تشهد الساحة الثقافية المغربية ظروفا عصيبة تتميز بتصدع بنيان الذات الاجتماعية، وتمزق روابطها العضوية التاريخية وتشتتها، على اثر انغماسها في فيض وسيولة ثقافة استهلاكية هجينة، تصرف العضو الاجتماعي عن قضاياه وانشغالاته السياسية والاجتماعية المحلية، إذ يعيش مغتربا في وطنه، وأحيانا بعيدا عن واقعه، تائها بين فضائيات تسافر به عبر الزمان والمكان، وتغذيه أحلاما وردية بالوكالة عن طريق تمثلات لأبطال تخيليين، يعملون كبدائل للذات الاجتماعية المحرومة؛ فيعيشون نيابة عنها قصص الحب والغرام، والمغامرة والعنف، وجميع الأدوار البديلة التي من شأنها أن تخفف عن الذات الاجتماعية وطأة الواقع المحتقن بالتوترات والمعاناة والقهر والإحباط، لكن هذه الأدوار تشكل في الوقت نفسه خطرا على الذات بإمكانية استلابها وسبيها إلى عوالم أفيونية، قد تستنسخ منها ضباعا بالمعنى الدارج للكلمة، تابعة، خاضعة، منبطحة، مخدرة، منومة مغناطيسيا، تغني وتهتف وترقص على أنغام نير الهيمنة، غير مدركة أنها مستغلة، ولا تأكل ثمار جهودها. ونسترشد في قراءتنا للمشهد الثقافي في المغرب، بالموقف السياسي المضاد للهيمنة الذي يتبناه أعضاء مدرسة فرانكفورت كأدورنو ولوينثال وهوركهايمر، إذ يعتبر أن الثقافة الاستهلاكية تسوق سلعا تحول مشاهديها إلى قطعان من المستهلكين المتلهفين، لا يستطيعون سوى الرضوخ أو خوض معارك وهمية زائفة ضد الهيمنة المستبطنة. وسنحاول في هذه القراءة تحليل "الانسلاخ الفكري" الناتج عن تأثير الثقافة الاستهلاكية الرأسمالية في المغرب، عن طريق مقاربة ثقافية مادية للأسباب الكامنة وراء تحول شرائح واسعة من المجتمع المغربي من الاقتداء بنماذج ثقافية عضوية محلية تجسدت في اقتصاد إنتاجي مرتكز على المعرفة والعلم والعمل و الجرأة والشجاعة والمجازفة إلى الإيمان بأصنام ثقافية حديثة هجينة، تعتمد على الترفيه والاستهلاك، و تلهم معتنقيها بالتراجع عن مخاطر المقاومة السياسية. و يحدث هذا كله في غياب سياسات وطنية، ينبغي أن تحدد كيفية تعامل المؤسسات الإعلامية مع الثقافة التسويقية، المحلية منها و المستوردة، و تعالج القضايا الثقافية، والمخاطر السياسية التي تصاحب لا محالة الاستهلاك الأعمى للمنتجات الثقافية الأجنبية المستوردة. ينبغي أن يكون هناك حوار وطني يناقش قضايا التواصل الإعلامي بجميع أشكاله، ويطرح مشاريع محددة حول نوع الإنتاج الإعلامي الذي يجب أن يؤثث المجال العام في المغرب، وذلك من أجل بناء تشكيل اجتماعي ديمقراطي، يستطيع مواجهة التحديات المتعددة لصدمة الحداثة و أبعادها. ونتساءل في هذا الصدد، عن نوع السياسات التي نهجتها الحكومات المغربية في تسييرها للفضاء الإعلامي، هل لدى الدولة تصور أو نظرية واضحة عن كيفية عمل وسائل الإعلام في المجتمع المغربي؟ يجب أن نلفت النظر هنا إلى أنه لا بد للسياسات السلطوية في إدارة الشأن الإعلامي، والتي ترتكز على الرقابة والتعليمات من الأعلى إلى الأسفل، أن تضمحل وتختفي من المجال العام، لأن ثورة الإنترنت قد بدأت في تحرير عالم المعلومات من سيطرة الدولة، و أولجت المستخدمين في أشكال جديدة من التواصل الاجتماعي. ولقد اعتمدت معظم البلدان النامية التي انتبهت حكوماتها إلى أخطار قضية التثاقف، خاصة في آسيا وأمريكا الجنوبية، سياسات ترتكز على نظرية المسؤولية الاجتماعية والنظرية التنموية اللتين تقوم وسائل الإعلام في إطارهما بأداء دور تحسيني للثقافة و اللغة الوطنية. وقد طورت هذه السياسات الوطنية وسائل الإعلام التي أضحت تلعب دورا طلائعيا في مجال التنمية الاجتماعية والتعليمية، وبالتالي تساهم في تنمية اقتصاديات بلدانها الإنتاجية، ومقاومة التأثير الثقافي للإمبريالية الغربية. في الماضي، كان الاستعمار الغربي يحشد فرقا من جيوشه، ويقوم بمهاجمة بقية العالم وغزوه، وقد حدث هذا الغزو الأوروبي في القرن التاسع عشر بإفريقيا، لكن الاستعمار الغربي اليوم، لا يحتاج إلى الكثير من مسحوق البارود، والعتاد، والخسائر البشرية، لأن الغزوات الاقتصادية والثقافية أصبحت جد فعالة إلى حد بعيد، بالرغم من أن ما يقع في الشرق الأوسط من تقتيل وتذبيح في الشعوب العربية يقول لنا خلاف ذلك، فعمل الشركات متعددة الجنسيات، والعابرة لحدود الدول والقارات، والثقافة الجماهيرية (mass culture) المصاحبة لها، قد تمرر الإيديولوجيات السائدة و توجه المواقف الاستهلاكية للمجتمعات التابعة لها. يجب أن نعي أن هناك أكثر من طريقة واحدة لاستعمار بلد ما، وإذا أخذنا على سبيل المثال، الاستثمار الاقتصادي التركي في المغرب، وازدهار حركة السياحة بين البلدين، نلاحظ أن الأفلام التركية لعبت دورا أكثر فائدة من السياسة التركية في هذا المجال، إذ نجحت هذه الأفلام في تنويم شريحة اجتماعية كبيرة من الجماهير، و جذبها إلى استهلاك المنتجات التركية، وأفضل مثال للسيطرة الثقافية التركية على جماهير المشاهدين اللاواعيين، واللامستنيرين، و اللامثقفين، هو تقبلهم المنوم لنمط حياة البرجوازية التركية. ويجب أن نكون واضحين بصدد هذه النقطة، وذلك بالقول إن الثقافة الجماهيرية التركية ليست سوى مجرد ناقل يعيد إنتاج الثقافة الغربية، بدلا من أن تكون في حد ذاتها قوة ثقافية إمبريالية أصلية. وقد كشفت الأفلام التركية عن ميل ثقافي إلى نماذج لباس متأثرة بالبرجوازية الغربية، تماما كما هو الشأن في حال الممثلة توبا بويوكوستن المشتهرة في العالم العربي بأدائها لدور "لميس"، إذ أثرت في العديد من الفتيات المغربيات بلباسها ومظهرها التركي العجمي، فقلدنها ليس فقط في اللباس و أسلوب تسريحة الشعر، بل أيضا في نسخ سلوكياتها البدنية والاجتماعية. وتشاهد مؤخرا انتشار سلسلة سوبر ماركت بيم التركية منخفضة الأسعار في المدن المغربية، حيث تصادف حشودا من المستهلكين، وبصورة رئيسية ربات بيوت منومة ومنبهرة بالأسلوب التركي في الحياة، تتدافعن فيما بينهن يوم الجمعة عند عتبات أبواب محلات بيم قبل ساعات العمل، ليجدن طريقهن داخل هذه المتاجر، ولو افترضنا أن تجارا صينيين عرضوا منتجاتهم للبيع داخل هذه المحلات، فبالتأكيد لن يكون عليها هذا الإقبال و الاندفاع المنقطع النظير من قبل المستهلك المغربي، ومن سخرية القدر، أن معظم المنتجات المعروضة للبيع