يتنازع المشهد القيمي بالمغرب وبالكثيرمن الدول الإسلامية فريقان، فريق يستمد قيمه من الدين، ويرى أن تشريعات وقوانين البلد يجب أن تساير مقتضيات الدين وتدور في فلكه، بحيث لا تخرج عنه ولا تتناقض معه أبدا، وفريق آخر يستمد قيمه من رغبات الناس "الكونية" وشهواتهم، فكلما انتشرت ظاهرة بين الناس إلا حاول هذا الفريق شرعنتها وتقنينها، غيرعابه ولا مبال بموقف الدين. تقنين ظاهرة الإجهاض من القضايا التي أثير ويثار حولها النقاش حاليا بين الفريقين، حيث يرى الفريق الأول أن الدين يحرم الإجهاض، وما دمنا مسلمين والإسلام دين الدولة، فلا بد أن يبقى الإجهاض ممنوعا في قوانين البلاد تماشيا مع مقتضيات الشريعة الإسلامية. بينما يرى الفريق الثاني أن تقنين الظاهرة أمر ضروري، باعتبار الحق في الإجهاض ضمن الحريات الشخصية للافراد/الأب والأم، والتي من المفروض أن يتوفروا عليها في إطار قوانين البلاد، رغم أنف الدين والأعراف والتقاليد! وهو نفس الفريق الذي يريد تقنين الزنا وشرب الخمروالإفطار في رمضان والمثلية الجنسية وغيرها من "القيم الكونية"، ولنفس الإعتبارات(الحريات الفردية). هذه المقالة، محاولة مني لإثراء النقاش حول هذا الموضوع . قبل سنوات، سألني شخص -باعتباري إماما- عن حكم الإسلام في الإجهاض، قلت له : هل لي أن أعرف سبب وملابسات هذا السؤال؟ قال نعم، فأخبرني هذا السائل بأن زوجته حامل، وأثناء الفحص اكتشف الأطباء أن الجنين غير طبيعي وأنه إن ولد فسيولد بإعاقة وتشوه يلازمانه طول حياته، وبناء عليه فقد نصح الأطباء الأبوين بإسقاطه، فقال لهم الأب والأم إنهما لا يستطيعان الموافقة قبل أن يسألا عن حكم الشرع في ذلك. استفسرت الأب عن عمر الجنين حينها وعن مستوى الإعاقة المحتملة وعن كل المعطيات التي لا بد أن أطلع عليها قبل إصدار حكم شرعي بالجواز أو التحريم. انصرف السائل على أن أخبره بالجواب في القريب العاجل لأن الأطباء ينتظرون ردهما فقط، ليقرروا في مصير الجنين. قبل أن أبحث عن حكم الشرع في المسألة، وقفت مع نفسي وقفة تنبيه ومحاسبة لأستوعب الأمر وأعي حجم المسؤولية التي ألقيت فجأة على عاتقي بسبب هذا السؤال. فالأطباء تخلصوا من المسؤولية وألقوها على عاتق الوالدين ليقررا في مصير الجنين (الإنسان)، والوالدان يريدان التخلص من المسؤولية عبر طرح هذا السؤال على الإمام، ليبقى الإمام المسؤول أمام الله عن حياة أو موت ذلك الجنين. فكرت كثيرا في مآلات الجواب بالجوازأو بالمنع، فالحكم بالجواز يعني أنني وافقت بل وكنت السبب في قتل إنسان خلقه الله تعالى ونفخ فيه من روحه، وسيسألني الله أولا عن ذلك يوم القيامة، كما سيسألني ذلك الجنين الذي كنت السبب في إزهاق روحه. قلت لنفسي: لقد مر بي أن الله سيقتص حتى للحيوانات من بعضها البعض! فهل يعقل أن لا يقتص الله لذلك الجنين مني إن كنت أنا السبب في قتله؟ استغلظت الأمر وأحسست بجسامة بالمسؤولية. ثم فكرت في مآلات الجواب بالمنع، فقلت في نفسي: لو قلت إن الإسلام يمنع هذا، وولد هذا الجنين معاقا، وعانى طول حياته وعانت معه أسرته، أفلا أكون مسؤولا عن تلك المعاناة باعتباري الشخص الذي عرقل عملية الإجهاض؟ طبعا، ليست المآلات وحدها التي تحدد حكم الشرع، فالمآلات تبقى توقعات قد تحصل وقد لا تحصل، ولكن لا بد أن ينظر إليها وتؤخذ بعين الإعتبار، وذلك بعد استقراء النصوص الشرعية وأقوال العلماء أهل الإختصاص في المسألة. أوصلني البحث الفقهي إلى النتيجة التي كنت أظنها الصواب، وهي التحريم حسب الحالة المعروضة أمامي. لم أستحسن أن يكون جوابي فقط عبر الهاتف، لأن مآلات الجواب بالمنع قاسية جدا على الأسرة، إنها تعني الحكم بالمعاناة طول الحياة، لذلك فضلت أن أجلس مع الوالدين وأحاول إعدادهما