مع بزوغ الخيوط الأولى من الصباح، يكون بوجمعة قد شق طريقه صوب مكان العمل وكله أمل في أن يكون حظه اليوم أفضل من أمس. قبل أن يشرع في العمل، يلوي بوجمعة جسده المنهك في "بذلة الشغل"، وهي عبارة عن خرق بالية سوداء اللون.. أما شعره الذي اشتعل شيبا فيغطيه بقبعة قديمة يكون قد ثبت فوقها مصباحا يستعين بضوئه الخافت على الحفر تحت أعماق الأرض طيلة اليوم. بمساعدة 3 من "المانوفريا" (عمال المناجم)، يلف بوجمعة حول فخديه حبلا متينا يمر عبر بكرة مثبتة بخشبة فوق حافة بئر ضيقة. يتكلف المانوفريا الثلاثة بإمساك طرف الحبل بينما يقترب بوجمعة من "الساندريا" (البئر) مبديا استعداده لخوض مغامرة النزول إلى تلك الحفرة التي يلقي منظرها الأسود والضيق هلعا وخوفا في النفوس. "مافيدنا ما نعملو.. هذا ما كان.."، هكذا برّر بوجمعة، الذي يبلغ من العمر 59 سنة، امتهانه لهذا العمل الشاق بالرغم من تقدمه في السن. وأضاف وهو يشحن جيوب بذلته بمعدات بسيطة يستخدمها للحفر والتنقيب عن الفحم الحجري تحت الأرض، أنه قضى نصف حياته ك"مينور" أي عامل مناجم، ولم يجد مهنة أخرى يسترزق بها بعد إغلاق شركة "مفاحم جرادة" أبوابها سوى مواصلة نفس العمل وإن بطريقة غير قانونية، مؤكدا أنه لو وجد بديلا يغنيه عن المخاطرة بحياته لما استمر في هذه الحرفة يوما واحدا. يقضي بوجمعة، ابن مدينة جرادة الذي يكفل عائلة تتكون من أبوين مسنين وزوجة و4 أبناء متمدرسين، كل يوم باستثناء السبت والآحاد، قرابة 10 ساعات تحت أعماق الأرض من أجل ملء بضعة أكياس من الفحم الحجري وبيعه لوسطاء مقابل دريهمات قليلة. وبالرغم من مشقة العمل وقلة الربح المادي، فإن الملل لا يجد طريقا إلى قلب بوجمعة الذي لا يكف عن ترديد "الشكر والحمد لله على كل حال". وفي ما يشبه الكلمة الأخيرة التي ينطق بها المُقبل على الانتحار، رفع بوجمعة رأسه إلى السماء معبرا عن رجائه وأمله في أن يتحرك المسؤولون بالمدينة لفعل شيء ما من أجل إعفاء السكان من الإلقاء بأنفسهم إلى التهلكة في آبار الموت بحثا عن مورد رزق.. ثم هوى داخل الحفرة الضيقة مقدما رجليه ومستعينا بالحبل الذي يمسكه 3 من "المانوفريا" لمساعدته على النزول إلى القعر العميق. آبار الموت ليس بوجمعة وحده من أجبرته قساوة العيش على الاشتغال في هذا الميدان الشاق، بل كثيرون من سكان جرادة البالغ تعدادها حوالي 44 ألف نسمة، تدفعهم قلة فرص الشغل بالمدينة إلى المخاطرة بأنفسهم من خلال خوض أعماق الأرض لاستخراج مادة الفحم الحجري معتمدين على تقنيات بدائية، ودون أية وقاية أو رعاية صحية أو ضمان اجتماعي... خلف المركب الحراري المتخصص في إنتاج الطاقة الكهربائية، الذي يتوسط حي حاسي بلال (غرب مدينة جرادة)، تنتشر عشرات "السندريات" (آبار الفحم) وكل واحدة من هذه الآبار يمتلكها أحد المستثمرين الذين يقومون بتشغيل ما بين 3 إلى 7 عمال، حيث يترأسهم "المينور"، العامل المنجمي المتخصص في قلع الفحم الحجري من باطن الأرض، و"المانوفريا" الذين يساعدونه في نقل المحصول من عمق البئر إلى سطح الأرض باستخدام الحبال والبكرة المثبتة فوق فوهة "الساندريا". بالقرب من إحدى هذه الآبار الكثيرة، صادفنا محمد، الذي كان يجلس القرفصاء بجانب "حاسي" في ملكيته، ويدخن بشراهة وسط ضجيج محركين اثنين يقومان بشفط المياه الباطنية من أعماق بئر الفحم عبر خرطومين واسعين إلى سطح الأرض، بغرض ترك المجال ل"المينور" لكي