اعتبر محمد حمداوي، مسؤول العلاقات الخارجية في جماعة العدل والإحسان، أن الشعب الفلسطيني في غزة رفع رأس الأمة عاليا بصمود المقاومة ما يقرب من شهرين ناهيك عن تماسك الشعب واحتضانه لهذه المقاومة مع وجود عامل جديد يتعلق بالانتصار الإعلامي الذي خسره العدو الصهيوني في الحرب الأخيرة. وقال حمداوي، في مقال خص به هسبريس، إن الإرادة لعبت دورا حاسما في النصر لاسيما مع حرب التحرير الوطنية، الإرادة التي تبدأ برفض الاعتراف بالعدو المحتل والعمل على تحرير الأرض مهما كانت التضحيات... إليكم مقال حمداوي كما توصلت به هسبريس انتصار غزة في حربها الثالثة.. والتوازنات الإستراتيجية الجديدة في الصراع مع العدو الصهيوني وأخيرا وبعد خمسين يوما من المواجهة مع الكيان الصهيوني وضعت حرب غزة الثالثة أوزارها، و اندحر العدو يجر أذيال الخيبة والهزيمة بعدما لقنه أشاوس المقاومة دروسا قاسية في معاني الصمود والثبات والإقدام البطولي في ميادين الوغى طمعا في إحدى الحسنيين إما النصر أو الشهادة. نكتب هذا ونحن نستحضر معطى مهما وهو أن هذه الحرب التي جرت ليست حربا متكافئة بين جيشين نظاميين، إنما هي حرب تحرير استثنائية خاضتها المقاومة ضد عدو محتل شرس. استثنائية لأنها جرت بشكل مباشر انكسر خلالها العدو ولم تكن كحروب المقاومة المعروفة بعمليات الكر والفر ومنطق عمل المجموعات المسلحة دائمة التحرك والانتقال من مكان إلى مكان ولها قدرة التواري على العدو. منطق غزة المكشوفة والمحاصرة جوا وبرا وبحرا أعطى خرقا مبهرا إن لم نقل معجزا لهذه القاعدة. وفي هذه الحالة أيضاً فإن المنطق العسكري يقول إن الجيش القوي إذا لم ينتصر فإنه يعتبر مهزوما والجيش الضعيف عدة وعددا إذا لم ينهزم فإنه يعتبر منتصرا. لقد رفعت غزة بصمود مقاومتها وشعبها معا رأس الأمة عاليا وأفرغت على قلوب جماهير هذه الأمة نسائم نصر وشموخ عز مثيله في عصرنا.. إن أي حرب تجري عليها سنن متعددة من سنن النصر والهزيمة ، منها العدة و العدد و إيمان الإنسان بقضيته و إرادته و نفسيته و تدبيره المتعدد الأوجه لمجرى الحرب عسكريا و إعلاميا و تعبويا. من ينظر إلى العدوان الصهيوني على قطاع غزة و مدى صمود المقاومة هناك لا يمكنه تفسير ذلك اعتمادا على العدة و العدد فقط . و لو كان ذلك كذلك لما انتصرت مقاومة قط عبر التاريخ و لكان العدو الصهيوني قد حسم المعركة منذ مدة خصوصا مع المتغيرات الإقليمية و الدولية الحالية التي تبدو كلها في صالحه. لقد تحول مجرى الصراع مع الكيان الصهيوني عندما دخلت متغيرات جديدة مع هذا العدو المدجج بأحدث أنواع الأسلحة والمسند من قبل عدة قوى دولية كبرى . لا شك أن الحرب مع العدو الصهيوني تخلف في كل مرة جراحا و آلاما . لكن هذا الألم متبادل . إن كان المرابطون في قطاع غزة يألمون ألما مباشرا مروعا لما يصيبهم في الأنفس و في المساكن و المنشآت و إن كانت الأمة أو أكثريتها على الأقل تألم لما يجري في قطاع غزة و هي لا تستطيع تقديم الدعم المباشر الملح لبني جلدتها ، و إن كان أحرار العالم يألمون لما يعاينونه من نفاق من المجتمع الدولي و هو شاهد زور على ما يقترفه الصهاينة من جرائم وحشية فإن العدو الصهيوني يألم أيضا عندما يرى صفوة نخبته العسكرية المدربة تدريبا متقنا و حديثا ، يراها تنهار في مواجهة رجال المقاومة و تقع فيهم خسائر لا يستطيع إنكارها . و يألم هذا العدو حينما يرى مغامرته العسكرية في مهب الريح فيتحول إلى وحش مفترس ينقض على الأطفال و النساء و الشيوخ بمئات الأطنان من الأسلحة المدمرة . إنه يألم عندما يرى مشروعه الصهيوني التوسعي يتراجع سنة بعد أخرى خصوصا بعد نتائج حروبه الثلاثة الأخيرة على غزة . بل الأكيد أن خبراء الصهاينة و معهم المتابعون لتطورات الوضع في المنطقة من خبراء الغرب و خصوصا الخبراء الأمريكيين، وعلى الأخص خبراء الشؤون الأمنية و الاستخباراتية ، الذين يعالجون المعطيات الحالية و المستقبلية بصرامة و دقة و موضوعية التي