يوم الجمعة داخل هذه المتاجر التركية مصنعة في الصين. وتعد الصالونات التركية آخر الابتكارات الثقافية التي اكتسحت الساحة المغربية مؤخرا، فموردو الأثاث، وصانعو الصالونات و المفروشات المنزلية يقومون الآن بعرض صالونات و غرف نوم على الطريقة التركية لتلبية الطلب المتصاعد على هذه البدعة الشعبية الجديدة. إننا بطبيعة الحال نعتقد في المشاعر الديمقراطية للذوق، لكننا نشاهد تعديلا ساذجا و متسرعا للخطاطة الثقافية للتسوق لدى العديد من الزبناء المغاربة، و التي قد تعرض الإنتاج المحلي، الصالون المحلي (البلدي) مثلا، لخطر ضياع معانيه وتيهها، كما يمكن أن تؤدي إلى انقراض موارده ومهاراته وخبراته واستخداماته الاجتماعية. وتنطبق هذه الملاحظة نفسها على الأزياء والملابس المغربية التي أخذت الآن منحى الأسلوب التركي من قبل مصممي الأزياء ناهيك عن الأسلوب الغربي، وذلك لتلبية الطلب المتزايد على هذا النوع من الثياب. وهذا يدل على خطر السينما. إن شعبيتها تجعل منها مصدرا خطيرا للفرجة، إذ تنطوي جل تمثلاتها وصورها ومعانيها على قيم الاستسلام في ظل ظروف اجتماعية محددة، وتلقي بالذات الاجتماعية في فوهة أرخص براكين النداءات العاطفية التي تنشر بمكر و دهاء إيديولوجيات الهيمنة الأجنبية الغريبة، المرتبطة بأوهام حية و مقنعة للحياة الفعلية، فتبدو العوالم الافتراضية واقعية ومألوفة . إن عامة الأعضاء الاجتماعيين، قد لا تدرك أن منتجا ثقافيا، مثل العلبة المعدنية لمشروب كوكاكولا الأمريكي، يمكن أن يكون أقوى بكثير من بندقية. إن البندقية قد تقتلك، لكن يمكن أن تموت بكرامة دون الخضوع للمستعمر، أما علبة كوكاكولا، فهي بمثابة ممغنط، يحيد المقاومة ويطبعن الهيمنة. إنها تسيطر على العداء الاجتماعي بتخدير الاحتجاج وإغبائه لدرجة أن العضو الاجتماعي، قد لا يلاحظ حتى عندما تختفي حريته منه. نحن لا نستهلك منتجات "خام " بمنأى عن يد الإنسان التي تصوغها في قالب ثقافي؛ إنها جميعها" مطبوخة"، شكلتها تصاميم وخطاطات ثقافية، فهي صور و تمثلات، نحن نستهلك صورا ملونة بتلوينات عدسات المشكال الثقافي (منظار النماذج المتغيرة: كليدوسكوب). إن إنتاج علبة كوكاكولا، وتوزيعها من قبل المؤسسات والهياكل الاقتصادية الأمريكية، قد يعيد تشكيل زبائنها المخلصين في هويات ثقافية موسومة بالعلامة التجارية لشركات كوكاكولا، وبعبارة أخرى، فتناول المشروب يصبح أسلوب حياة لا يأتي منفردا، بل ينصهر في منظومة استهلاكية تضم أفلاما متواصلة ممغنطة، وإعلانات إشهارية تخترق الفكر والجسد، و موسيقى تجهيلية تسلع وتسوق الحزمة الأمريكية الغربية " لكوكلة " المجتمعات العربية الاستهلاكية. ونتجاوز، في هذا الصدد، ما نادى به ماثيو أرنولد (1822-1888)، المثقف العضوي في إنجلترا إبان القرن التاسع عشر، و الذي أسس أجندة ثقافية كسبت الأرجحية حتى عام1950 ، إذ دعا أرنولد إلى تثقيف الجماهير بالاعتماد على "أفضل ما قيل وتم التفكير فيه"، وكان يعتقد أن حراثة أذهان الجماهير تستلزم زراعة بذور قيم الحضارة من فوق إلى أسفل، إذ يجب الاعتماد على ما أنتجته النخب من