ينقب عن الفحم دون أن يغرق في المياه. على عكس بوجمعة الذي قضى جزءا كبيرا من حياته في هذه الحرفة، فإن محمد (38 سنة) حديث عهد بالانضمام إلى هذا الميدان، إذ لم يمض على التحاقه بآبار الموت سوى 3 أشهر فقط. بنبرة حزينة يحكي محمد كيف وجد نفسه خاوي الوفاض -"ربنا خلقتنا" كما قال وهو يضرب يدا بأخرى- بعد 9 سنوات قضاها كعامل في حقول إسبانيا، موضحا أن الأزمة الاقتصادية العالمية أفقدته عمله وأجبرته على العودة إلى مسقط رأسه بحاسي بلال. وأمام متطلبات العيش الكثيرة وانعدام فرص شغل بالمنطقة، يقول محمد إنه لم يجد حلا آخر غير الاقتداء بسابقيه من المهاجرين العائدين –قسرا- من "نعيم أوروبا" إلى جحيم آبار الفحم، بحسب تعبير محمد. ويؤكد المتحدث أن عددا غير يسير من المهاجرين العائدين من أوروبا أصبحوا اليوم عمالا منجميين في "الحواسي" المتشرة بكثرة بضواحي مدينة جرادة، حيث يعملون كمياومين لا تزيد أجرة أحسنهم حظا عن 100 درهم في اليوم. لكن محمد يعتبر نفسه أكثر حظا من الآخرين الذين يغامرون بحيواتهم تحت باطن الأرض من أجل لقمة العيش، لكونه لا يضطر إلى فعل ذلك ما دام يشغل معه 7 عمال يقومون باستخراج الفحم مقابل أجور تتراوح ما بين 70 و150 درهما لليوم، حسب مهمة كل عامل. يقول محمد موضحا أن "المينور" يكسب من عمله ثلث المحصول، أي أنه إذا تمكن من استخراج 15 "خنشة" أو كيسا من الفحم فإن له 5 أكياس منها، بينما تؤدى أجور باقي العمال وجميع المصاريف الأخرى من الربح الصافي لصاحب "الحاسي". عمل شاق وربح قليل تعمل في آبار الفحم فئات مختلفة من الناس: شباب وكهول وشيوخ وأطفال قاصرين وحتى النساء. كل يعمل وفق قدرته وطاقته، والقاسم المشترك بينهم جميعا هو الاضطرار. عائدات الفحم لا تعيش منها أسر الطبقة العاملة فقط، بل يساهم هذا النشاط غير المنظم في تحريك عجلة الاقتصاد في المدينة بأكملها، بحسب تعبير ميلود، وهو رجل في الستينات من عمره يعمل حارسا لبعض "الساندريات" في منطقة حاسي بلال منذ حصوله على التقاعد من سلك القوات المساعدة. ويمضي ميلود الذي أنهك الزمن جسده الهزيل محاولا تبرير كلامه، بالقول: "إن هذا العمل، وإن كانت عائداته غير منتظمة، فإنها تساهم في ترويج الحركة التجارية في المدينة".. فجأة يلتفت المتحدث حواليه محاولا مغالبة نوبة من السعال الحاد، وأشار بإحدى يديه إلى آلات حفر (كومبريسونات) ورافعات أثقال منتشرة في المكان إلى جانب محركات تستخدم لشفط المياه الباطنية من أعماق الأنفاق المنجمية... هنا قاطعه محمد ليؤكد لنا أن أصحاب "الحواسي" يضطرون إلى كراء هذه الآليات من أصحابها لكي تسهل على العمال عملية الحفر واستخراج الفحم. يقول موضحا: "تكلفنا كل آلة من هذه الآلات مبلغ 200 درهم كل يوم، دون احتساب ما تستهلكه من بنزين.."، وهي تكلفة باهضة حسب محمد الذي يكتري منذ 10 أيام آلة حفر ورافعة ومحركين لشفط المياه، وهو ما كلفه أزيد من 8000 آلاف درهم خلال هذه الفترة.. الشيء الذي يعتبره محمد خسارة بالنسبة إليه هو الذي لا يتجاوز معدل محصوله من الأكياس 20 كيسا في اليوم، أي حوالي 1200 درهم، لكنه أكد أنه لا يتبقى له من هذا المبلغ أي شيء بعد أن يؤدي أجور العمال ومصاريف كراء الآلات. يقوم عمال المناجم بحفر الآبار بشكل عشوائي، إذ لا يتوفرون على وسائل لاكتشاف أماكن تواجد الفحم. ويؤكد محمد أنه اختار الحفر في هذا الموقع فقط لأنه يضم عدة آبار أخرى، لكن