أحمد الله كثيرا أنني لست رئيس تحرير جريدة أو صحيفة وطنية أو مشرفا على مؤسسة إعلامية أو مقاولة صحفية، لأنه لو أنيطت لي مهمة تسيير تلك المؤسسات ، وبالضبط في ظروفنا الحالية التي تعيش فيها بعض جرائدنا في الوطن العربي عموما و المغربية على الأخص إن صح هذا التعبير حالة من الفوضى اللغوية جراء الانتكاسة التي ستروح ضحيتها في يوم من الأيام لغتنا العربية، أقول لو أنيطت لي مهمة ذلك ، لكنت من السباقين إلى تعليق لوحة كبيرة على مدخل المؤسسة كتب عليها :" لا يدخل علينا إلا من يتقن شعبة اللغة العربية "، اقتداء بأحد فلاسفة الرياضيات الذي قرر كتابة العبارة الشهيرة على باب أكاديمية الرياضيات : " لا يدخل علينا إلا من يتقن شعبة الرياضيات "، حتى يتم لوم كل من سولت له نفسه التعدي أو التنقيص من لغة القرآن . في العمل الصحفي لا يجوز أن ننصاع لهاته المسلمة، لأن قدسية الخبر الصحفي تأتي من سهولته على المستوى اللفظي والمعنوي نظرا لعلاقة التأثير والتأثر السائدة بينهما إذ أن كلاهما يخدم الآخر. من هذا المنطلق كان لي موقف ، وأنا أتتبع تلك النقاشات ومنذ مدة حول كتابة أعمدة بلغة تخلط الفصيح بالعامي، طبعا حين كان مدير إحدى الجرائد الوطنية ملتزما بعموده في الصفحة الأخيرة لإحدى الجرائد الوطنية ، وكنت أتردد في إبداء الرأي لسبب واحد ، وهو حتى لا أعتبر من المباركين لتلك النقاشات والجدالات ، ولكن كنت قد حسبت أن الأمر طوي، حتى أطلت علينا بعض المقالات تمدح صاحب ذلك العمود مطبلا ومهللا واصفا إياه بالمهدي المنتظر، ومؤكدا تطبيله بقوله: " قد يعتقد البعض أنني أغازل الأخ ..... وقد يتساءل البعض الآخر إن كنت قد وكلت نفسي محاميا صفه ...." إلخ من الحديث المجاملاتي لدرجة أن صاحب المقال نفسه أنه لا يعرف تاريخ الكتابة باللهجة العامية في الأدب العربي، ولحد علمه فقد اشتهرت هاته الطريقة أيام عمود صاحبنا بإحدى اليوميات المغربية. حقيقة أن هذا المقال أحيى في جرأة الرد حين أحسست أن السيل وصل الزبى ، وأصبحت أشعر أنني أتحمل مسؤوليتي أنا الآخر من منطلق أنني شاب عربي يعيش مخاض تقلبات على شتى المستويات غير مكثرثة بالتدرج في التغيير ، وكذا من منطلق عطفي على أولئك الشباب الذين هللوا وانساقوا من حيث لا يشعرون مع هذا المصاب الجلل الذي أصاب اللغة العربية ، حاولت ان أبدي رأيي وبدون أذنى تحفظ مع علمي الكامل أنني سأتلقى ردودا قاسية ، ولا شك أن اللهجة التي سأقابل بها لن تبتعد عن اللهجة البوشية العنيفة التي قد تفتقد لمصداقية الدمقرطة الفكرية والتناظرية بل قد تعتمد فرض الرأي الوحيد ، ما يهمني هو أنني قد أساهم أنا الآخر إن عاجلا أم آجلا في تغيير طرف مما قد يصيبنا ولو بقلبي وذلك أضعف الإيمان . "" ولعل الجدالات والنقاشات والتي ابتدأت كنقاشات بسيطة- طبعا قبل أن ينهض صديقنا بمقاله - جوبهت بمواقف وردود فعل تم