لئن أوقف القرار الملكي بتعيين وزير الداخلية ادريس جطو وزيرا أولا للحكومة المقبلة، سلسلة المبادرات الحزبية الهادفة لتأمين التحالفات المطلوبة لتشكيل الحكومة، فهو في الوقت نفسه أعطى انطلاق نقاش سياسي وطني لفهم طبيعة القرار وعلاقته برهانات الإقلاع الاقتصادي والانتقال الديموقراطي. 1 قراءة في خلفيات القرار مع اشتداد حالة الاحتراب بين كل من حزبي الاستقلال والاتحاد الاشتراكي من جهة، وإعلان حزب العدالة والتنمية عن رفضه البات للمشاركة في أية حكومة يرأسها الاتحاد الاشتراكي، أخذت معالم أزمة سياسية حادة تطل على الأبواب، وتوفر المناخ الموضوعي لنشوء اتجاه ثالث في اختيار الوزير الأول، يقع معه تجاوز الطبقة الحزبية باقتراح شخصية غير حزبية لقيادة قاطرة العمل الحكومي في السنوات القادمة. لقد نشأت بذلك وضعية سياسية غير مسبوقة، فبعد انتخابات أجمعت القوى السياسية الكبرى على نزاهتها، وتلقت إشادة خارجية قلما تصدر عن القوى الغربية (وعلى رأسها كل من الولاياتالمتحدة، وفرنسا، وبريطانيا) على انتخابات الدول العالم ثالثية، تم الاستنكاف عن تعيين الوزير الأول من الأحزاب الأولى، فما هي الحيثيات المفسرة لذلك. يمكن القول إن هناك ثلاثة عناصر كبرى، قد تساعد على تفسير هذه الضعية غير المسبوقة، وهي: استباق لحالة احتقان سياسي حزبي، أخذت تتشكل إرهاصاتها بالتقاطب الحاد بين حزبي الاستقلال والاتحاد الاشتراكي، ذلك أن التحالفات التي نسجت حول كل واحد منهما، أوصلت إلى وضعية تقاطب، يصعب على أي واحد منهما تأسيس الأغلبية المطلوبة للحكومة المقبلة، بما يهدد الدخول في حالة من اللاستقرار الحكومي، في وقت أصبح فيه من الملح الانخراط في تأهيل سياسي شامل للبلاد، يمكنها من التوفر على مؤسسات سياسية قوية. استكمال لمسلسل سياسي عرفه المغرب منذ مطلع غشت 2001، وارتبط بعملية التعيينات التي طالت حوالي 14 مؤسسة عمومية وولاة سبع جهات تمثل الجهات المفصلية في البلاد، ثم جاءت الرسالة الملكية حول الاستثمار في يناير 2002 وما أْعطته من صلاحيات واسعة لولاة الجهات من أجل الإشراف على برامج الاستثمار والتنمية الاقتصادية بالجهات، وبموازاة ذلك، كان هناك حضور قوي في تدبير الاستحقاقات الانتخابية يضمن إفراز خريطة سياسية مساعدة للمضي في هذا المسار، مع الإشارة إلى سيادة نقد حاد لضعف الأداء الحكومي وتخلفه عن مواكبة التوجهات الاقتصادية وضعف تفعيله وتنفيذه للإجراءات المعلنة، ثم سحب الملفات الكبرى من يد الحكومة الواحد تلو الآخر. الاستعداد لمواجهة التداعيات المستقبلية للمؤشرات الاقتصادية السلبية الحالية، حيث تبين خطأ التقديرات حول التحكم في العجز الخاص بميزانية 2002، والذي يقدر حاليا ب 10% لعدم ورود المداخيل الاستثنائية (الخوصصة)، فضلا عن تراجع الموارد ب 26%، وهي مؤشرات تفرض برنامجا استعجاليا لتدارك الوضعية قبل فوات الأوان. الخلاصة هي أن تعيين إدريس جطو وزيرا أولا هو بمثابة تجاوز لحالة من الازدواجية السياسية أخذت تعرفها البلاد منذ مدة ليست باليسيرة، وذلك بين حكومة تكنوقراطية في الظل لكنها قوية، وحكومة سياسية حزبية في العلن لكنها ضعيفة، وهي ازدواجية يصعب الاستمرار فيها، ولابد من حسمها إما لصالح أحدهما أو لصالح الجمع بينهما، ويظهر أن الخيار الثاني هو الذي تم السير فيه. إن تحليل العناصر الكامنة وراء هذا التوجه، تبرز طابعه الاستراتيجي فهو ليس مسألة ظرفية تكتيكية، جاءت لعلاج إشكالية طارئة، في الحياة السياسية المغربية، يمثل أفقا لتجاوز أزمة الفعالية التدبيرية عند الطبقة السياسية الحزبية، وهو ما يطرح سؤالا عميقا على رهان الانتقال الديمقراطي بالمغرب في علاقته برهان الإقلاع الاقتصادي