الوصول إلى الفحم تطلب منه الحفر مدة شهرين حيث وجده بعد مشقة تحت عمق 29 مترا، بعدما أنفق من أجل ذلك أموالا طائلة خلال تلك الفترة. ويحكي المتحدث أن مالك الحاسي الذي يجاوره على الجبل، كلفه حفر البئر مبلغا ينيف عن 4 ملايين سنتيم، مضيفا أنه "باع كل ما يملك وصرفه على أمل أن يصل إلى الفحم فلا يضيع مجهوده سدى، لكنه حفر 42 مترا ولم يعثر على شيء.. وهو اليوم مضطر للعمل لدى الآخرين مقابل 100 درهم كل يوم..". واستطرد محمد قائلا إنه في حالات كثيرة يتم العثور على كميات قليلة من الفحم وأحيانا بجودة رديئة وغير مقبولة.. وأضاف أنه في أحيان أخرى يفاجئ العمال بالمياه تتسرب إلى أبارهم من الفرش المائية الباطنية، مما يعرقل عملهم.. فتتكرر المحاولة مرات عديدة في آبار أخرى إلى أن يحالف الحظ العمال بالوصول إلى طبقات الفحم المناسبة لاستمرار العمل. ولا ينكر محمد أن هذا الوضع يشعره بالقلق ويحتم عليه البحث عن مورد رزق آخر. لكنه يتحدث وكله أمل في أن تتحسن الأمور وتختفي المياه الباطنية التي تعرقل عمل "المينور" في قعر "الحاسي"، وتكبد صاحب المشروع خسارة 400 درهم كل يوم. سماسرة الفحم الحجري لا تتعدى المسافة بين كل بئر وأخرى 10 أمتار. البئر أو "الساندريا" عبارة عن حفرة لا يتجاوز قطرها مترا ويبلغ عمقها ما بين 30 إلى 40 مترا تحث سطح الأرض، حيث يتم الحفر في اتجاه عمودي لا يتعدى نصف متر. طيلة 10 ساعات من العمل المتواصل، يتم استخراج ما تيسّر من كميات الفحم الحجري بواسطة قفة، ويتم صبه إما داخل "خناشي" أو مراكمته على شكل "صوبات" (خليط الفحم وخامه)، حيث تخضع هذه الكميات لعملية التصفية خارج البئر بوسائل بدائية من أجل استخلاص صافي الفحم منها. وتباع هذه الأكياس التي يتراوح وزنها ما بين 75 و100 كيلوغراما، لوسطاء يملكون رخص الاستغلال وتسويق هذه المادة، مقابل 60 درهما ل"الخنشة"، في الوقت الذي يبيعها هؤلاء الوسطاء للمعامل والشركات خارج مدينة جرادة بأسعار مرتفعة تصل إلى 300 درهم للكيلوغرام الواحد.. وهو السبب الذي يجعل العمال المنجميين في مفاحم جرادة يصفون هؤلاء الوسطاء، وهم من ذوي النفوذ بالمدينة، ب"المافيا" و"اللصوص" الذين يغتنون ويراكمون ثرواتهم على حساب بؤس الطبقة العاملة... مخاطر العمل كانت الساعة تشير إلى الرابعة والنصف عصرا عندما صعد بوجمعة من النفق بمساعدة بقية العمال، بعدما قضى فيه حوالي 10 ساعات لم يفصل بينها إلا فترة تناوله لوجبة الغذاء. بوجمعة الذي يعتبر نفسه كمن بُعث من قبره وأعطي له عمر جديد، كان أول ما نطق به لدى صعوده هو "الشكر والحمد لله على السلامة"، ثم طفق يستبدل ثيابه السوداء المبتلة بأخرى نظيفة، ويغسل وجهه الذي استحال لونه إلى سواد قاتم. وعن سؤال حول المخاطر التي تواجه العمال المنجميين خلال عملهم، أجاب بوجمعة بأن الأمر كله خطر.. ولكي يوضح كلامه شرع يقارن بين كيف كان يعمل أيام شركة المفاحم وبين الطرق التي يشتغل بها اليوم. قال: "كنا نستخدم عربات وسككا وكابلات حديدية، وكنا نرتدي بذلا خاصة بالعمل المنجمي وخوذات متماسكة بها مصابيح نستنير بها ونرتدي قفازات ونضع واقيات مصفية للغبار على وجوهنا بالإضافة إلى نظارات خاصة.. لكن اليوم اختفت كل هذه الوسائل فأصبح العمال يواجهون مخاطر الأنفاق عزلا وبدون أية حماية..". وقاطعه حميد، أحد "المانوفريا"، وهو شاب في العشرينات من عمره، مشيرا إلى أن العمال المنجميين