فكر وفلسفة وعلوم، ولم يعر اهتماما للثقافة العضوية للشعب، بل اعتبرها فوضى، ولنسمها فوضى إذن، فبالنسبة لنا، هي فوضى خلاقة، نظرا لأننا نتبنى مقاربة ثقافية من أسفل إلى أعلى، تؤمن بان الشعوب والجماهير مثقفة، أي لها القدرة على إنتاج ثقافة عضوية تمكنها من التواصل والتعايش والاستمرار، فتعريف الثقافة عند أرنولد يحمل في طياته المفهوم الانسناوي للمصطلح، وبالتالي يلغي الدلالات الانثربولوجية للكلمة. نحن نؤمن بالقدرة التعليمية لثقافة الشعوب العضوية بما فيها من تقليد فكري رفيع، ونعتقد أنه إذا لم تتطور المعرفة الثقافية الانعكاسية للذات لعلاج العلل المادية الجامحة، و الانطواء، و التشبث بالتقاليد، و الرضا الذاتي، فلن تحدث هناك صحوة فكرية، وستواصل العديد من القطعان الاستهلاك الأعمى للأشكال الثقافية الجماعية المهجنة، فتمسي ضباعا بما تحمله الكلمة من معنى في اللغة الدارجة المغربية، أي مغفلين ثقافيين )شنوكا/ ضحيكات/ كوانب)، ونسميهم ضباعا لأن معظمهم يعيش بدون وعي ثقافي لعلاقات السلطة داخل المجتمع، مخدرين، ممغنطين، منومين، لا حول لهم ولا قوة أمام الإغراءات الثقافية الجماعية الرخيصة. وندعوهم أيضا بالضباع لأنهم هزموا من قبل الاستهلاكية، إذ تلهمهم بالاستهلاك، و تثبط عزيمتهم بالاحتجاج، و تبعدهم عن كل مظاهر التفكير المسؤول، و بالتالي يسهل قوقعتهم، إن لم نقل سجنهم، في متاهات رأسمالية مناهضة للديمقراطية، يسود فيها الإدمان وتعاطي الأوهام، وتعذيب الذات، والتصويت والاستفتاءات الغوغائية، حيث يغيب الذوق المشذب ، وهذه كلها عوامل قد تؤدي إلى الاختلال الاجتماعي، والتلاعب "بالسجناء"، وإجبارهم على الاستمناء. تعتبر الضباع ابتكارات ثقافية حديثة في المغرب، فهي نتيجة توسع عالمي للهياكل الاقتصادية والشركات العملاقة متعددة الجنسيات، و الثقافة الجماهيرية الطفيلية الناتجة عن مد العولمة هذه، والتي قد غزت مؤخرا الساحة الثقافية بالمغرب، مرسلة عبر قنوات تسويقية شتى نذكر منها الفضائيات و شبكات الإنترنت. لقد شهد المغرب تآكلا لإرثه الثقافي العضوي بلا هوادة، فالطقوس والموسيقى وعروض الشوارع المرتجلة، والحلقيات المسرحية، والممارسات الثقافية العضوية الأخرى، جميعها تراجعت، وأفسحت المجال أمام أشكال ثقافية جماعية هجينة مستوردة، وعلى سبيل المثال، فالموسيقى العضوية للشعب تسوق الآن في ألحان هجينة ورخيصة، الغاية منها تنويم الجماهير وإبقاؤها تحت السيطرة. إن المجتمع المغربي، للأسف، عرف انحرافا غير عادي في رصيده الثقافي العضوي المنتج من قبل الشعب؛ إذ انتقل، على سبيل المثال، من صناعة المسرح الشعبي و "الحلقة"، بوصفها فضاءات اجتماعية للسرد والحكي والترفيه الفكري، إلى استهلاك سلع الإدمان التسويقية، فأغلقت الكثير من مباني المسرح والقاعات السينمائية المجهزة بشكل احترافي، أو تم هدمها وتحويلها إلى مراكز للتسوق، و أضحت السلع الثقافية الجديدة الضامن الأساسي، والكفيل باحتواء الضباع. لقد أصبنا بخيبة أمل، حينما اكتشفنا أن الموارد الثقافية المستوحاة من الماضي المحلي القريب والبعيد، والتي يمكن أن