لقبول هذا الأمر الجلل. جلسنا فعلا، ووعظتهما موعظة أختصرها فيما يلي: "إننا نعيش في الحياة ولسنا في الجنة، وطبيعة الحياة الكد والنكد والنقصان، فلا تصفو من جانب إلا وتكدرت من جانب آخر، ووظيفتنا في هذه الدنيا هي عبادة الله ومرضاته،وهذا مكمن وسبب سعادة المؤمن. وقد خلقنا الله ليبتلينا، وليبلو بعضنا ببعض، وقد يرفع الله العبد بالبلاء درجات ما كان ليبلغها بعمله، ولفضل الإبتلاء ومكانة المبتلين عند الله، نجده تعالى يبتلي الأنبياء والصالحين أكثر من غيرهم، ثم إننا لا نعلم أين يكمن الخير، فكم من أمور نحسبها شرا تكون عاقبتها خيرا، وكم من أمور نحسبها خيرا تكون عاقبتها شرا والعياذ بالله، وما أخذ الله منك شيئا فصبرت عليه واحتسبت إلا عوضك خيرا منه، إن في الدنيا أو في الآخرة، فالخير كل الخير فيما اختاره الله، والفوز كل الفوز في الرضى بقضاء الله، وإنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب...." حاولت طبعا أن أقوي موعظتي بالأدلة والقصص الواقعية لأسهل قبول الأمر على الوالدين، وذلك ما تم بالفعل، فقد قبلا ولله الحمد بعدم الإجهاض ورضيا بذلك مؤمنين محتسبين، وأخبرا الأطباء بعدم موافقتهما على الإجهاض لأن دينهما يحرمه. مضت سنوات على هذه الواقعة، وإذا بي أرى ذلك الأب يدفع عربة وعليها طفل معاق. اقتربت من الأب وسألته: هل هذا هو الجنين الذي..؟ فأجابني : نعم إنه هو، وأضاف: " الحمد لله إذ أن الإعاقة لم تكن بالشكل الخطير الذي صوره الأطباء، لقد قالوا إنه سيكون معاقا ذهنيا وجسديا ومشلول الحركة تماما، وها أنت تراه الآن، إنه يتكلم بشكل طبيعي وعقله سليم تماما، الإعاقة الوحيدة هي أنه لا يقف على رجليه، ونحن راضون محتسبون ولله الحمد، ونفيض على ابننا ويفيض علينا من الحب ربما أكثر من بقية إخوته!". كلمت الطفل وسلمت عليه ورد بشكل طبيعي، ثم انصرفت وأنا أكفكف دموعي وأقول : ماذا لو كنت ساهمت في قتله لا قدر الله؟ القصة الثانية لم أحضر بدايتها، وإنما شاءت الأقدار أن أطلع على نتائجها. ففي أحد الأيام أخبرني شخص أنه يريد أن يسألني عن أمرمهم، راغبا أن لا يكون معنا ثالث. حضرت في الموعد المحدد، فبدأ الرجل حكايته: سيدي الإمام/لفقيه، لست أدري من حيث أبدأ -يقول الرجل-، قلت له: تفضل واطمئن ولا تتحرج، فقال لي:" في الحقيقة أسألك باسمي وباسم زوجتي، والقصة أننا وبعيد زواجنا، ظهرت علامات الحمل على زوجتي، وأثناء الفحوصات تبين أن الجنين غير طبيعي، فنصحنا الأطباء بإسقاطه، ولأننا كنا شبابا في مقتبل العمر، وكانت علاقتنا بالدين ضعيفة فهما وتطبيقا، قمنا بذلك فعلا، فأسقطناه وهو في مراحل متؤخرة من الحمل، أي، كان مكتمل الخلق، لكن- يضيف هذا الأب- ومنذ ذلك الحين ونحن نعيش في قلق وندم، لسنا ندري كيف نتخلص منهما، نحس أننا أذنبنا ذنبا عظيما، لذلك أنا هنا لتخبرني عن حقيقة ما قمنا به من منظور شرعي؟ و ماذا علينا فعله ليغفر الله لنا ما قمنا به؟ هل علينا فدية أم كفارة مثلا؟ نريد أن نتخلص من حالة القلق والندم التي لا تفارقنا رغم مرور أكثر من عشر سنوات على الحادثة!" تلطفت بالرجل آخذا بعين الإعتبار ندمه وندم زوجته، وسعة رحمة الله الذي يغفر الذنوب جميعا، وأرشدته إلى بعض الأمور التي قد تخفف من معاناته.