حين كنت أسأل أصدقائي العراقيين عن مصدر ثقتهم بقدرة مقاومتهم على دحر الاحتلال الأمريكي من بلادهم كانوا يجيبون فوراً: هناك مثل عراقي شائع انطلق في البادية ثم زحف إلى الحواضر يقول " الأرض تقاتل مع أهلها". وكنت أتذكّر هذا المثل الجميل كلما حصلت مواجهة بين العدو الإسرائيلي والمقاومة، فلسطينية أو لبنانية، فأشعر منذ اللحظة الأولى للمواجهة إن العدو سينهزم والمقاومة ستنتصر رغم الفارق الكبير في موازين القوى لصالح العدو، وكانت الوقائع في الميدان تثبت صحة ذاك المثل المغمس بدماء العراقيين وتضحياتهم منذ ثورة العشرين حتى مقاومة الاحتلال. وفي العدوان الصهيوني على غزة لاحظت أن ما نسميه في أيامنا هذه "ثقافة المقاومة" ليس إلا تأصيلاً فكرياً لذاك المثل الشعبي البسيط، لأن الذي انتصر على أرض غزةالفلسطينية وببطولات أهلها وتضحياتهم، هو ثقافة المقاومة، وأن شركاء النصر في هذه المواجهة هم كل من ساهم بالكلمة والموقف والجهد وصولا إلى التزويد بالسلاح والخبرة والمشورة في هذه المعركة، شقيقاً كان أو صديقاً، قريباً أو بعيداً، حزباً كان أو جماعة أو وسيلة إعلام أو مبادرة تضامنية. ثقافة المقاومة هي ثقافة الوحدة الوطنية، لأن الانتصار هو عربة بجَواديْن هما المقاومة والوحدة الوطنية، فالوحدة الوطنية في أرض محتلة لا تستقيم إلا بالمقاومة، والمقاومة لا تتحصن إلا بالوحدة، ولعل هذا هو الدرس الأول الذي خرجنا به جميعاً من انتصار غزة، ثم لعل تبديد هذا الانتصار بالانقسام هو أكثر ما يقلق شعب فلسطين وأبناء أمته. وثقافة المقاومة هي ثقافة الالتزام بالثوابت والمبادئ، وإن المرونة التي تفرضها الضرورات تبقى تحت سقف هذه الثوابت والمبادئ، وإن المرحلية التي تتطلبها طبيعة الصراع يجب أن تبقى مفتوحة على الأفق النهائي الذي يكرس كامل الحقوق. وثقافة المقاومة هي ثقافة التواضع يوم النصر، لأن الغرور يتنافى مع عظمة المقاومة، ومع سمو النصر، ولأن ثقافة التواضع هي الحصانة من العصبيات الفئوية التي تجهض الانتصارات، ومن التعالي على الآخَر الذي يُفقدنا الاتصال بالواقع. ثقافة المقاومة هي التحضير للمواجهة القادمة كأنها حاصلة غداً، والتحضير للمعركة مع العدو كأنها مستمرة أبدا، بل إنها ثقافة تسعى لتحييد الخصوم ، وكسب المحايدين وشد أزر الأصدقاء وليس العكس كما نرى أحياناً، كما هي ثقافة ترتيب الأولويات فلا تغليب للتعارضات الثانوية على التناقضات الرئيسية ، ولا للحساسيات العابرة على المبادئ الثابتة والمصالح العليا للشعوب والأمم. ثقافة المقاومة هي حث دائم على الانتصار للعدل على الظلم، وللحق على الباطل، وللحرية على العبودية، وللكرامة على الذل والهوان، بل هي انتصار للحياة على الموت، بل أن نجعل الموت إذا فرض علينا طريقا لصون الحياة. ثقافة المقاومة هي القدرة على القراءة الدقيقة للواقع، فهذه الثقافة لا تستقيم مع الأفكار المسبقة والنظريات الجاهزة بل تُخضع أفكارها دائما لمراجعة دائمة في ضوء ما يفرزه الواقع من حقائق، بل إن ثقافة المقاومة تبقى في اعتماد كل أشكال النضال، كما تُحرر أهلها من أسر صراعات الماضي وتعزّز فيهم الانفتاح على آفاق المستقبل. ثقافة المقاومة هي التي لا تكتفي بصناعة النصر مع شعبها، بل هي التي تسعى إلى ابتكار السبل والوسائل التي تمكّن الأمة كلها من استثمار النصر لا في فلسطين وحدها، بل على مستوى الأمة، فتضع في رأس أولوياتها إطفاء حرائق مشتعلة في الأمة، ومحاصرة ألسنة اللهيب المتنقلة عبر دعوات التعصب والتطرف والغلو وممارسات الإرهاب والقتل والإبادة الجماعية، وهي دعوات باتت الاحتياطي الاستراتيجي الأخير بيد العدو. ثقافة المقاومة هي التي تقود إلى التصرف على قاعدة إن العدو قد يكون، كما قال الزعيم الصيني الكبير ماو تسي تونغ، نمراً حقيقياً على الصعيد التكتيكي ، ولكنه نمر من ورق على الصعيد الاستراتيجي، رغم أن المقاومة في غزة قد أثبتت أن العدو كان نمراً من ورق تكتيكياً واستراتيجياً في آن واحد. ثقافة المقاومة هي استنباط متواصل لوسائل المقاومة وأشكالها، وفي الطليعة المقاومة المسلّحة والتي إذا اقترنت في حال فلسطين بانتفاضة ثالثة في القدس والضفة اقتربت ساعة التحرير. ثقافة المقاومة تقول لنا إن المعركة مستمرة وأن يبقى السلاح صاحياً، وان ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة كما قال يوماً الزعيم الخالد الذكر جمال عبد الناصر. إن ما جرى في غزة محطة مهمة في رحلة لم يعد صُبحها ببعيد.