الرد عليها بلهجة تكاد تكون في بعض الأحيان خالية من كل احترام للرأي الأخر ، بل إن هاته " الأقلام " بين قوسين، خلقت لها أتباعا للدفاع عنها، ومحامين يدافعون عنها ، في وقت وجدت فيه فراغا قويا للرد عليها بطريقة علمية نظيفة ، بل إن أغلبية المعول عليهم في ذلك يكادون يعتبرون تلك النقاشات أضغات احلام ، ربما لاعتقادهم أنه لن يكتب لها النجاح ومن تم ركنوا إلى عدم تشريفها بالنقاش والجدال ... ولعل جل الذين تنكروا لموروثاتهم الفكرية، هم من الأتباع الذين صنعتهم بعض الأقلام المشوشة والتي يكاد يتفق البعض أنها محسوبة على بعض الجهات التي تريد أن تضع لغتنا الأم تحت كل اعتبار ، هؤلاء الأتباع الذين صنفوا كل من قرأ للعقاد وطه حسين وقلسم أمين ..... وغيرهم إرهابيون من النوع الأ سود ، بل وصلت بهم التفاهة إلى التحذير من الكتابة الاتباعية ، كل ذلك باسم الأسلوب المتحرر والتقدمي والأدب المتحرر . لنتذكر جميعا أنه في مرحلة معينة من طفولتنا الدراسية حين كنا في سلك الابتدائي ، كنا نجد صعوبة قصوى في الكتابة الانشائية مثل وصف القطار أو فصل الربيع مثلا ، أو الحديث عن عيد من الأعياد الدينية والوطنية ، بل كنا نكاد نميل إلى الكتابة باللهجة العامية في كثير من الأحيان ، نفس الصعوبة أيها القاريء الكريم كنت تجدها – طبعا بعدما تمكنت من سبر أغوار لغتك وبعض لغات العالم- وأنت تفاجأ بأخيك الصغير الذي يستدعيك لكي تساعده على كتابة إنشائية من عيار : صف أو تحدث ..... ، لأنك من دون شك سوف لن تتذكر كيف كانت تصوراتك على ذلك الوصف أو الحديث، ومن تم صعوبة التواصل ، ثم والآن وأنت تشعربتحسن أسلوبك الأدبي وبتراكم المعارف عليك ، الا تشعر بنفس الصعوبة في الوصف مثلا بنفس تفكير أخيك لا بتفكيرك الحالي ، لأنك اعتدت أن تكتب أو لا تكتب ، أن تكتب بأسلوب رفيع أو تكتب بأسلوب وضيع ، ولأن الرفعة تتكرس بكثرة اطلاعك وانفتاحك على كل المعارف ... ولأن الوضاعة تتكرس بشحك وببخللك الأدبي وقلة الاحتكاك بالقراءة ورفض الاطلاع على الرؤى والثقافات الأخرى .. وكلا الأسلوبين سهلين غير ممتنعين لأن كل واحد منهما توافرت له شروطه وآلياته، ولأن الصعوبة تظهر حين نطلب منك أن تكتب لنا بأسلوب بسيط دون إقحام المصطلحات الفضفاضة الضخمة التي لا يفهمها العامة ، تم هذا لا يدعونا إلى إقحام المصطلحات الدخيلة العامية التي تجعل قراءتنا للمقال أو العمود غير متسلسلة أو مسترسلة . إن الكتابة البسيطة هي التي تحتم عليك أولا وقبل كل شيء الحفاظ على توازن المعنى مع المبنى ، وذلك في نظري هو أسلوب لغة الصحافة التي تقدس : " خير الكلام ما قل ودل "، فانا لست ضد الخط التحريري الذي يسلكه البعض في تناول الأفكار والأحداث وأحوال الناس ، بل أؤكد موقفي الرافض للطريقة التي نتعامل فيها مع اللغة العربية ، قد يقول قائل بأن اللغة في مجملها عبارة عن رموز ، ما يهم هو وصول الرسالة المرجوة ، وأقول أنا معك ، ولست ضد توظيف الكلمات العامية ، ولكن ضد الطريقة المجانية التي يتم بها توظيف تلك الكلمات . فتقنيات العمل الصحفي لا تتطلب منك أن تكتب بأسلوب الفيلسوف أو الشاعر أو الروائي ... أسلوب العمل الصحفي يعتمد في المقام الأول على التركيز والسلاسة والاختصار والابتعاد عن الكلمات غير المفهومة، دون السقوط في متاهة اللهجات أو الحديث باللهجة العامية إلا إذا اقتضتها الضرورة أو كان موضوع بحث علمي أكاديمي يتناول بالدرس والتحليل المسألة اللغوية في محاورتتعلق باللهجات أو السياسى اللغوية مثلا في هذا البلد أو ذاك . إن بعض المتمرسين في الكتابة وأقصد هنا الكتابة الصحفية يعالجون مجموعة من المشاكل والأحداث بطريقة نشعر فيها كقارئين مطاردين أو ملاحقين من طرف جهات غير محددة جغرافيا وفي بعض الأحيان تاريخيا ، أو يريدون أن يضعوا أنفسهم في موقف القلق على الوضع علما أنهم من الجيل الذي كما يقولون وأعتذر عن هذه الجملة : " وجدوها مطهية " ، ولذلك نجدهم عدائيين ومثوثرين الشيء الذي يسقطهم من حيث لا يشعرون في انتقام شنيع تكون ضحيتها اللغة العربية وذلك بتوظيف مجاني لكلمات باللهجة العامية . من شأن الذين يريدون تكريس الكتابة باللهجة العامية أو ما يسمونه بالأدب الطليق أقول اللهجة وليس اللغة أن يدركوا أن اللغة العربية ليست في حاجة إلى من يدافع عنها من أمثالي وأمثالك ، ومن شأني ألا يكون لي حظ إبداء رأي في الموضوع ، لأن اللغة العربية وقواعدها موسومة بالدقة والإعجاز الذي لا نجده في لغات العالم الأخرى، وذلك بشهادة جهابذة الاستشراق والاستعراب والاستغراب على حد سواء كما يعلم الجميع، لأن قواعدها وركائزها أخذت من القاموس الإلهي الكبير أعني : " القرآن الكريم "، وليس العكس كما يعتقد البعض ، ومن تم صنعت لنا علوما أصبحت قائمة الذات كعلم اللغة وفقه اللغة واللسانيات وعلوم دقيقة كالسيميولوجيا وهلم جرا.... تم لنفترض جدلا أننا نشاهد شريطا عربيا تاريخيا من مستوى عال، يشارك فيه كل الفنانين العرب، وأنت تشاهد مشهدا جميلا فإذا بأحد الفنانين ينطق بلهجته المحلية ، كيف سيكون موقفك ؟ من دون شك كمتفرج بسيط لا تتوفر على آليات النقد الأدبي ستعلق على كاتب السيناريو ومخرج الشريط حين خروجك من قاعة العرض، بقولك : " إن هذا الشريط كان رائعا ، إلا أن توظيف تلك اللهجة المحلية وبتلك الطريقة لم يكن في محله " أو ستقول : " من غير المستساغ توظيف مثل هاته الحوارات في مثل هاته الأشرطة " ، ومن تم ألا ترى معي بأن ذلك ما يحدث لصاحبة الجلالة في مثل ظروفنا الحالية . وأعود لكي أقول ، أنه تقديسا للغة العربية التي هي لغة القرآن كنا كلما أدخلنا كلمة دخيلة عليها إلا ووضعناها بين قوسين ، ولعل الأقلام المخلصة للأمانة العلمية واحتراما للغة الأم كانت تحدو نفس الحدو ، الشي الذي