في ظل الفشل الذي عرفه هذا الأخير في المدن الست الكبرى، وانهيار التحالف الذي تشكل في الدارالبيضاء وما ارتبط به من أزمة في الأغلبية الحكومية، وانطلاق حملة إعلامية تستهدف الوزير الأول، معتمدة في ذلك على تصريحات ومواقف لفاعلين في القرار السياسي( انظر على سبيل المثال كلا من العدد الأخير من أسبوعية لوجورنال، والملف الذي نشرته يومية أوجوردوي لوماروك في عددها لنهاية الأسبوع الماضي). تبدو العناصر الآنفة متماسكة ومترابطة لدفع المتتبع لاستخلاص معالم تعديل حكومي يقع فيه إدماج حزب العدالة والتنمية في الحكومة، إلا أن هذه القراءة تبقى مع ذلك مبالغة في استقراء معطيات المرحلة السياسية، خصوصا في الشق المتعلق بالحزب وذلك لثلاث اعتبارات، أولا طبيعة التوازنات السياسية القائمة من حيث تعاظم نفوذ التيار المناهض للحزب، وثانيا المناخ السياسي غير المساعد للحزب وذلك من حيث الاستحقاقات السياسية المطروحة على البلاد، ثم ثالثا محدودية القابلية لخيار من هذا النوع في صفوف الحزب، حيث أن الشروط المحيطة بأي مشاركة محتملة في الظرفية الراهنة أسوء من الشروط التي اكتنفت مرحلة ما بعد الانتخابات التشريعية ل 27شتنبر 2002 ، أي أن حسابات المشاركة الحكومية في المرحلة الراهنة بالنسبة للحزب بحسب المؤشرات السابقة ليست واردة ولم تكن مطروحة في الأجندة السياسية للحزب، كما لم يقع ربط خيار المشاركة المحدودة بخيار المشاركة الحكومية بل إنها خضعت لتقديرات وحسابات مغايرة سنتناولها تباعا. المشاركة المحدودة: تشاور سياسي وتقديرات ذاتية منذ نتائج الانتخابات التشريعية ل27 شتنبر ,2002 تبلور هاجس سياسي مستحكم يروم العمل على تطويق التعاظم المتزايد للحركة الإسلامية في المجال الانتخابي،خصوصا وأن تواجد حزب العدالة والتنمية في موقع المعارضة للحكومة القائمة كان يعزز من حظوظ اكتساح الانتخابات المحلية، ثم أخذ الموضوع مسارا أكثر حدة بعد التفجيرات التي تعرضت لها عدد من المواقع الحساسة بمدينة الدارالبيضاء في 16 ماي المنصرم، حيث عمل التيار الاستئصالي على استغلالها لضرب حزب العدالة والتنمية وتحميله المسؤولية المعنوية فيما وقع، بل وطرح فكرة حله وتجريده من حق العمل القانوني، ليقع بعد ذلك تشديد الضغط عليه من أجل تحجيمه ومحاصرة مشاركته الانتخابية، والحد من فاعليته السياسية التدبيرية، والحليولة دون استثماره لنتائج الانتخابات التشريعية السابقة خاصة في المدن الكبرى، وهو ما برزت إرهاصاته جلية أثناء الانتخابات المهنية في 25 يوليوز المنصرم. في ظل هذا السياق السياسي المحكوم بإكراهات معقدة، اتخذ الحزب قرار المشاركة المحدودة في أقل من 20 في المائة من الدوائر الانتخابية إجمالا، وفي حدود 50 في المائة من الدوائر الموجودة في المدن الكبرى، وقد انبثق هذا الموقف عن ثلاث اعتبارات: أ اعتبار مبدئي ينطلق من التصور السياسي للحزب والذي يقوم على إعمال مبدأ التدرج والتقدم الموزون والمحسوب في العملية السياسية وعدم الاستلام لخيارات المغامرة الشعبوية المتجاهلة لطبيعة موازين القوى المحلية، وهو في ذلك يستفيد من معطيات التجارب الحركية الإسلامية في المنطقة العربية عموما والمغاربية خصوصا، وهو الاختيار الذي سارت عليه التجربة السياسية لتيار المشاركة منذ بداية التسعينات، وتم التأصيل له كاختيار ينطلق من تجاوز فكرة اعتبار الذات بديلا لما هو قائم بل على العكس من ذلك هي طرف مشارك لا مهيمن، واستيعاب محدودية الجانب السياسي في المشروع الإصلاحي للحركة الإسلامية، فضلا عن الوعي بخصوصية الحالة المغربية، جغرافيا وسياسيا وتاريخيا، مما يحتم الالتزام بمنهج التدرج الإيجابي