وهي إشكالية حادة شهدتها عدد من تجارب الانتقال الديمقراطي في العالم، وتختزل في جدلية الشرعية والفعالية، وكان من أبرز عناوينها حالة دول أمريكا اللاتينية، حيث أن الحكومات التي تفرزها صناديق الاقتراع وتحوز بالتالي على الشرعية الانتخابية تعجز في المقابل على حل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، مما أفرز معادلة معقدة في كيفية الجمع بين الشرعية والفعالية، وهي معادلة أخذت تعرف طريقها بشكل جنيني إلى بلادنا، وتفرض ضرورة معالجتها قبل استفحالها، ونقدر أن عملية تعيين وزير أول بكفاءة تدبيرية وازنة مع توجيهه نحو تشكيل حكومة تشمل كافة القوى السياسية المعتبرة ويتم توفير كافة الشروط الإيجابية لاشتغالها، يمثل خطوة في معالجة هذه الإشكالية. حزب العدالة والتنمية والخيارات المتاحة أفرزت نتائج الانتخابات النيابية لشتنبر 2002 وضعية جديدة عند الحركة الإسلامية بالمغرب عموما وحزب العدالة والتنمية خصوصا، واستيعاب أبعاد هذه الوضعية الجديدة، والعناصر الفاعلة فيها، يمثل أحد زوايا معالجة التعاطي السياسي المطلوب مع تحديات المرحلة واستحقاقاتها، إجمالا والوضعية الناجمة عن تعيين إدريس جطو وزيرا أولا للحكومة المقبلة تحديدا. أسهم المسلسل الانتخابي الذي عرفته بلادنا، بدءا بالمشاورات حول "الإصلاح الانتخابي" في شتنبر 2001 وانتهاءا بالمشاورات الحالية حول هيكلة مجلس النواب والتحالفات الحكومية، في الانتقال بوضعية الفاعل السياسي الإسلامي في شخص حزب العدالة والتنمية وسنده المدني حركة التوحيد والإصلاح إلى مرحلة جديدة، بتوازنات وأولويات ورهانات مغايرة للمرحلة السابقة، ويمكن حصر عناصر هذه الوضعية في خمس مستويات: الانتقال إلى حالة سياسية جماهيرية تتجاوز الدوائر الضيقة لأبناء الحركة الإسلامية، نحو مجالات وفئات اجتماعية متباينة في اهتماماتها وأوضاعها، وهو ما يشكل في العمق، قفزة في المسار الاجتماعي للحركة الإسلامية، بدمجها أكثر في قضايا الشأن العام والجماهيري. التحول إلى طرف أساسي في المعادلة السياسية المغربية، يمتلك القدرة على ترجيح التوازنات والتأثير في مسار التحالفات السياسية، باعتباره القوة السياسية الثالثة بمجلس النواب، وعلى الرغم من كونها وضعية نسبية ترتهن لتعدد مراكز القرار السياسي وللتفاوت الحاصل بينها في النظام السياسي المغربي، فهي تبقى ذات وزن سياسي مؤثر على عملية التطور الديموقراطي بالبلاد. التمكن من الاحتواء الجزئي لسياسة تحجيم الفاعل الإسلامي بالمغرب، والحد من تنامي فاعلية السياسة الجماهيرية، وهي سياسة برزت إرهاصاتها منذ أحداث منع المخيمات المؤطرة من الحركة الإسلامية في صيف 2000، واكتسبت دعما خارجيا قويا بعد أحداث الحادي عشر من شتنبر 2001، وأرست لها كهدف واضح الحيلولة دون أي اكتساح إسلامي للانتخابات، وانعكس ذلك على عملية مراجعة الإطار القانوني المنظم للانتخابات، من قبيل عدم إقرار مراجعة شاملة للوائح الناخبين، ورفض تخفيض سن التصويت إلى 18 سنة، واعتماد تقطيع انتخابي معقد، فضلا عن إفراغ نمط الاقتراع باللائحة من فاعليته عبر تقليص عدد المقاعد في اللائحة إلى ثلاث وأحيانا إلى مقعدين، مما جعل عددا من المتتبعين يعتبرونه بمثابة اقتراع فردي باللائحة أو اقتراع إسمي باللائحة. وإلى جانب آليات التحكم القانوني، عرف المشهد الإعلامي الأمني انطلاق حملات مناهضة للحركة الإسلامية، لا سيما فيما تعلق بقضايا "السلفية الجهادية" و"التكفير والهجرة"، حتى أصبح من المستبعد حصول تقدم كبير للإسلاميين في الانتخابات، لا سيما بعد إعلان قيادة الحزب عن قناعتها الذاتية بتخفيض سقف مشاركتها الانتخابية وحصر الدوائر المغطاة في 56دائرة من أصل 91. في