تمنح المغاربة روح المقاومة للهيمنة (أغاني خربوشة، على سبيل المثال)، تم تحويلها تدريجيا إلى ميادين لإنتاج سلع ثقافية، تساعد المؤسسة المخزنية على أن تشن حربا باردة ناجحة مكافحة للوعي الثقافي، وقائمة على الاحتواء. هل يمكن لأي شخص أن يصدق أن الذوق المغربي الأصيل، و المصقول من قبل ألحان المقاومة الحقيقية من أغاني الملحون والعيطة والغيوان، سيتدهور الآن في أشكال رخيصة مقلقة من الفن الشعبي (أغنية الداودية "عطيني صاكي"، آخر مثال)، الذي أضحى مجرد تكرار يؤدي بجماهيره العاشقة إلى إسعاد مؤقت نظرا لتعرفها على المألوف واستئناسها به، و يدعو إلى الانحدار النفسي إلى الطفالة. و في واقع الأمر، لقد تسببت الصناعة الثقافية في الكثير من الضرر لثقافتنا الشعبية، حيث أنها قتلت النماذج الثقافية المنبثقة من ماضينا المحلي، والتي تتمحور حول العمل والتقوى والمعرفة. إن الثقافة العضوية للشعب تستخدم السير الذاتية لعلماء الدين والأولياء، والمفكرين والمكتشفين مثل ابن بطوطة، والقديسين، والمجاهدين مثل عبد الكريم الخطابي، أما في الوقت الحاضر، فلقد غيرت دفة الثقافة المعاصرة مسارها نحو نجوم السينما، والشخصيات الرياضية، ورموز الترفيه، وهذا التغير الاجتماعي يعكس التحول من اقتصاد الإنتاج إلى اقتصاد الاستهلاك و الترفيه. إن سير العلماء والأولياء شددت على الطبيعة غير العادية لتلك النماذج الثقافية وإنجازاتها، حيث ركزت على المعجزات التي حققتها بالنسبة للمجتمع، وعلى الابتكارات الثقافية التي تركتها للإنسانية، أما الآن، فقصص الحياة تتحدث عن حياة عادية للنماذج الثقافية الترفيهية، بما في ذلك معلومات حول العلامة التجارية للسجائر التي تشربها، أو نوع السيارة التي تركبها. ونتساءل هنا، كيف يمكن لمثل إيديولوجيات الترفيه الرخيص هذه، أن تؤسس لنا نماذج ثقافية مثالية للجرأة والشجاعة والمخاطرة والعمل، والتي نحن في حاجة ماسة إليها قصد الاستمرار في بناء مجتمعنا واقتصادنا؟ نحن نجادل بأن إيديولوجيات الترفيه تساهم في الحفاظ على علاقات الهيمنة غير المتكافئة في المجتمع، وتعزز سياسات الاحتواء بسحر الجماهير وإغلالها، ثم استدراجها بعيدا عن الاهتمامات الاجتماعية والسياسية. دعونا نرى كيف يتم استهلاك كرة القدم بالمشهد الثقافي المغربي. في الوقت الحاضر، تعتبر المقاهي المغربية ملاعب محلية جديدة للجمهور الواسع و المتزايد لهذه الرياضة، حيث أن معظم المقاهي تشتري انخراطات سنوية في شبكة قنوات بي ان سبورت العالمية، والتي هي في حوزة مستثمرين قطريين، وتقوم بوضع شاشات كبيرة على جدرانها لتمكين زبنائها من مشاهدة مباريات كرة القدم الدولية والوطنية بشكل مستمر على مدار الأسبوع. إن فرجة كرة القدم بدأت تنمو في أوروبا كاستثمار لرأس مال متعدد الجنسيات، ويتم تصديرها لجميع أنحاء العالم، و يبرز المغرب في هذا الصدد، كأرض تسويقية خصبة لنمو شريحة واسعة من جمهور كرة القدم والمشجعين. في الواقع، تساهم كرة القدم الأوروبية إلى درجة كبيرة جدا في الحفاظ على الاستقرار الاجتماعي في المغرب، من خلال تقديم المتعة الاستمنائية