والمنفتح، وهو ما تجسد في انتخابات نونبر 1997 وبعدها في انتخابات 27 شتنبر ,2002 بل إنها كانت السبب في تراجع الحزب عن المشاركة في الانتخابات البلدية ليونيو1997 نظرا لرفض الدكتور الخطيب لمبدأ المشاركة المحدودة آنذاك. ب اعتبارات سياسية ترتبط بالظروف الدولية والإقليمية المحكومة بهاجس الاكتساح الانتخابي الإسلامي وما يترتب عنه من مخاطر على مصالحها وعلى علاقاتها مع النخب المحلية مما تكون له ردود فعل مضادة تؤدي لانتكاس مجمل العملية الانتخابية كما جرى في التجربة الجزائرية، وهذه الاعتبارات انطلقت من ضرورة استحضار موقع المعارضة الذي يهيمن عليه الحزب في البرلمان وردود الفعل الخارجية والمحلية التي نتجت عن قيامه بطرح عدد من الملفات الصعبة وخوضه لسلسلة معارك سياسية متواصلة منذ نهاية السنة الماضية، والتي كان لها صدى قوي في الشارع المغربي، وخصوصا في قضايا تغيير مدونة الأسرة والمرأة، وحرف كتابة اللغة الأمازيغية وإفشال مسعى التيار الداعي لاعتماد الحرف اللاتيني، ومقاومة محاولات استئناف التطبيع مع الكيان الصهيوني، والاعتراض على استحقاقات الانخراط المغربي في الحملة الأمريكية ضد الإرهاب، وتعبئة الشارع في مواجهة الحرب الأمريكية ضد العراق، ونشاط البعثات الثقافية الأجنبية بالمغرب، والسياسة الإعلامية الحكومية، حيث نتج عن الاشتغال القوي للحزب في هذه القضايا عن حصول إرباك حقيقي لتلك المساعي والبرامج مما عزز من مخاوف ازدياد نفوذه الانتخابي وتمكنه في المستقبل من الوصول إلى دفة التوجيه للسياسة الرسمية، ونتج عن كل ذلك تشكل ما يشبه تحالفا مضادا له استقطب بعض الجهات الأمنية والقوى السياسية والدوائر الإعلامية وبعض فئات النخبة الاقتصادية واللوبي العامل في برامج التطبيع مع الكيان الصهيوني، ومدعوم من بعض الجهات الخارجية، واعتبر هذا التحالف أن أولويته تحجيم المشاركة السياسية للحزب والضغط عليه من أجل ذلك، مما قدم مؤشرات واضحة عن احتمال تحول العملية الانتخابية إلى ساحة مواجهة سياسية وميدانية على شاكلة النموذج المصري في مواجهته للمشاركة الانتخابية للإسلاميين، وبالتالي خلق حالة من الاحتقان السياسي والأمني تؤدي إلى انتكاس مجمل مكتسبات المشاركة السياسية للحركة الإسلامية، والتي كشفت عمليات الاستغلال الممنهج لتفجيرات 16ماي والربط بين التفجيرات وبين حزب العدالة والتنمية، والتأويلات التي أعطيت لتصريحات الرئيس السابق لحركة التوحيد والإصلاح حول إمارة المؤمنين بالمغرب، عن أن هذا الانتكاس احتمال وارد، وأن مقولات الخصوصية المغربية والانفتاح على الحركة الإسلامية، قد يقع الانقلاب عليها والالتحاق بسياسات باقي دول الخط الاستئصالي، خصوصا إذا ما انزلقت الحركة الإسلامية المشاركة نحو تقديم مواقف غير محسوبة و انتهاج خيارات غير واقعية واستجابة للاستفزازات التي توجه لها، وهي محاذير فرضت اعتماد خيار تفويت الفرصة وتعزيز منهج التدرج في المشاركة السياسية. تأسيسا على ما سبق فقد عزز هذا الاعتبار السياسي خيار المشاركة المحدودة كخيار لتعزيز الثقة مع الحكم، وتفويت الفرصة على دعاة النهج الاستئصالي، وتقديم نموذج متقدم في الموازنة الدقيقة بين مقتضيات المصلحة الوطنية والمصلحة الحزبية والتأكيد على أولوية الاستقرار الوطني في الخط السياسي للحزب، واقتضى هذا الاعتبار خوض حوار سياسي مع الحكم للتشاور حول المشاركة المحدودة، والتعرف أكثر على وجهة نظر السلطة بخصوصها، مع الاحتفاظ الذاتي باستقلالية القرار النهائي، واعتماد ذلك كعنصر محدد من ضمن عناصر عدة في تقدير مستويات وتفصيلات المشاركة الانتخابية للحزب. ج اعتبارات واقعية تخضع عملية المشاركة