كان السبب في التفكير في الإجهاض من خلال الحالتين اللتين أوردتهما (والحالتان وقعتا فعلا وليس خيالا في بلد أوروبي تبيح قوانينه الإجهاض)، هو عدم قبول الوالدين الوضع الصحي الغيرالطبيعي للجنين. لكن هناك أسباب أخرى قد تدفع إلى التفكير في الإجهاض، ومن أكثر هذه الأسباب حسب ما نسمع ونقرأ: الحمل الناتج عن الزنا. إن الحد أو التقليل من حالات الإجهاض أصبح أمرا ضروريا، نظرا لتفشي الظاهرة وبلوغها أرقاما مخيفة تهدد أمن وسلامة وتماسك المجتمع، ولا يمكن الحد من حالات الإجهاض إلا بالعمل على الحد من الأسباب التي تجعل الإنسان يفكر فيه أو يمارسه فعلا، عملا بمبدإ "الوقاية أفضل من العلاج". الزنا والحمل منه من أهم أسباب الإجهاض كما ذكرت، لذلك وجب التنبيه إلى خطورة الزنا والحد من انتشاره. لقد جمع الله في آية من القرآن الكريم بين التحذير من الزنا والتحذير من قتل النفس، فقال تعلى في أوصاف عباد الرحمان: (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا) الفرقان(68). قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : قال رجل: يا رسول الله أيُّ الذنب أكبر عند الله؟ قال: « أن تدعو لله ندًا وهو خلقك » قال « ثم أي؟ قال: » أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك « , قال: ثم أي؟ قال: » أن تزاني حليلة جارك « , فأنزل الله تصديقها: » والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما. لقد كرم الله الإنسان أيما تكريم، فحرم أن يأتي هذا الإنسان إلى الحياة الدنيا أو يغادرها إلا بإذن من ربه وخالقه، عبرطريقة تليق بالإنسان وبكرامته، فالزانا سبب في قدوم الإنسان إلى الحياة بغير الطريقة التي رضيها الله، أي خارج إطار الزواج الشرعي، والقتل سبب في أن يغادر الإنسان الحياة أيضا بغير الطريقة التي رضيها الله، أي بغير حق. وكلا الأمرين أي الزنا وقتل النفس يهدمان مقصدين عظيمين من مقاصد الشريعة ألا وهما: حفظ النفس وحفظ النسب. وإن للزنا علاقة قوية بقتل النفس من وجه آخر، حيث إن معظم الحالات التي يقع فيها الإجهاض هي حالات الحمل من الزنا، فكلما كثرت حالات الزنا كثرت فرص الحمل منه، وكلما كثر الحمل من الزنا كثر الإجهاض! ومن حقنا أن نتساءل عن الأسباب التي تجعل الوالدين وخاصة الأم تفكر في الإجهاض مع ما فطرها الله عليه من حب ورحمة تجاه وليدها؟ إن انتشار الزنا مسؤوليتنا جميعا، رجالا ونساء، أسرا ومجتمعا ودولة، فهل من العدل أن تتحمل الأم الحامل من الزنا وحدها وزر وضع منحرف صنعناه جميعا؟ هي مسؤولة طبعا متى مارست الزنا برغبتها، لكن أين مسؤولية ذلك "الأب" الذي قضى شهوته و ألقى بنطفته ومضى لحال سبيله وكأن الأمر لا يعنيه؟ أليست هناك وسائل قانونية لإرغامه على تحمل مسؤوليته؟ وأين مسؤولية تلك الأسرة التي ربما غضت الطرف أو قصرت في تربية ابنتها على العفة؟ لكنها تستأسد وتسترجل حين تسمع بنبإ حمل ابنتها من السفاح، فإذا بالأخ يهدد الأخت الحامل بالقتل، وإذا بالأب يهددها بالطرد..إن لم تجد حلا لذلك الحمل المشؤوم؟ وأين مسؤولية المجتمع بأغنيائه ومثقفيه وجمعياته؟ وأين مسؤولية الدولة؟. يجب أن نتحمل كلنا المسؤولية متى نتجت عن الزنا عواقب وخيمة كالحمل، ولا نترك المرأة وحدها تتحمل ذلك، لأنها ببساطة لن تستطيع، وستفكر في الهروب والتخلص من المسؤولية كما فعل الكل، ولن تجد حلا يريحها من المسؤولية (عاجلا على الأقل ) غير الإجهاض أثناء الحمل، أو التخلص من الطفل بعيد الوضع، إما برميه في القمامة أو إعطائه للغير كما تعطى أي بضاعة مزجاة! مخطئة جدا أم تظن أنها حلت مشكلة الحمل من الزنا عن طريق الإجهاض، فبالعكس، لقد أضافت جريمة أخرى إلى جريمة الزنا، ألا وهي جريمة القتل، قتل نفس بريئة، وليست أية نفس، إنها ابنتها أو بنها الذي لم يرتكب خطيئة، فحكم عليه أن يؤدي ثمن ذنب ارتكبه والداه! كل هذا لأن ذلك الجنين لا يستطيع الدفاع عن نفسه، ولواستطاع المسكين الصراخ لصرخ، ولو استطاع الهروب من الموت لهرب!.لكن الله بعدله وقدرته على إنطاق الحواس والجماد سيجعل هذا الجنين ينطق يوم القيامة ليخاصم أمه و"اباه" وكل من ساهم في قتله وينادي ربه:" اسألهم يارب، بأي ذنب قتلوني". [email protected]