تقدم للدوائر الكبرى لصناعة القرار يرجحون استحالة استمرار المشروع الصهيوني على أرض فلسطين على المدى المستقبلي المتوسط. " وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ ۖ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ ۖ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا " ( سورة النساء – 104) . ومما يهون الألم على أهل غزة و فلسطين و يجعله شديدا على عدوهم الصهيوني المحتل أنهم يرجون من الله ما لا يرجوه العدو . يرجون نصرا و ثباتا و إيواء و مغفرة و جنة . و ماذا عسى العدو أن يرجو إلا خزيا و ذلة و صغارا و عذابا مهينا. كان أعداء الأمة في سنين سابقة إلى حدود أوائل التسعينات يشنون الهجومات العسكرية مقرونة بالقصف الإعلامي الموازي الخادم للعمليات العسكرية و المعبئ للرأي العام المحلي و العالمي لصالحهم و ذلك تطبيقا للمبدإ القائل بأن الحرب الناجحة عسكريا هي أيضا وأولا الحرب الناجحة إعلاميا .لذا تنفق ملايير الدولارات على الإعلام كما ينفق على التسليح و العمليات الميدانية . لكن هذا الاحتكار الإعلامي كسرته تجارب و معطيات إعلامية معاصرة أفاء الله بها على هذه الأمة منها بعض القنوات و المواقع المؤثرة جدا ، و منها وسائط التواصل الاجتماعي ومنها انتباه المقاومة إلى الأهمية التعبوية و الفتاكة لهذا السلاح فهرعت إلى حسن و سرعة استثماره و تطويره و توظيفه الأمر الذي أثر تأثيرا كبيرا في معادلة الصراع مع العدو ." يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۖ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ۚ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ" ( ابراهيم – 27). كانت ولا زالت الإرادة عاملا حاسما في تحقيق النصر في معظم الحروب ، خصوصا حروب التحرير . إن الإرادة الرافضة الاعتراف للعدو بشبر من الأرض المباركة ، و الإرادة المصرة على انتزاع الحق من المحتل المغتصب مهما كانت التضحيات، وإن الإرادة المستعدة لتقديم كل غال و نفيس من أجل عزتها و كرامتها بل من أجل عزة الأمة بأكملها و كرامة مقدساتها ، و إن الإرادة الموقنة في نصر الله تعالى و في وعد الآخرة من سورة الإسراء " فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيرًا " ، هذا الوعد اليقيني في اندحار العدو الصهيوني عن أرض فلسطين و الذي تتوافق معه الدراسات المستقبلية الموضوعية و المنصفة ، إن هذه الإرادة لاتقهر بإذن الله و تعطي لليد المقاومة قوة وبطشا و عزما و عزيمة لا تضاهيها أية إرادة على وجه هذه الأرض . هذا في مقابل إرادة العدو المترددة و المعتمدة على الآلة العسكرية و المتحصنة من الموت بكل ما تتيحه التقنيات الحربية المعاصرة ، إن هذه الإرادة التي تستمد قوتها من ضعف الأمة وبل من تواطإ بعض الأطراف فيها و من مساندة أطراف غربية منافقة و غير عادلة ،إن هذه الإرادة المهزوزة نفسيا المصرة على الحياة ( أي حياة بأي ثمن) "قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ . وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ . وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَىٰ حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا ۚ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ ۗ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ". إن إرادة مثل هذه يمكنها تحقيق الغلبة بعدتها المتفوقة عندما تواجه خصما ذا إرادة خائرة مشتتة تقاتل بدون أهداف نفسية و عسكرية جليلة . لكن، أنى لها أن تحقق نصرا أو ظهورا عندما تواجه إرادة الإيمان والصمود والثبات و الوفاء . إنها المعادلة الجديدة في توازن الإرادات! يقاتل رجال المقاومة و كلهم شجاعة و إقدام و ثقة في الله و في مشروعهم و في أنفسهم و في قادتهم راضون بقضاء الله و بقدره بعدما أحكموا الأخذ بالأسباب و استفرغوا الجهد في الإعداد للمواجهة و تنفيذها . يقاتلون عدوا كله خوف و رعب . فرغم كثرة الملاجئ في المدن