لحجم الإمكانات الذاتية ومدى الامتداد الجغرافي للحزب في الخريطة الوطنية، حيث أن تلاحق العمليات الانتخابية طيلة ما يناهز السنة الماضية (الانتخابات النيابية- انتخابات الغرف المهنية- الانتخابات البلدية- انتخابات المأجورين)، أدى لعمليات استنزاف حقيقي لأطر وخبرات وقواعد الحزب واستهلاكهم في قضايا تدبير الشأن العام، بالإضافة إلى أن محدودية نشاط الحزب في المجال القروي تحتم ضبط سقف المشاركة في حدود الإمكانات البشرية والحذر من الترشيح الجزافي. بكلمة، إن تدبير المشاركة المحدودة نتج عن تفاعل رؤية تصورية في المشاركة السياسية مع تقديرات ذاتية وإكراهات سياسية، واستطاع بهذا التدبير أن يحقق نتائج نوعية بتصدره لنتائج أزيد من ثلاثين دائرة ومقاطعة، وتحقيقه لنتائج مفاجأة في الدارالبيضاء والتي لم يشارك إلى في ثمانية مقاطعات من أصل 16 مقاطعة، إلا أن عملية تدبير التحالفات لم تخضع لنفس القراءة والمعطيات . التحالفات السياسية للحزب وخيار المشاركة أبانت حصيلة المجالس المشكلة عن فعالية سياسية مقدرة للحزب، حيث استطاع ضمان حضوره في أزيد من خمسين مجلس جماعي ضمنها إحدى عشر مجلسا يحتل فيها موقع الرئاسة، وأن يعزز وجوده في ثلاث مدن من أصل ست اعتمد فيها نظام وحدة المدينة (الدارالبيضاء والرباط وسلا)، وقد جاء ذلك نتاج ثلاث عناصر كبرى: - أولا، المنهج الذي أطر التحالفات والذي خضع لحسابات محلية وذاتية ولم يرهنها لحسابات حكومية أو حزبية ضيقة، بل ربط الأمر بدعم الأصلح والأكفأ، والحرص على المشاركة في تدبير الشأن المحلي، واعتبار ذلك مقدمة لتجسيد البرنامج السياسي الإصلاحي للحزب، وتفويت الفرصة على رموز الفساد والاستئصال، وهو ما أتاح للحزب مرونة وفعالية لم تتقيد بتحالفات حكومية أو اتفاقات مسبقة، كما قدم صورة إيجابية عن القدرة على التكيف والتنازل عند الضرورة ( حيث قدم تنازله عن الرئاسة في عدد من المجالس لضمان تشكيل تحالفات قوية) ، وعدم التصلب في المواقف ( حالة الدارالبيضاء التي قبل فيها بتنازل محمد ساجد لكريم غلاب في مرحلة أولى)، - ثانيا، الفراغ القائم في التحالفات المضادة له، في ظل عجز الأغلبية الحكومية عن تدبير تناقضاتها، وهيمنة النزعات الضيقة والمصلحية عند مكوناتها، - ثالثا، الانضباط العام لمنتخبي الحزب والارتباط بتنفيذ توجهات الحزب وعدم الخروج عنها، وفي الوقت ذاته فعالية سياسة تفويض القيادات الحزبية المحلية وعدم استفراد القيادة المركزية للحزب بقرارات إمضاء التحالفات، باستثناء كل من الدارالبيضاء والرباط، لا يعني هذا أن حصيلة الحزب كانت مرضية بشكل مطلق، فقد حصلت بعض الأخطاء المحلية بفعل قصور التفاعل السريع مع المتغيرات والمستجدات، كما أن غياب فعالية أكبر عند القيادة الحزبية في دعم التحالفات المحلية ساهم هو الأخر في فقدان عدد من المجالس، فضلا عن غياب إعداد مسبق ومحكم لملفات التحالفات، والاتفاق على أرضية عامة في انتظار نتائج الانتخابات. خلاصة تبعا للمعطيات والمؤشرات السابقة نعتبر أن الرهانات التي أطرت مشاركة حزب العدالة والتنمية في الانتخابات الجماعية ل12 شتنبر أكبر من أن تربط بحسابات المشاركة الحكومية أو بتحالفات حزبية محلية، بل على العكس من ذلك فقد خضعت لحسابات أخرى انبثقت عن منهج المشاركة السياسية الذي يحكم الحزب من جهة ، وبإكراهات التكيف مع متغيرات الوضع السياسي بعد 16ماي من جهة أخرى، كما أنها ضاعفت من حجم التحديات المطروحة على حزب العدالة والتنمية، سواء في تدقيق مشروعه السياسي والاجتماعي، أو في علاقته بالفاعلين السياسيين والحزبيين، أو في علاقته بالحكومة، أو في تأهيل قدراته وإمكاناته. مصطفى الخلفي