يتعرضون في آبار الفحم الحجري إلى الإصابة بالعاهات المستديمة وبالموت المفاجئ إثر انهيار دعامات الآبار أو فيضانات المياه الباطنية التي تباغتهم ولا تترك لهم المجال للنجاة.. وعلق بلهجة حزينة قائلا: "في كل عام يسقط منا قتلى وجرحى وذووا عاهات مستديمة.. لكن ومع ذلك تستمر وثيرة العمل بحثا عن الخبز..". ويعود بوجمعة ليضيف أن أخطر ما يواجهه العمال المنجميون هو غبار الفحم الكثيف، الذي يطلق عليه اسم "السيليس"، ذلك لأنه يسبب داء "السيليكوز" لمستنشقيه ويهدد رئاتهم بالتدمير وبالتالي التسبب لهم في الوفاة، بحسب تعبير بوجمعة الذي أكد لنا أنه فقد الكثير من رفاقه بسبب هذا الداء الذي وصفه بالفتاك. ودسّ بوجمعة في جيبه ثمن أجرته ثم انصرف بخطوات متثاقلة باتجاه بيته ليستريح من تعب يوم كامل قضاه في باطن الأرض.. في انتظار يوم آخر لا يعرف ما قد يخبئه له القدر فيه. من يضع العصا في عجلة تنمية مدينة جرادة؟ بدت مباني وشوارع وأزقة مدينة جرادة، التي تقع على بعد 60 كيلومترا جنوب العاصمة الشرقيةوجدة، يوم الجمعة الماضي، في أبهى حلة بعد أن زارها الملك محمد السادس، يوم الخميس، حيث دشن بها المحطة الطرقية الجديدة إلى جانب قرية الصناع التقليديين. وتتكون المدينة العمالية من عدة أحياء أشهرها الحي الفرنسي والحي المغربي. وقد أطلق الأول على حي المهندسين الذي كان يقطنه المهندسون الفرنسيون إبان فترة عمل مناجم جرادة، ويوجد في مدخل المدينة، بينما الحي الثاني كان خاصا بالعمال المغاربة الذي يتوسط المدينة البالغة مساحتها 9300 كلم مربع. ويوجد في الجهة الغربية من المدينة جبل شاهق أسود يطلق عليه محليا اسم "الرُّومبلي"، وهو عبارة عن ركام من مخلفات "الشاربون" (الفحم الحجري)، وقد أصبح معلمة تشتهر به المدينة إلى جانب مدخنتي المركب الحراري المتخصص في إنتاج الطاقة الكهربائية، الذي شيد وسط المدينة عقب اكتشاف حوض الفحم الحجري بها في يناير من سنة 1927. وفي خطوة أشبه بمحاولة قطع العلاقة بين ماضي المدينة وحاضرها، عمد مسؤولو جرادة إلى استبدال أسماء الأحياء القديمة بأخرى جديدة، وهكذا أصبح حي المهندسين يحمل اسم حي ابن رشد، وأطلق على حي الأطر حي الرازي، فيما أصبح حي العمال يعرف بحي الأمل... في نظر بوخيار، وهو بقال في الخمسينات من عمره، معروف وسط مدينة جرادة، فإن هذه الأخيرة تشبه امرأة كانت متزوجة برجل ثري، لكن بعد وفاة الزوج ضاع كل شيء فوجدت نفسها بلا معيل ولا مورد رزق... سبب هذا التشبيه -بحسب بوخيار- يرجع إلى كون مدينة جرادة تعاني من الفقر والتهميش منذ إغلاق مناجم الفحم، سنة 1999، التي كانت تشغل قرابة 8 آلاف شخص وتساهم في توفير نسبة هامة من الطاقة الوطنية. ويلقي أبناء المدينة العمالية باللائمة على مسؤوليها، حيث يحملونهم مسؤولية عرقلة نمو المدينة التي لم تستفد حسبهم من فترة الازدهار الذي شهدته خلال نصف قرن من الحركة النشيطة، الشيء الذي تسبب في تدهور وضعيتها على جميع النواحي بعد انصراف الطبقة العاملة عنها قبل حوالي 10 سنوات. ويرى رشيد بشيري، رئيس مركز حقوق الناس بجرادة، أن مسؤولي المدينة ومنتخبيها لم يقدموا الشيء الكثير من أجل إنقاذ جرادة من البؤس الذي تعيشه، لكنه استطرد مضيفا أنه لمس في السنوات الأخيرة بعض الجهود للدفع بعجلة المدينة للتحرك إلى الأمام. ولخص بشيري هذه الجهود المبذولة في بناء بعض المرافق العمومية وتحديث المباني العمرانية.