هذا السياق، كان للنتائج التي حصلها الحزب وقع المفاجأة ليس فقط في أوساط الحزب بل عند عموم الطبقة السياسية، وشكلت معطى جديدا، قلب رهانات اللوبي المناهض للحزب، وفرض تغييرا في الخطاب والتعامل مع الحزب حتى من لدن زعامات حزبية مناوئة، وهي تطورات تعبر عن حصول احتواء جزئي لسياسة التحجيم. تجاوز رهان بناء وتأمين الأداة السياسية للعمل الحزبي الإسلامي إلى رهان الفعل الجماهيري والشعبي، وهو ما يمثل نقلة في المشروع الاستراتيجي للحركة، حيث أن الرهان الأول حكم السير العام لها طيلة عقد التسعينات ورهن تطوره وعلاقاته ومبادراته، أما الرهان الثاني، فيرتبط بقضية الانخراط في تدبير الشأن العام والإسهام في العمل الحكومي، وما يستتبعها من إدارة التحالفات السياسية والتفاعل المرن مع تحولات العلاقات الحزبية، وهي قضايا كانت مؤجلة، وغير مطروحة بشكل ملح على الأجندة اليومية للحزب، ورغم المناقشات التي كانت تتم حولها، إلا أن الحسم كان يرجأ لما بعد والانتخابات، مثلما حصل في اجتماع المجلس الوطني ما قبل الأخير للحزب في موضوع التحالفات. وعلى صعيد آخر، فإن "التحول" الذي عرفته الساحة السياسية في النظرة للمرجعية الإسلامية بالمغرب، وإعادة الاعتبار لها، واعتبار بعض الجهات أن مصادمتها هي أحد أسباب تقدم الفاعل الإسلامي في الانتخابات، تمثل أحد عناصر هذه الوضعية الجديدة، ذلك أن من الرهانات الكبرى للحزب في المرحلة السابقة تركيز الجهد من أجل استعادة مكانة المرجعية الإسلامية في توجيه السياسات الحكومية، ومناهضة الجرأة المتنامية على انتهاك أحكامها ومبادئها، وهو ما كان محط معارك كبرى في البرلمان السابق، وخارجه ويمكن القول أن هذا الرهان تم كسبه بنسبة مقدرة، لا سيما بعد أن أصبح يشكل معطى محددا في توجيه السلوك الانتخابي لقاعدة وازنة من الناخبين، أي أن الحزب يجد نفسه أمام مرحلة جديدة تقتضي التقدم لاستثمار هذا المكسب والعمل من أجل تنزيله في شكل برامج وسياسات تفصيلية. إن مجموع هذه العناصر الخمسة، يمثل جوهر المكاسب السياسية الأساسية للحزب في الانتخابات الأخيرة، وسيحدد منهج التعاطي مع الوزير الأول الجديد، درجة ومدى التقدم في صيانتها وتطويرها، وذلك أن هذا التعيين بقدر ما حمل معه إيجابيات من قبيل عدم تحمل الاتحاد الاشتراكي للوزارة الأولى، والحيلولة دون تورط حزب العدالة والتنمية في الاصطفاف السياسي والحكومي إلى جانب أحزاب ذات ماض سيء في التدبير الحكومي مما قد ينعكس سلبا على المصداقية الجماهيرية للحزب، فإنه في المقابل يطرح مسؤولية كبيرة على الحزب حيث انتفت عدد من الحيثيات التي كانت تعوق مشاركته في العمل الحكومي، لاسيما وأن التعيين الذي تم يحمل عناصر إيجابية وذلك بالنظر لما ورد في البلاغ الصادر عن الناطق الرسمي للقصر الملكي من حرص على إشراك كافة القوى السياسية في رفع تحديات التنمية من جهة، وإعلان عن تركيز الجهد حول أولويات اقتصادية واجتماعية من جهة أخرى، فضلا عن تميز الوزير المعين في كفاءته التدبيرية، أي أن الخيارات المتاحة أمام الحزب تجاه الانخراط في تدبير الشأن العام قد تحسنت لصالح خيار المشاركة في الحكومة، وهو ما يتطلب جرأة وتفكيرا عميقين في طبيعة هذه المشاركة والشروط المرتبطة بها، فضلا عن كيفية تدبيرها، وذلك بهدف التكيف وامتصاص الإكراهات المؤطرة للعمل الحكومي والمرتبطة أساسا بالتعقيدات الدستورية والقانونية من جهة أولى، واحتواء إرادة ضرب مصداقية الحزب من خلال توريطه في ملفات حكومية معقدة، وفي الوقت نفسه عدم تمكينه من الشروط المالية والإدارية والسياسية لتسويتها من جهة ثانية، والقيام بعملية تأهيل تنظيمي وهيكلي شامل للحزب من جهة ثالثة. مصطفى الخلفي