ثمة ملاحظة جديرة بالإهتمام بخصوص التقرير الأخير حول الحريات الدينية في العالم الصادر عن وزارة الخارجية الأمريكية، وهي استمرار ازدواجية خطاب الولاياتالمتحدةالأمريكية وعدم تغير موقفها من العالم الإسلامي بالرغم من التفاؤل الذي صاحب الخطاب الشهير للرئيس الأمريكي أوباما الموجه إلى العالم الإسلامي، ويبرز عن رغبة عميقة من طرف الولاياتالمتحدة في السيطرة على الدول عبر العامل، عكس ما اعتقده البعض خلال الفترة الأخيرة. أولا، لا بد من فهم السياق الذي برز فيه تقرير الحريات الدينية عبر العالم، فهو يعتبر من الناحية العملية التجسيد العملي ل"قانون الحريات الدينية الدولية 1998" الصادر عن الكونجرس الأمريكي سنة 1998، والذي تمت المصادقة عليه بهدف " تشجيع الحريات الدينية باعتباره داخلا في السياسة الخارجية للولايات المتحدة، وبهدف الدفاع عن مصالح الأفراد الذين تم التضييق عليهم في الدول الأخرى بسبب دينهم"، وهو يمثل انتصارا للتيار الإنجيلي داخل الكونجرس الأمريكي، المنتمي أغلبه إلى الحزب الجمهوري، والذي كان يمتلك الأغلبية داخل الكونجرس واستطاع تحوليه إلى قانون بعد مقترح القانون الذي قدمه النائب الجمهوري المعروف فرانك وولف في شتنبر 1997، ثم بعد ذلك تم اعتماده بعد سلسلة من النقاشات داخل الكونجرس بعد إجراء سلسلة من التعديلات على مسودته، خصوصا منح صلاحيات اكثر مرونة للرئيس للتعامل مع الدول التي تخرق القانون، ليتم توقيعه من طرف الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون في 27 أكتوبر 1998. ويعطي هذا القانون للرئيس الأمريكي الحق باتخاذ قرارات قاسية بخصوص الدول التي تصنفها الولاياتالمتحدة على أنها لا تخرق قانون "الحريات الدينية"، يعطي الفصل 405 من هذا القانون للرئيس الأمريكي صلاحيات واسعة في عقوبة الدول المعنية، مثل أن يؤجل أو يلغي اتفاقيات التبادل الثقافي أو العلمي، بل ويمكن له أن يصل إلى عقوبات إقتصادية مثل قطع المساعدات الاقتصادية، وتجميد كل الاستثمارات والتحويلات البنكية إلى الولاياتالمتحدة، ومنع المؤسسات الاقتصادية الأمريكية من منح قروض أو توفير اعتمادات أكثر من 10 ملايين دولار خلال 12 شهرا التي تلي صدور تقرير يدين إحدى الدول التي خرقت الحريات الدينية، وغيرها من الإجراءات العقابية المقررة في القانون، والتي يحددها الفصل 402 و405 من هذا القانون، إلا أنه من الناحية العملية لم يتم معاقبة أية دولة سنة 2010 بناء على هذا القانون، ولكنها اصدرت انتقادات شديدة اللهجة لعدد من الدول، أبرزها الصين وإيران. إلا أن الولاياتالمتحدةالأمريكية تسقط في تناقضين على الأقل، الأول يبرز في أن الدولة الوحيدة التي لم يشملها التقرير هي الولاياتالمتحدة نفسها، وهذا بالرغم من تصريح وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كيلنتون عشية الإعلان عن تقرير الحريات الدينية لسنة 2010 بأن سبب عدم إدراج الولاياتالمتحدة ضمن التقرير راجع إلى "أن وزارة العدل ترصد تحديات الحرية الدينية في الولاياتالمتحدة والقضايا المرتبطة بها على مدار السنة"، هل هذا يعني أن الدول الأخرى-سواء المتقدمة أو المتخلفة- لا ترصد الحرية الدينية في دولها؟، وهذا يبرز التناقض الأول في موقف الولاياتالمتحدةالأمريكية. التناقض الثاني يبرز من خلال ازدواجية الخطاب بخصوص الموقف من الدول العربية والإسلامية من جهة، والموقف من "إسرائيل" من جهة أخرى، فلما يتعلق الأمر بالدول العربية والإسلامية، (خصوصا مصر ومسألة الأقباط) يتم استعمال خطاب حاد وقاس عندما تقوم الدول الإسلامية بحماية أمنها الروحي، وتسعى إلى الحد من انتشار الأنشطة التنصيرية في المناطق ذات التوتر الإجتماعي والإقتصادي، مثل المناطق ذات الانتشار الأمازيغي في الجزائر والمغرب، والتي تستهدفها الأنشطة التنصيرية بشكل أكبر، وتغفل في الوقت نفسه الإضطهاد الذي عانى وما زال يعاني منه آلاف المسلمين يوميا جراء منع القوات "الإسرائيلية" المصلين من الدخول إلى الصلاة في المسجد الأقصى، ولم تشر إلى ذلك بتاتا في التقرير، بل اكتفت فقط بذكر أن " الحرم الشريف الذي يوجد به المسجد الأقصى وقبة الصخرة يعتبر من الأماكن الأكثر قداسة في الإسلام، وبأن اليهود أيضا يعتبرونه بأنه يحيل إلى جبل الهيكل"، بل ويشيد التقرير بكون "سياسات الحكومة الإسرائيلية ساهمت بشكل عام في حرية الممارسة الدينية"، وأضافت بأن هناك "تحسن وتطورات إيجابية على مستوى احترام الحرية الدينية" في إسرائيل، هذا بالإضافة إلى ليونة الخطاب بخصوص بعض "الأخطاء" التي تقوم بها "إسرائيل" للتضييق على الحرية الدينية، بل وحمل التقرير المسؤولية عن انتهاكات الحرية الدينية إلى الإعتداءات الخارجية من طرف المقاومة الفلسطينية. إن الدول الإسلامية من حقها أن تحافظ على أمنها الروحي، باعتباره خزانا استراتيجيا للأمن القومي لا ينبغي التفريط به، وفي نفس الوقت العمل على تحقيق حرية دينية واسعة، انطلاقا من المرجعية الإسلامية نفسها التي تدعو إلى عدم الإكراه في الدين، والدعوة بالتي هي أحسن.