الوهمية السرابية إلى جيش من الحاقدين العاطلين عن العمل، إذ هناك ثقافة شبابية لكرة القدم تتنامى في المغرب، عن طريق تبادل أشرطة الفيديو، والدردشة حول قضايا كرة القدم، ورصد أخبار اللاعبين و التقصي عن مشوارهم المهني، وأحيانا عن حياتهم الخاصة، والقيل والقال حول خطط المباريات، وهكذا يبدو أن جزءا كبيرا من حياتهم يستهلك على كراسي المقاهي و الشاشات الرياضية، وأعقاب السجائر وملاعق القهوة، فالكثير منهم اشتد وغدا ضليعا في الحديث عن كرة القدم، بينما يرتع جزء كبير من هؤلاء الشباب في الجهل السياسي، و لا يعدو مهتما بالقضايا الاجتماعية. لقد أصبحت كرة القدم بصفة عامة حيلة من حيل الحكم، تستخدم جنبا إلى جنب مع غيرها من المناورات والاستراتجيات للحفاظ على التوازن الاجتماعي، ففي العالم العربي، قام بعض الحكام بنقل كرة القدم إلى الصدارة من أجل سحر الجماهير وأسرها ، حيث قد يخفض هؤلاء الحكام النفقات المتعلقة بالرعاية الاجتماعية، و قد يقلصون ميزانيات التعليم، لكن دائما يدعمون ويعززون البنية التحتية لكرة القدم، فبالنسبة لهم، يعتبر المنتخب الوطني المحك الأعلى، إذا فاز في مباراة رسمية قارية، فإن كل الثناء والمجد يذهب للحاكم، إذ أن صوره تجوب الشوارع جنبا إلى جنب مع الأعلام الوطنية، فترمز إلى وحدوية المجتمع، وتماسكه في ظل حاكمه، من خلال انتصار وهمي سرابي سوق لجماهير الضباع باعتباره إنجازا تاريخيا. في الماضي، غير الحكام التاريخ بحكم اعتمد على اقتصاد إنتاجي مؤسس على العلم والابتكار والحرب، أما بعض حكام العرب اليوم، فيسعون إلى تحقيق النصر الاستهلاكي السريع في مباريات لكرة القدم، و يهلون علينا بوصفهم غزاة و منتصرين، إذا فازت فرقهم الوطنية في بطولات قارية. ما هذا التقهقر والتدهور الذي انحدرت إليه نماذجنا الثقافية العربية المحلية؟ إن هناك الكثير من الشباب المغربي الذي يتوهم الأصنام الثقافية في لاعبي كرة القدم والرياضيين و نجوم الموسيقى، بل قد يقتدي بهم كأمثلة ويحذو حذوهم، وظهرت في هذا الإطار، صناعة ثقافية متخصصة في خلق الأصنام الثقافية الاستهلاكية في العالم العربي، فستوديو آراب ايدل واستديو دوزيم، هما خير مثالين عن كيف يتم تسويق وهم النجومية والشهرة السريعة لجمهور ساخط على المظالم الاقتصادية والسياسية، إذ يمكن لشباب متعطش إلى الشهرة، أن ينضموا لبضعة أسابيع إلى مثل هذه البرامج، و بعد ذلك، قد يصبحون نجوما في عالم الموسيقى، خصوصا إذا فازوا في المسابقة، وتم منحهم شهادة الاعتماد من قبل أقلية من قدامى شرطة الفن. ويبدو أن مثل هذه البرامج الترفيهية قادرة على خلق التشويق، وإثارة الحماس و خفقان القلوب، لكنها في الوقت نفسه تسلع وتسوق كلا من الفنانين، وأطر البرنامج، وجمهوره. إن استوديو دوزيم، على سبيل المثال، بنجومه و معداته ومساحة خشبته، منغمس في لون الطلاء الأرجواني الذي يرمز إلى تسويقهم جميعا من قبل شركة إنوي، أيضا الداعم للبرنامج، فالجهد الذي يبذله المطربون والمرشحون وبقية طاقم البرنامج، والمكالمات الهاتفية التي يقوم بها أنصار المغنين ومعجبوهم، كل هذا الجهد