ورغم القباب الحديدية و رغم ترسانته المدرعة و المصفحة و آليات الرصد المتطورة جدا أثناء النهار والليل ، رغم كل هذا يعيش مدنيوه و عسكريوه رعبا حقيقيا يحدث في أنفسهم جميعا كوابيس لا تنتهي و توترا نفسيا شديدا متصلا مرهقا ضاغطا... إنه توازن الرعب بين المقاومة وعدوها الصهيوني المتغطرس . تعتبر المفاجأة من العوامل المهمة في حسم الصراعات طويلة الأمد . فرغم ما أعده العدو الصهيوني من توقعات و ما رتب من احتمالات جاءت المفاجأة من قبل المقاومة صادمة له في تطورها النوعي و في تماسكها و في مباغتاتها و في أشكال المواجهة خصوصا طريقة توظيف الأنفاق التي و لا شك استحضرت حرص العدو على قوته التدميرية في استهداف مداخل و مخارج الأنفاق و في محاولة تشتيت تركيز المقاومة بالضربات الكبرى الصادمة الأولى . لقد أصبح العدو في كل يوم من أيام الحرب متوقعا مفاجأة ما ،لا يدري مكانها و زمانها بالضبط كما لا يعرف مداها. إن الحرب لا بد لها من كلفة بشرية و مادية خصوصا الحرب غير المتكافئة في العدة و عبر التاريخ عرفت حروب التحرير بالكلفة البشرية العالية نظرا لحرص المحتل على ترهيب الأمة بفداحة الخسائر البشرية و كذلك برغبته الانتقامية للقتلى من ضحاياه خصوصا وسط جنوده . ولن تكون حرب غزة بدعا من ذلك لكن عزاء الأمة و المقاومة أن قتلاها يرقون بإذن الله شهداء إلى العلى و قتلى العدو الصهيوني الظالم المجرم حصب جهنم هم فيها خالدون . بل إن البشارة العظيمة للأمة أن قتلانا من المؤمنين في معركة مصيرية واضحة كالتي تدور في أرض فلسطين السليبة شهداء إن شاء الله يتخذهم الحق عز و جل للفردوس الأعلى مع النبيين و الصديقين و الصالحين " وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ . إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ " ( آل عمران) . رغم ظروف الحصار لأكثر من سبع سنوات خلت لم يتوقف عقل المقاومة في تطوير المتاح و التفكير في البدائل الممكنة و في أساليب الردع النوعية التي تعتبر من العوامل الأساسية في حسم المعركة لهذا ما فتئت المقاومة توظف كل طاقاتها التفكيرية والإبداعية في بناء وتسلسل الخطط الأساسية و البديلة القصيرة منها و الطويلة و المغتنمة للفرص السريعة في غمرة المواجهة العسكرية حامية الوطيس . و ينطلق هذا الحرص من مسألتين أولاهما أن الله عز و جل قد زود العقل البشري بطاقة هائلة لا حد لها في الخيال والابتكار وأخراهما أن طاقة المؤمن الصابر في ميدان المعركة و في أوج العطاء تتضاعف إلى عشر مرات طاقة العدو الظالم " إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ " (الانفال - 65). إن التربية و التعليم عاملان أساسيان في إعداد الأجيال المتشبعة بروح المقاومة و بالوفاء لدماء الشهداء وبالقناعة الحاسمة أنما المقاومة شجرة تسقى من دماء الشهداء أصلها ثابت في أرض فلسطين، أرض العزة و فرعها في السماء شامخ مقبل غير مدبر ، تؤتي ثمارها كل حين بإذن ربها . لذا انتبهت المقاومة إلى هذا المجال فطورت برامج تربوية و تعليمية رائدة تشهد بها المقررات و المناهج المعتمدة في مختلف أسلاك التعليم من التمهيدي و الابتدائي إلى الجامعي و كذلك برامج و فعاليات الجمعيات و النوادي الأهلية القطاعية و العامة. إن تجارب المقاومة توضح بشكل جلي أن هذه الأمة عندما تعانق هويتها وتصر على استرداد حقها ومجدها و توظف كل طاقاتها المتاحة تحدث نقلة نوعية بإذن الله في حالها و نفسيتها و في صراعها مع أعداء وجودها وانبعاثها. لقد سرت في الأمة حياة جديدة بفعل هذه التوازنات . وإن استمرار وتعزيز وتطوير هذه التوازنات يسرع و لا شك العد العكسي لاندثار العدو الصهيوني المغتصب لأرض فلسطين خلال السنوات المعدودة المقبلة بإذن الله . تحية الإكبار والتقدير والأخوة والمحبة لك يا غزة والرحمة للشهداء ونسأل الله أن يعجل بالشفاء لكل الجرحى والمكلومين "وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ" ( يوسف -21).