أصبحت تفتقده بعض لا أقول الأقلام لأن أصحابها في حاجة إلى مبراة، حتى يشحدوا أقلامهم وأفكارهم لكي تصبح ذات فائدة ، إذ مازالت الكتابات الحالية تكثر من الكلمات الدخيلة الشيء الذي يعرضها لكثرة الأقواس، ومن تم يمكن أن تصبح مقالاتهم كلها بأفكارها ومضامينها بين قوسين ، كما أنه من شأن اختلاط الفصيح بالدخيل أن يخلق لنا لغة أخرى مستنسخة ومهجنة ومشوهة، يمكن أن نصطلح عليها باللغة " العرامية " ومن تم تصبح على الشكل الآتي : اللغة العربية + اللهجة العامية = العر+ امية بمعنى اللغة " العُرَامِيَة " ، أي لغة " العرام " بضم العين وتشديد الراء وفتحها وكسر الميم، و " العرام " عندنا في المغرب هو التضخم الذي يحصل لبعض السلع الشيء الذي يجعلها عرضة للأثمنة الرخيصة، بنفس الطريقة التي كنا نسمي بها اختلاط اللغة العربية باللغة الفرنسية " بالعرنسية " . تم إنه من شأن التركيز على اللهجة العامية وأقصد " العروبية " وأقصد هنا لهجة البدو والقرى، أن يحيي لنا بعض النعرات العرقية كما عشنا ذلك مع ما كان يسمى بالظهير البربري الذي حاول من غير جدوى تفرقة المغاربة فيما بينهم من خلال فصل اللهجات والأعراف ، ولأن اللغة العربية هي اللغة التي وحدت شرائح مجتمعنا بأعراقه وقبائله في لحظة حرجة من تاريخنا الوطني، بل وفي فترات من تاريخ الأمة العربية كادت توحد العرب حينما تم التركيز والحديث عن القومية العربية . إنني أكاد أجزم بأن الداعين إلى ما يمكن تسميته ب " الأدب الطليق " ، هم أناس بخلاء شحيحون ناكرون لجميل خير لغة أخرجت لخير أمة لا ينضب معينها ، وليعلم أولئك الأتباع المحترمين الذين يعاصرون المهدي المتظر، أنهم قد يعجلون بهدم منبرهم الذي سمح لهم بهامش كبير من التعبير : كيف شاؤوا ومتى شاؤوا لأنه يثق فيهم ، ولكن احتاطوا لأنه يوما من الأيام قد تحولون منبركم إلى سوق باعتماد لغة السوق كما قال بذلك أحد الأتباع خلال النقاشات الساخنة حول الموضوع أي قبل أن ينهض صاحبنا من سباته الذي يحلم فيه بمعاينة المهدي المنتظر، مع اعتقادي الكامل بأن هذا الوصف لن يقبله من وجه إليه، وقد لا يعلم كيف زل مقص الرقابة لدى هيئة التحرير وسمح لهاته الكلمة أن تنشر. إنك أيها الشباب الغاضب على حقبة تاريخية لم تعشها ولكن سمعت عنها ومازالت تعاين ضحاياها ، تتحمل مسؤولية غضبك المطبق الذي قد يعجل بسبب كتاباتك المتهورة الحاملة لفيروس الكلمات غير النظيفة قد تفقد طرفا من أطراف من هويتك التي قد لا تعوض يوما ما ، يكفي أنك بالأمس القريب فقدت ركائز أغنيتك العربية بمباركة من أناس دخلاء على الميدان، وبدعم كبير من جهات تكاد تكون شارونية الأصل ولكن متجنسة بجنسية عربية وها أنت تلاحظ نتيجة ذلك ، يكفيك أنك أصبحت تعيش عولمة دخيلة عنك وعن ثوابتك ، نخرت بناتنا وأبناءنا ، ولا نريد أن تنخر لغتنا ، يكفينا ويكفينا.... وهلم جرا . شتنبر 2007