والتوتر لدى المشاركين والجمهور على الهواء مباشرة، يتم تسويقه كبضاعة، ويدر أرباحا طائلة على شركة الهاتف انوي. و بعد كل هذا التعب، يظهر المرشحون محتجزين في شكل سلع يتم الاتجار فيها من أجل الربح لفائدة الشركة الداعمة، وهذا ما أوحى لمنظري مدرسة فرانكفورت بالقول، إن الصناعة الثقافية أو الثقافة الجماهيرية على العموم، تتلاعب بالأعضاء الاجتماعيين، إذ تجردهم من أي شكل ثقافي قابل للمقاومة. وإذا تجرأ احدهم أن ينخرط فيما يشبه المقاومة، لا يعدو كسلعة تسويقية سوى أن يشارك في مقاومة زائفة . هاهنا، نطرح هذا السؤال: كيف يمكننا بناء مجتمع مسؤول يعتمد العمل الشاق والمثمر، ومع ذلك نعطي الأولوية لنماذج ثقافية استهلاكية؟ إن أصنام كرة القدم والموسيقى وصفات سريعة مطبوخة تحت الضغط للاستهلاك من قبل الضباع الثقافية التي قد تتصور بحكم شبع الهلوسة هذا، أن النجومية السريعة والتحول السحري للمصير، أصبحا من الأدوات الناجحة لتحقيق الذات، وهكذا يتم تشكيل الضباع اجتماعيا بوصفها ذاتا سياسية متوافقة ومندمجة بسهولة في النظام، حيث تسلم نفسها دون قيد أو شرط إلى الدولة ذات وسائل الترفيه الثقافي المنومة، لكن دعونا نتذكر، أن الاحتواء ليس أبدا هو الهزيمة . وللحفاظ على استقرار المجتمع المغربي، لابد من ثورة ثقافية تنطلق من الأسفل إلى الأعلى لمنع الفوضى، وقطع الطريق على زحف سلاح الاستهلاك. إن إصلاحا بنيويا مبحوثا، ممنهجا، ممنوحا هو أفضل من إصلاح ينتزع بالقوة. إذن، لنعط أهمية كبيرة لتعليم الجماهير، عن طريق غرس ثقافة محلية مؤسسة على مبادئ المواطنة، والتي يمكن من خلالها استيعاب القيم والدلالات في سياق الحياة اليومية، والاستثمار في المعاني المحلية والممارسات المألوفة، وهكذا سوف يتمكن الأعضاء الاجتماعيون من الخوض في التفكير المسؤول ونقد الذات، وعلى النقيض من مدرسة فرانكفورت، لدينا ثقة كبيرة في قدرة الجماهير على مقاومة العديد من أشكال السيطرة و التخدير التي تمارسها الثقافة الجماهيرية، إذ تستطيع هذه الأخيرة أن تفرض مقاومة زائفة، لكنها ليست بالمقاومة السلبية في أسفل الهرم الاجتماعي. لقد أصررنا في مقالات سابقة على أن بذور التمرد والتطبع على مكافحة الهيمنة لا تزال كامنة خلف النماذج الثقافية العضوية، فهي متاحة بوصفها مرفقات ثقافية، قد ترتبط بأشكال احتجاجية جديدة في ظل ظروف اجتماعية وسياسية واقتصادية جديدة. ولا تزال المقاومة و الأنا الظاهراتية موارد لأنواع بديلة من التعبير تحت أشكال جديدة، وضمن أزمات جديدة. إن الثقافة العضوية للشعب غنية بالطقوس، والأساطير، والأقوال المأثورة، والأمثال، والموسيقى، والعادات، والروايات الثقافية التي قد تمكن الأعضاء الاجتماعيين من إبطال تأثير أفيون الثقافة الجماهيرية، و تفادي تلاعباتها من خلال العيش بعادات مختلفة و خطابات أخرى، مما قد يخلخل بنيان متاهة الثقافة الاستهلاكية، ويفتح آفاقا ومسارات جديدة للأعضاء الاجتماعيين، كما يعبد لهم الطريق نحو الوعي الثقافي، و يحرضهم على التحرك في اتجاه طريق التحرر الاجتماعي. - أستاذ بجامعة شعيب الدكالي – الجديدة